أنس الراهب
الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 16:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نوبل ... بلد واحد يحكم العالم
رغم إيجاد منظمة الأمم المتحدة لتحقيق السلم والأمن الدوليين، وضبط علاقات الدول بما يحقق الاستقرار، لكنها وقفت عاجزة أمام الكثير من القضايا الدولية الشائكة، وبقي حلها رهينة بمصالح ونفوذ الدول العظمى.
مع نهاية الحرب الباردة، تمنت الأوساط السياسية الدولية بإمكانية احتضان الليبرالية، وحماية حقوق الانسان الذي يُعد رمزًا من رموز الولايات المتحدة الأمريكية الوطنية. لكن الواقع السياسي يختلف عن التمنيات، فمع انتهاء الحرب الباردة شنّت الولايات المتحدة حروبها على عدد من الدول بينها العراق وأفغانستان، وأنشأت قواعد عسكرية لها في عدة دول ودون استئذان، وتدخلت في الشؤون الداخلية للدول بحجة محاربة الإرهاب. ليبدأ النظام الدولي الذي نشأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية بالانحراف، من خلال بسط سيطرتها بالقوة لخلق نظام عالمي جديد، تصبح من خلاله جميع الدول ضمن بلد واحد يحكم العالم.
عملت الإدارات الأمريكية المناوئة للأمم المتحدة لإقصاء أي دور أساسي لها منذ نهاية القرن الماضي، وبدأت ملامحه تتضح من خلال الصدام الذي جرى بين الأمين العام السابق للأمم المتحدة "بطرس غالي"، ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، "مادلين أولبرايت"، وهو ما انتهى بعدم التجديد لـ "بطرس غالي" في منصبه. لقد أرادت واشنطن استبعاد المنظمة الدولية لتقود هي المجتمع الدولي، وهو ما فعلته في يوغسلافيا السابقة. وعندما لا تريد ذلك، تترك للمنظمة الدولية قيادة العمل لحلها كما جرى في كمبوديا، أو أن تعمد لعدم حلها، بل وعرقلتها كما في القضية الفلسطينية.
عندما قام "صدام حسين" باحتلال الكويت، أنشأت الولايات المتحدة تحالفها ضدّ العراق، وقامت باحتلاله. وعندما قامت الحرب الروسية على أوكرانيا، قابلتها حرب للناتو بالوكالة على روسيا. ومع تبادل القصف الصاروخي بين إيران وإسرائيل، قصفت الولايات المتحدة المنشآت النووية الإيرانية، رغم أنها هي من انسحبت من الاتفاق النووي.
وفي الوقت الذي اتحد فيه العالم لمحاربة القاعدة وداعش في العراق وليبيا وسورية وأفغانستان، انفردت الولايات المتحدة في نهج جديد للتوافق معهما. فحكمت طالبان أفغانستان، وجبهة النصرة وهيئة تحرير الشام سورية.
ارتبطت هذه الممارسات بسلوك الولايات المتحدة على الآخرين، أي سلوك "ترامب" وإدارته الذي يتصف بالتنمر والابتزاز ورفض تحمل المسؤولية وتجاهل القوانين الدولية وحقوق الانسان. إذ تقوم رؤية ترامب على أن الجيش الأمريكي لا يستطيع أحد أن يوقفه، ولذلك من حقه أن يفرض نفسه على أي دولة، ويهيمن عليها، وأن يتجاوز الشرعية الدولية الممثلة بالأمم المتحدة.
بقيت القضايا الرئيسية في العالم كقضية فلسطين، والنووي الإيراني، والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الدول العربية، واحتلاله أراض جديدة في سورية، والحرب الروسية الأوكرانية الأطلسية، ومجازر غزة، وحصار فنزويلا، ومسألة تايوان، وعشرات القضايا والملفات الأخرى الملتهبة في العالم، بيد الولايات المتحدة، وتحديدًا رئيسها "دونالد ترامب"، لا بيد المجتمع الدولي؟
وفي مراجعة لإنجازات الرئيس "ترامب" المنفردة لتحقيق الأمن والاستقرار، فقد استطاع "ترامب" إيقاف الحرب في غزة لكن بعد تسويتها بالأرض، لكنه لم يتطرق إلى حلّ الدولتين؟ ولم يستطع إلزام إسرائيل بعدم الاعتداء على الدول العربية وإيران والتوسع في الأراضي السورية، كما لم ينجح كما وعد في وقف الحرب الروسية – الأوكرانية؟ أو ينهي النزاع الداخلي في السودان؟ ولم يتوقف "ترامب" عن تهديد الصين، واجتياح فنزويلا، وتواطؤه المستمر في التدخل بالشؤون الداخلية للبرازيل؟ حتى أنه فرض رسومًا جمركية إضافية غير عادلة على معظم دول العالم؟
ويردد ترامب كلمة "فافو"، أي "أخلق الفوضى ثم رتبها". ومنذ اليوم الأول لتوليه منصبه، لم يتوقف عن الخروج بتصريحات مكثفة ومتناقضة أحيانًا واتخاذ قرارات تثير القلق في العالم. فسبق له أن نقل سفارة بلاده إلى القدس، واعترف لإسرائيل بأن القدس عاصمتها، وبأن الجولان السوري المحتل من قبلها هي أرض إسرائيلية، كما رفض الدفاع عن الدول الأعضاء في الحلف لأنها فشلت في زيادة إنفاقها العسكري كما يريد هو. واتخذ قرار بالانسحاب من منظمة الصحة العالمية للمرة الثانية، ليترك هذه الوكالة التابعة للأمم المتحدة بدون أكبر ممول لها. وألغى هيئة المعونة الأمريكية، وأنهى مهمتها التي استمرت ستة عقود للمحافظة على استقرار الدول الفقيرة من خلال تقديم المساعدات الغذائية لمواطنيها.
