أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الصمت مرآة لقوة الإرادة















المزيد.....

الصمت مرآة لقوة الإرادة


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 10:16
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عبد الجبار الرفاعي
إرادة الصمت تتطلب من الإنسان أن يروض ذاته، ويعيد تفريغ انفعالاته في مسارات لا تؤذيه ولا تؤذي غيره. كلما امتلك الإنسان قدرة أوسع على التحكم بانفعالاته، امتلك قدرة أعمق على التحكم بكلامه، وعلى إيقاظ الصمت الذي يكرس الحضور الواعي والامتناع المدروس. التحكم بالانفعالات يدل على ترويض متواصل للشخصية، وعلى ذكاء في تصريف الطاقات المكبوتة نحو منافذ آمنة، لا تترك جروحًا في النفس للإنسان أو لغيره. الصمت الذي ينبع من هذا الترويض لا يولد من ضعف، بل ينبع من قوة داخلية تنمو وتتجذر في لحظات التأمل، وتتحكم باللسان في لحظات التوتر، وتتجلى في المواقف التي تتطلب وعيًا لا ينفعل، وحكمة تحمي الإنسان من الطيش والنزق، وقرارًا لا يُملى من الخارج. مَن يجيد الصمت لا ينسحب من الحياة، بل يعيد بناء كيفية حضوره فيها، ويعيد تشكيل نمط وجوده في العالم، ويمنح ذاته فرصة لوعي أعمق، وتفاعل أنضج، واتخاذ مواقف لا يندم عليها.
الصمت غالبًا أصدق من الكلام، وأقرب إلى جوهر الإنسان الذي ينشد سلام الباطن. الإنصات موقف ذكي، يعكس حضورًا كاملًا، ويقظة لا تشتتها الرغبة في الرد أو الاستعراض أو الانتصار. حين ينصت الإنسان بهدوء يمنح للآخر فرصة في أن يكون، ويعطيه فرصة ليكشف عن ذاته، ويتيح للمعنى أن يتوالد في فضاء مشترك لا يهيمن عليه أحد. الإنصات فضيلة وجودية تعيد ترتيب صلة الذات بالعالم، وتعلّم الإنسان كيف ينصت إلى ذاته وصوته الداخلي، وما يعتمل في أعماقه من أسئلة مؤجلة، وأشواق لا تجد لغتها. في الإنصات يتعلّم الإنسان أن المعنى لا يُصاغ دائمًا بالكلمات، وأن الحقائق لا تدرك إلا حين يتوقف الضجيج، ويستطيع الإنسان أن يصغى إلى ما يتردد في صمت الكائنات، وفي ارتجاف القلب حين يتذوق المعاني التي لا تتسع لها الكلمات.
الصمت استراحة الذهن من الغرق بضوضاء الخارج، وعودة الإنسان إلى سبر أغوار ذاته، حيث تستيقظ منابع الإلهام والفاعلية التي طالما غمرها الضجيج. لا يقتصر الصمت على التوقف عن الكلام، بل يتجلى في فعل إرادي يتطلب عزيمة لا تقهر. إرادة الصمت أصعب من إرادة الكلام، وأعمق من مجرد ضبط اللسان، الإنسان حين يتكلم ينفعل وحين يصمت يتأمل ويشعر بالتواصل الوجودي مع ما حوله. الصمت يعكس قدرة الإنسان على التحكم بانفعالاته، وتحكيم العقل في لحظات التوتر. الصمت لا يعني انسحابًا وهروبًا، بل يعني انتصارًا داخليًا على الضجيج. الصمت ليس ضعفًا ولا انكفاء، وإنما هو تعبير عن يقظة تضيء الوعي. إنه عبور إلى ما وراء الظاهر، إلى حيث تتكلم الأشياء من دون صوت، وتضيء المعاني من غير ألفاظ. لا يتوقف الصمت عند حدود الامتناع عن النطق، إنما يتجسد في فعل إرادي يعكس عزيمة لا تنكسر، وإرادة لا تقهر. يستند الصمت إلى وعي يتجاوز الحاجة للكلام، وحاجة للتوغل في أعماق الذات. إرادة الصمت تنبع من يقظة العقل، وتغلب الإرادة لحظة الغضب، وقدرة على تحكم الإنسان بذاته حين يكون في مواجهتها، لا في مواجهة غيره.
