|
|
بين العام سام والدب
رافع بن محفوظ
الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 16:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
انتهت الحرب العالمية الثانية مفرزة ظهور قوتين عالميتين جديدتين ستتربعان على عرش العالم خلفا للقوى الاستعمارية القديمة فكانت الولايات المتحدة تعلن نفسها حامية الديمقراطيات والحريات والحقوق في مواجهة الاتحاد السوفياتي الذي كان يقدم نفسه على أنه داعم حركات التحرر الوطني ومناهض للقوى الاستعمارية بالرغم من أن نده الأهم لم يكن له ماض استعماري إلا أنه وبحكم تقارب الأنظمة السياسية و الثقافية بينهم كان حلفاءه الأقرب هم دول أوربا الغربية في حين أخضع الاتحاد السوفياتي ضمن حلفه دولا من أوربا الشرقية وبعض الأنظمة الكليانية في آسيا وإفريقيا. وحين انهار حائط برلين تشكل عالم آحادي الاستقطاب تتصدر فيه الولايات المتحدة المشهد فهز الكثيرين الحنين إلى أيام الحرب الباردة التي لم تكن الفترة الخالية من الحيف والمآسي و لم تكن فترة أفضل من لاحقتها فيما يتعلق بالعدالة الدولية. ثم ظهرت روسيا مجددا على الساحة الدولية دون تأسيس إيديولوجي معروف لكن بماض قريب يحن الكثيرون إليه مدججة بإرث مساهمات الاتحاد السوفياتي في دعم حركات التحرر الوطني. ولكن الصورة التي حاولت روسيا أن تقدمها للعالم باعتبارها البديل لغطرسة وتعنت الولايات المتحدة الأمريكية سرعان ما انهارت تحت وطأة التوازنات الجيوسياسية فإن كانت فلسطين حطمت صورة العام السام الداعم للحرية والحقوق فإن أكرانيا حطمت صورة الدب المنقذ. إن ازدواجية في المعايير لدى الدول الغربية التي ترفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان وتدافع عنها بشدة في سياقات معينة (كالحرب في أوكرانيا مثلاً)، ولكنها تتجاهل أو تدعم انتهاكات حقوق الإنسان والقوانين الدولية في سياق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إن الدعم غير المشروط الذي تقدمه دول غربية لإسرائيل، وتغاضيها عن الجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين، يكشف نفاقاً أخلاقياً ويسقط الأهلية الأخلاقية للغرب في أن يكون "وصياً" على قيم الحرية وحقوق الإنسان في العالم. فالأحداث في فلسطين (خاصةً في غزة) كشفت للعالم بشكل واسع هذا التناقض، مما أدى إلى فقدان الثقة في مصداقية المواقف الغربية بشأن حقوق الإنسان. من جهة أخرى فأن الغزو الروسي لأوكرانيا، وما رافقه من انتهاكات وقصف للمدنيين وتدمير، قد حطّم هذه الصورة "المنقذة" أو "البديلة الأخلاقية". فبدلاً من أن تكون روسيا قوة توزان الغرب على أساس مبادئ مختلفة، أظهرت نفسها كقوة تستخدم القوة العسكرية لانتهاك سيادة دولة أخرى، مما يقوض أي ادعاء لها بكونها بديلاً أخلاقياً أو منقذاً من الهيمنة الغربية. في بداية الغزو الروسي لأكرانيا عبر العديدون عن تعاطفهم ودعمهم الواسع لروسيا خاصة في مناطق العالم العربي والإسلامي وإفريقيا بالرغم من أن روسيا دولة معتدية لا يخفى عن أي شخص أنها تسعى لتحقيق مكاسب اقتصادية لنفسها بقوة السلاح، ولم يكن هذا التعاطف إلا نتيجة لمجموعة من الأسباب المعقدة والمتشابكة، والمتمثلة في: 1. الرفض لـ "ازدواجية المعايير" الغربية (العامل الأيديولوجي-الأخلاقي) هذا هو السبب الأبرز والأكثر شيوعاً، ترى الشعوب أن الدول الغربية، التي تدّعي أنها حامية لحقوق الإنسان والديمقراطية، مارست ازدواجية معايير صارخة فمن جهة تسارع لإدانة فورية وشاملة للغزو الروسي لأوكرانيا. ومن جهة أخرى فإن الصمت أو التغاضي أو الدعم المطلق للانتهاكات الاسرائيلية المستمرة في فلسطين (احتلال، استيطان، تهجير قسري وحصار). • تفعيل الغضب المكبوت: هذا التناقض أدى إلى تفعيل غضب مكبوت ضد الغرب، حيث اعتبر الكثيرون أن الوقوف مع روسيا، حتى لو كانت معتدية، هو وسيلة لـ "معاقبة" الغرب أو التعبير عن السخط من سياسته المتحيزة. • سردية الضحية: ينتشر شعور بأن الغرب يتعاطف فقط مع الضحايا الذين يشبهونه (الأوكرانيون "الأوروبيون")، بينما يتجاهل معاناة شعوب الجنوب (العرب والأفارقة) التي لا يراها بنفس الأهمية الإنسانية. 