وقد لجأ "ترامب" لفوضى عارمة شتيت انتباه العالم من خلال اطلاقه لأوامر وتصريحات رئاسية سريعة للغاية، منعت المجتمع الدولي من متابعة كل هذه الأوامر والتصريحات.
ففي حديثه عن غرينلاند وقطاع غزة على سبيل المثال، يقول صاحب شعار "أمريكا أولا" إن الولايات المتحدة ستستولي عليهما. وتمسك بخطته لتهجير الفلسطينيين وتحويل القطاع إلى منتجع سياحي فاخر. في الوقت نفسه فإنه يشاهد تدفق النازحين الفلسطينيين العائدين إلى بيوتهم المدمرة في شمال القطاع بعد وقف إطلاق النار. وقد ظهر القلق من سياسات ترامب وقرارته التي تسعى للسيطرة على أوروبا عند أغلب قادتها. فالقمة الأوروبية الأخيرة في بروكسل كانت ترمي إلى بحث زيادة الإنفاق الدفاعي والتصدي للتهديد الروسي، لكنها تحولت إلى الحديث عن ترامب وتهديداته. وأن مجمل تصريحاته ومواقفه من قضايا الشرق الأوسط، تحولت إلى حالة من عدم الاستقرار، وتسببت بتصاعد التوتر في العلاقة بين إسرائيل والدول العربية، خصوصاً بعد انتقاد "نتنياهو"، موقف السعودية، وزعمه أنها إذا كانت حريصة على إقامة دولة فلسطينية فيمكنها أن تفعل ذلك داخل أراضيها الشاسعة. وكان دعمه للجناح اليميني المتطرف في إسرائيل، وسكوته أمام استمرار التوسع وضم الضفة الغربية، توجه بتصريحه الشهير المتعلق بصغر مساحة إسرائيل، واستمرار دعمه السياسي والعسكري لها خاصة مع رفع القيود التي فرضتها إدارة "بايدن" على بيع بعض الأنواع المتقدمة من الأسلحة لها. وقد سبب هذا الدعم الهائل لإسرائيل بزيادة الشعور بالقوة عند "نتنياهو" الذي أبدع في ارتكاب مجازره بحق الفلسطينيين، وبلغ عدد القتلى فيها أكثر من ستين ألف مدني، وأكثر من مئة ألف مصاب، وتهجير وتجويع ما يقارب من مليوني غزاوي عن أرضه، وغياب فرص حلّ الدولتين، مع استمرار رفعه شعار أن السلام يتحقق من خلال القوة. كما تسبب بتهديد أقيم كبير في منطقة الشرق الأوسط بسبب الأزمة بينه وبين إيران، إذ وقّع "ترامب" مذكرة رئاسية بإعادة فرض "العقوبات القصوى" على طهران مصرحًا بأن الولايات المتحدة تمتلك الحق في منع إيران من بيع النفط إلى الدول الأخرى بما فيها الصين، ودفع صادراتها من النفط إلى "الصفر". وفي تصريح آخر، قال "ترامب" إنه يفضل الاتفاق مع إيران بدلاً من قصفها، مضيفاً أن إسرائيل لن تقوم بتوجيه ضربة ضد إيران إذا تم الوصول إلى اتفاق مع واشنطن، ما يعني التفاوض من موقع القوة وتحت تهديد الضغوط الاقتصادية والسلاح.
أن ادعاء "ترامب" بأنه استطاع إيقاف الحرب بين باكستان والهند غير صحيح، إذ تدخلت كثيرًا من الدول ذات الثقل السياسي في العالم لاحتواء التصعيد بينهما وتجنب الحرب. وادعائه بمنع الحرب بين مصر وإثيوبيا، هراء لعدم وصول الدولتين إلى الانتقال لحالة الحرب. وفي الصراع بين إسرائيل وإيران، فان حرب الـ 12 يوم توقفت بعد التدخل الأمريكي العسكري المباشر لصالح إسرائيل، وما جرى حالة أشبه بوقف إطلاق النار لا بالتوصل لاتفاق دائم، في ظل عودة الصراع قريبًا بينهما، وربما عودة انضمام الولايات المتحدة لهذا الصراع العسكري.
لقد سبق للرئيس "ترامب" أن وقف على منصات المحافل الدولية ليعلن أن بلاده، وهو شخصياً، تحظى باحترام واسع، وأنه يفرض إرادته على الآخرين، ويؤكد أنه أجبر قادة حلف شمال الأطلسي على الرضوخ لمطالبه برفع الإنفاق العسكري من 2% إلى 5%. ومارس سياسة الاستعلاء تجاه حلفاءه، والقسوة تجاه من يخالفونه. وبأنه يمنع أي تحولات في النظام الدولي، وحدوث قوى مؤثرة أو أدوار فاعلة لدول أخرى. وهو وحده من سيعيد تشكيل الشرق الأوسط، من خلال القوة، لا قرارات المجتمع الدولي.
لم تجدِ الرغبة العارمة عند "ترامب" في حصوله على جائزة نوبل للسلام، فسلوكه وتصرفاته الفوضوية لا تنسجم مع متطلبات الجائزة. ولذلك خيبت لجنة "نوبل للسلام" أمل الرئيس "ترامب"، وحرمته من الجائزة، رغم ضغوطه، ومزاعمه بأنه استطاع أن يمنع قيام ثمانية حروب، آخرها حرب غزة. فاللجنة كما الآخرون يعلمون أن الطريق يبدأ من سلام حقيقي يستند إلى القرارات الدولية، لا من وقف لإطلاق النار، وفرض الحلول باستخدام القوة.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