بالصمت يتذوق الإنسان سكينة الروح، التي تجعله يرى الوجود بعيون مضيئة، ويشعر أن المعنى لا يُقتنص من كثرة الكلام، وإنما يولد من لحظة إنصات يلتقي فيها الفكر بالشعور، فيصير الصمت مرآة تعكس ما غاب عن البصر من أنوار البصيرة. هكذا يتحول الصمت إلى فعل إنساني يحرر الوعي من أسر العادة والتكرار، ويعيد للإنسان قدرته على رؤية ما وراء المألوف. بالصمت يكتشف الإنسان أن ضجيج الخارج صدى لاضطراب الداخل، وأن سلام العالم يبدأ من سلامة القلب، فيغدو الصمت طريقًا للسلام، وشجاعة تمكّن الإنسان من مواجهة ذاته.
حين يختار الإنسان الصمت، لا يهرب من العالم، بل يتهيأ للإنصات لما لا يسمع في صخب الكلام، ويمنح نفسه فرصة للعودة إلى ذاته، وايقاظ ما أهمله في أعماقه. الصمت لا يعني الخواء بل الامتلاء، إنه امتلاء بالمعنى، واستعداد لاستقبال ما لا يُدرك إلا في هدوء السكينة. في الصمت تتسع المسافة بين الفكرة ورد الفعل، إذ يجد الإنسان فسحة للتأمل، ومجالًا لإعادة النظر، وفرصة لتصفية الداخل من ردود أفعال التسرع والانفعال. الصمت الحكيم يولد في فضاء الصلة العميقة بالوجود، ويترسخ حين يتعلم الإنسان ألا يقول كل ما يعرف، ولا يرد على كل ما يسمع، ولا ينفعل بكل ما يثير انفعاله. في هذه الحالة يغدو الصمت موقفًا يعكس الحكمة، ومظهرًا من مظاهر السلام، وتجليًا لوعي لا يحتاج إلى الصخب كي يثبت حضوره، ولا إلى الجدل كي يبرر وجوده. الصمت الذي ينبع من وعي الإنسان بذاته، ومن إدراكه لحدود الكلام، هو صمت يحرره من الحاجة إلى الانتصار في كل حوار، ويمنحه طمأنينة لا يتلقاها من كثير من الكلمات.
مَن ينتصر حتى في المعارك، ليس من يصرخ أعلى أو يضرب أسرع، بل مَن يملك القدرة على تهدئة عواصفه الداخلية، وقراءة اللحظة الحرجة بوعي، سواء كانت لحظة حرب أو لحظة سلام. ومَن يدرك ما يتطلبه الواقع الذي يعيش فيه، ويبرع في حسابات الأرباح والخسائر، ويحسن إدارة التسويات حين لا يكون الانتصار ممكنًا، لئلا يخسر كل شيء. الانتصار الحقيقي يتحقق بالقدرة على التماسك في لحظة الانفلات، واتخاذ القرار الذي يحفظ الكرامة ويقلل الخسائر، ويمنح الإنسان فرصة جديدة للبدء من دون أن ينهار كل شيء. مَن يملك وعي اللحظة، ويقرأ ما وراء ظاهرها، يستطيع أن يختار متى يتقدم ومتى يتراجع، ومتى يصمت ومتى يتكلم، ومتى يربح بالصبر ما لا يربحه بالعنف. في هذا المقام، لا يكون الانتصار مجرد غلبة، بل يكون حكمة في إدارة انفعالات الذات، وبصيرة في التعامل مع الواقع، وحنكة في صون ما تبقى، حين لا يعود النصر ممكنًا.