2. مناهضة الهيمنة الغربية والرغبة في "عالم متعدد الأقطاب" (العامل الجيوسياسي) • معاداة الإمبريالية الأمريكية/الناتو: يرى الكثيرون في المنطقة أن الحرب هي في جوهرها صراع روسي ضد توسع حلف الناتو والغطرسة الأمريكية، وليس مجرد صراع روسي-أوكراني. وبالتالي، فإن دعم روسيا هو دعم لتقويض هيمنة "القطب الواحد" (الولايات المتحدة) وإضعاف حلفائها. • البحث عن التوازن: هناك رغبة في رؤية نظام دولي متعدد الأقطاب، تعيد فيه روسيا التوازن للقوة العالمية، مما يمنح الدول الأصغر حجماً مساحة أكبر للمناورة وتحقيق مصالحها بعيداً عن ضغوط الغرب. 3. الإرث التاريخي والدبلوماسي (العامل التاريخي) • دعم الاتحاد السوفيتي السابق: يحمل الكثيرون في العالم العربي وإفريقيا ذكريات إيجابية للدعم الذي قدمه الاتحاد السوفيتي لحركات التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وتزويده الدول العربية بالأسلحة في صراعها ضد إسرائيل. بينما يُنظر إلى الدول الغربية على أنها كانت في صف القوى الاستعمارية. • عدم وجود تاريخ استعماري مباشر: على عكس القوى الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا)، لا تحمل روسيا تاريخاً استعمارياً مباشراً في معظم الدول العربية والإفريقية، مما يجعلها تبدو كشريك أفضل على المستوى الشعبي. • المواقف الدبلوماسية الروسية: في بعض القضايا (مثل الأزمة السورية أو القضية الفلسطينية)، استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد القرارات التي ترى فيها الدول العربية أنها تخدم المصالح الغربية أو الإسرائيلية، مما يعزز صورتها كـ "حليف" أو "صديق". 4. النموذج السياسي: يتعاطف بعض الأفراد والنخب في المنطقة مع نموذج "الرجل القوي" أو النظام غير الديمقراطي الذي يمثله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويرونه نموذجاً مستقراً وفعالاً بعيداً عن الفوضى السياسية التي عانى منها بعضهم بعد موجات "الربيع العربي". لكن قراءة أكثر دقة وواقعية للعلاقات التاريخية وتفاصيل الصراع العربي الإسرائيلي ودور الاتحاد السوفياتي, يدرك أن الحقيقة تختلف عن السردية الشائعة القائلة بأن الاتحاد السوفيتي كان حليفاً مثالياً للدول العربية على الدوام . ذلك أن دعم الاتحاد السوفيتي لإنشاء دولة إسرائيل هو حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها. • الاعتراف والتقسيم: كان الاتحاد السوفيتي أول دولة تعترف قانونياً بإسرائيل (بعد ثلاثة أيام فقط من إعلانها) وصوّت لصالح قرار تقسيم فلسطين رقم 181 في الأمم المتحدة عام 1947، قبل الولايات المتحدة، بهدف استراتيجي هو إضعاف النفوذ البريطاني في المنطقة. • الدعم العسكري المبكر: خلال حرب 1948، كان الدعم العسكري السوفيتي غير المباشر (عبر بيع الأسلحة التشيكوسلوفاكية لإسرائيل) حاسماً في تسليح وتدريب القوات الإسرائيلية الوليدة، خاصة بعد حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة. 2. أما فيما يتعلق بالدعم السوفيتي العسكري للدول العربية فقد كان محدودا ومدفوع الأجر، محدود بحيث أنه لا يمكن من تغيير موازين القوى في مواجهة اسرائيل خاصة على المستوى الجوي ومدفوع الأجر أي في إطار صفقات تجارية عكس الدعم العسكري الأمريكي لاسرائيل الذي كان في شكل هبات وهدايا. 