الصمت يدل على موقف حيال الواقع، يمكّن الإنسان من أن يكون فاعلًا لا منفعلًا، حكيمًا لا متهورًا، حاضرًا بكامل طاقته الذهنية والنفسية، لا غارقًا في ردود الأفعال والغضب. حين يختار الإنسان الصمت فإنه لا ينسحب من الواقع، بل يعيد تنظيم حضوره فيه، ويتهيّأ لرؤية العالم في العمق لا في السطح، ويتعامل مع ذاته كما يتعامل مع خصم نبيل: بذكاء، ويقظة. في هذا المقام، يغدو الصمت فعلًا من أفعال الوعي، ومظهرًا من مظاهر النضج، وتجليًا لقدرة الإنسان على أن يوازن بين ما يشعر به وما يعبّر عنه، وبين ما يراه وما يقوله، وبين ما يختلج في داخله وما يختار أن يظهره.
الصمت لا يعني الغياب عن الحياة، بل يدل على حضور مختلف فيها، حضور لا يحتاج الإنسان إلى ضجيج ليؤكد ذاته، ولا إلى ردود حادةكي يبرر موقفه، بل يكفيه أن يصغي إلى المعاني التي لا تنطق بها الألسنة، ويتأمل الإشارات التي لا تبثها الكلمات، ويتلقّى ما لا يصل عبر قنوات التواصل المألوفة. في لحظات التوتر ينتصر مَن يصمت ليدرك الموقف المطلوب، ويصوغ الموقف في ضوء ما يفرضه الوعي والواقع. الصمت بهذا المعنى لا يعكس ضعفًا، بل يكشف عن قوة داخلية لا يمتلكها إلا مَن تمرّن على الإنصات، وتدرب على التجلي بلا صخب، وتعلّم كيف يحضر من دون أن يطغى، ويؤثّر في غيره من دون أن يكرهه على فعل معين.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أنين الأرض من استباحة مواردها
- يتطور النحو عند المخزومي بتطور اللغة
- الصمت فعل مقاومة للثرثرة والابتذال
- تغلغل المنطق في النحو وعلوم اللغة
- مغامرة تأسيس دار نشر للكتاب الورقي
- اللغة مرآة للدين والهوية والثقافة
- تتعدد اللغات بتنوع سياقات استعمالها ومجالات تداولها
- تحديات اللغة في العصر الرقمي
- اغتراب اللغة عن الواقع اغتراب للإنسان عنها
- كتاب دروب المعنى
- تجديد الرؤية للعالم يمر عبر اللغة
- عجز العلوم عن قراءة لغة الغيب
- الأسماء الإلهية في سياق لغة الغيب
- لغة الغيب لغة رمزية
- لغة الغيب غير لغة العلم
- رؤيا الغيب في لغة الدين
- الهوية الوطنية في شِراك الأيديولوجيا
- الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
- الهوية المغلقة والمعارك على الماضي
- الهوية المغلقة تتلاعب بالمعرفة


المزيد.....




- تصريحات فاديفول حول عودة السوريين تشعل الجدل داخل الاتحاد ال ...
- قائد الثورة: الخلاف بين الجمهورية الإسلامية وامريكا جوهري، و ...
- الاحتلال يعتقل خمسة مواطنين في سلفيت ويمنع المزارعين من قطف ...
- روي كاساغراندا: تحالف الصهيونيتين اليهودية والمسيحية صفقة مع ...
- اجتماع لوزراء خارجية دول عربية وإسلامية في إسطنبول لبحث خطة ...
- علماء الإسلام بإثيوبيا.. حماة الهوية في قلب الدولة الأرثوذكس ...
- ترامب يلوّح بالتدخل العسكري في نيجيريا لحماية المسيحيين.. وم ...
- تعايش سلمي: اليهود والمسلمون في البوسنة والهرسك
- ترامب يهدد نيجيريا عسكرياً بذريعة حماية المسيحيين
- ترامب يطلب من الجيش الاستعداد لـ -تحرك- ضد مسلحين إسلاميين ف ...


المزيد.....

- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الصمت مرآة لقوة الإرادة