3. الدعم الديموغرافي (المخزون البشري) إن هجرة اليهود من الاتحاد السوفيتي ثم من روسيا إلى إسرائيل تُعدّ بالفعل من أهم أشكال الدعم طويل المدى والأكثر تأثيراً في بناء وتثبيت قوة إسرائيل، حيث تجاوز تأثيرها الدعم العسكري والاقتصادي المباشر. إذ تعتبر الهجرة هي "بنك الدم الحقيقي" لإسرائيل، حيث أعداداً ضخمة من السكان الجدد لمواجهة التحدي الديموغرافي في الصراع مع الفلسطينيين والدول العربي. فهاجر حوالي مليون شخص من الاتحاد السوفيتي السابق وروسيا الحالية لاسرائيل بين عامي 1989 و2006. وقد شكّل هؤلاء المهاجرون، وبخاصة ذوو الكفاءات العالية، رافداً بشرياً كبيراً للآلة العسكرية الإسرائيلية، بتوفير مجندين وضباط وأفراد ذوي مستويات تعليمية ومهنية متقدمة. كما ضمت الموجات المهاجرة آلافاً من العلماء، الأطباء، المهندسين، والتقنيين ذوي كفاءات علمية متقدمة ناتجة عن نظام التعليم السوفيتي القوي في العلوم والتقنية كما ساهمت هذه الكفاءات بشكل مباشر وحاسم في ازدهار قطاع التكنولوجيا الفائقة (الهايتك) في إسرائيل وتحويلها إلى قوة تقنية عالمية، وهو ما يمثل بدوره عنصراً أساسياً في تفوقها العسكري والاستخباري. ولأن التبرير يحتاج إلى مبررات فلقد سعى أصحاب الفكر الداعم لروسيا لتبرير الغزو الروسي بتحميل المسؤولية للرئيس الأوكراني زيلنسكي متهمين إياه بكونه هو الذي دفع إلى الحرب من خلال خطاب التحدي وعرقلة المسار الديبلوماسي والإصرار على الانضمام لحلف الناتو وهي تبريرات متعودة لمثل هذه المواقف الإيديولوجية التي تحمل مسؤولية الاعتداء للمعتدى عليه ولكن لابد من الإشارة إلى أنها مجانبة للواقع فهي ترتكب خطأ منهجيا فادحا بتحويل المسؤولية من البادئ باستعمال القوة إلى من تعرض للاعتداء علاوة على أنها لا ترتكز على معطيات تاريخية دقيقة فزيلنسكي لم ينتهج خطاب تحدي لروسيا بل كان خطابه الموجه لشعبه يركز على التأكيد على أنه لا وجود لحرب وشيكة وأنه لا داعي للخوف وكان هدفه هو أن يجنب الشعب صدمة ذعر وما يترتب عنها من هجرة رؤوس أموال وتعطل سير الحياة اليومية في أوكرانيا كما أنه في خطاب 15 فيفري 2022 عبر صراحة عن استعداده القبول بالتخلي عن الانضمام للناتو وعرض كبديل لذلك الاعتراف لأوكرانيا بنظام الدولة المحايدة أسوة بنظام سويرا والنمسا ومالطا... بما يعني أنه لا يمكن لأوكرانيا الانضمام للتحالفات العسكرية ولا يمكن إنشاء قواعد عسكرية أجنبية داخل حدودها ولا يمكن أن تسمح باستعمال أراضيها للأعمال العسكرية سواء في زمن السلم أو الحرب في المقابل تلتزم الدول الكبرى بحماية أمن أكرانيا واحترام حيادها وهو ما رفضه الرئيس الروسي بوتين بدعوى أن العرض الأوكراني غير جدي ولا يحمل ضمانات كافية لروسيا.
#رافع_بن_محفوظ (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مروان و خديجة
-
بعض الجوانب اللادستورية في القانون عدد 41 لسنة 2024 المؤرخ ف
...
-
أريد الموت قبلك يا حبيبي
-
ما أجمل ذكراك
-
كتاب غزة
-
على خطى جلجامش في رحلة البحث عن الخلود
-
تعاليم عابرة للأزمان
المزيد.....
-
المؤثرون وحراك -جيل زد- .. تحولات في الإعلام المغربي
-
متحف اللوفر ينقل بعضا من أثمن مجوهراته إلى بنك فرنسا عقب سرق
...
-
إسرائيل تؤجّل النظر بدخول الصحفيين الأجانب لغزة للمرة السابع
...
-
قتيل ومصاب في غارة إسرائيلية على سيارة جنوبي لبنان
-
متحف اللوفر ينقل مجوهرات إلى بنك فرنسا بعد عملية السرقة
-
غوتيريش: 90% من جرائم قتل الصحفيين لم تُحل وغزة المكان الأكث
...
-
-بيل 505? و-كاراكال- مروحيات أميركية وفرنسية لتطوير سلاح الج
...
-
أمريكا: كامالا هاريس تلمح إلى احتمال ترشحها للرئاسة مرة أخرى
...
-
في موسم قطافه: زيتون الضفة الغربية ينزف تحت ضربات المستوطنين
...
-
هل انتهى دور جامعة الدول العربية؟
المزيد.....
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
المزيد.....
|