أنس الراهب
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 00:38
المحور:
سيرة ذاتية
رحلة شقاء - الكاتب الراحل هلال الراهب.
ولد هلال الراهب في قرية مشقيتا في محافظة اللاذقية عام 1933 في أسرة فقيرة مؤلفة من ثمانية أولاد. وكان والده محمد علي مصاباً بالصم والبكم معًا، عاجزاً عن الحديث مع أولاده، لتعليمهم وإرشادهم نحو مواجهة الحياة القاسية. ومع ذلك كان والده مهتمًا بتعليم جميع أبنائه، ومن بينهم هلال الذي بدأ أول خطواته في التعليم عند كتّاب القرية. وخلال فترة وجيزة تمكن من قراءة وحفظ القرآن الكريم. ورغم إصراره على متابعة دراسته، إلا أن والده قرر إخراجه من عند الكتاب ليعتني بشقيقه إبراهيم بعد إصابته بالصرع نتيجة تعرضه لضرب شديد من قبل السلطة العسكرية الفرنسية أثناء مشاركته في المظاهرات ضدّ الانتداب الفرنسي على سورية. ومنذ ذلك الوقت بقي هلال مرافقاً لشقيقه الذي افتتح ورشة صغيرة لخياطة الملابس الرجالية في اللاذقية. ومن هنا استطاع هلال أن يتعلم مبادئ فن الخياطة. وكان في أوقات فراغه وعندما تكون حالة شقيقه تسمح بذلك، يخرج إلى الشارع مساءً ليجلس على الرصيف أسفل عامود الانارة في الشارع ليتابع القراءة والكتابة.
لقد عانى هلال في طفولته كل أشكال الشقاء والحرمان والبؤس، وكان دائم البكاء على شقيقه كلما داهمته نوبة الصرع، ويبدوا أن صراعه في الحياة كانت سببًا في أن يجيد العزف على آلة الناي الحزينة. وبذلك قرر وهو في الرابعة عشرة من عمره التقدم لنيل الشهادة الابتدائية، وما أن حصل عليها حتى ازداد ايمانه بقدرته لمتابعة تعليمه، والحصول على الشهادة الإعدادية، وكانت وقتها تؤهل حاملها العمل في وزارة المعارف بصفة وكيل معلم. وما أن حصل على الشهادة الاعدادية حتى عمل في التدريس بإحدى القرى إلى جانب اهتمامه بشقيقه. وخلال هذا الوقت قرر أن ينال الشهادة الثانوية، فحصل عليها في صيف عام 1953. دون أن يذهب يومًا إلى المدرسة.
بعدها قرر الالتحاق بالكلية العسكرية في حمص، لكنه لم يمكث فيها فترة طويلة، إذ تمَ تسريحه من الكلية العسكرية بعد 15 يوماً من دخوله إليها بسبب نشاطه الحزبي في صفوف حزب «البعث العربي» كما كان يسمى وقتها. فقرر الالتحاق في كلية الآداب قسم اللغة العربية في جامعة دمشق، لكنه واظب على محاولات الالتحاق بالكلية الحربية. وبعد مضي أكثر من عامين في كلية الآداب، وتحديدًا في عام 1955 تم قبوله في الكلية الجوية. فالتحق بها مباشرة. ولكن رحلة الشقاء بقيت تلازمه، فبعد أن حقق أكثر من 80 ساعة طيران منفرد، وخلال تحليقه إلى ارتفاع شاهق غير مسموح به، تعرض لتمزق غشاء طبلة الأذن، فتم نقله إلى الكلية الحربية ليتابع تلقي علومه العسكرية، اختصاص مشاة ومدفعية، ليتخرج منها الأول على الكلية الحربية عام 1957 برتبة ملازم.
وفي عام 1958، وخلال الوحدة مع مصر، نقل هلال إلى القاهرة، وهو برتبة ملازم أول، مع مجموعة كبيرة من الضباط السوريين، وبقي هناك حتى وقع الانفصال عام 1961، ليعود مع زوجته و زملائه الضباط وعائلاتهم عن طريق البحر إلى سورية. ليجد نفسه بعد أيام قليلة مسرحًا من الجيش، ودون عمل. بعدها قرر التوجه إلى مدينة أزمير التركية لتعلم اللغة أولًا، ثم دراسة الطب البشري فيها. إلا أنه وبعد مرور ثلاثة أشهر على وجوده في أزمير، تصله رسالة من أحد أعضاء اللجنة العسكرية، تطلب منه العودة إلى سورية فورًا من أجل موضوع لا يحتمل التأجيل. فيقرر الاستجابة لهذه الرسالة. وعندما وصل إلى سورية أخبره رفاقه من عسكريين ومدنيين، أنهم بصدد القيام بانقلاب على حكم الانفصال. ومع نجاح الانقلاب، يعود هلال الراهب إلى الحياة العسكرية، برتبة نقيب. وفي عام 1964، أصيب هلال بطلق ناري عن طريق الخطأ أثناء قيام شقيق زوجته الذي يعمل في مجال اصلاح وصيانة الأسلحة الفردية بمعاينة سلاحه، لتخترق بطنه فتمزق طحاله وكبده، لتخرج من ظهره. وسرعان ما أذاعت راديو إسرائيل عن محاولة اغتيال أحد الضباط السوريين البارزين في سورية. وبعد أن تماثل للشفاء، أُصيب هلال بقذيفة طائرة إسرائيلية خلال حرب 1967، لتخترق ملجأه في الجبهة بمنطقة الكسوة، ما أدى إلى اصابته بعدة كسور في العمود الفقري.
مع خسارة حرب 1967، وما شاهده من فساد وانحلال في المبادئ والأخلاق، تنبأ هلال بالصراع القادم على سورية ومستقبلها، فقرر عام 1968، تقديم استقالته من الجيش وهو برتبة رائد، وكان على بعد أيام من الحصول على رتبة مقدم. وخلال لقاءه بوزير الدفاع، طلب منه الأخير أن يسحب استقالته، وأن يختار أي مكان يريده في الجيش، مؤكدًا له أن هناك ترتيبات قادمة في المستقبل القريب، وأنهم بحاجة له الآن، وسيكون له شأن كبير بعد ذلك. لكن هلال أصّر على الاستقالة رافضًا الانخراط في الصراعات التي سيطرت على البلاد. فطلب إليه وزير الدفاع التريث لمدة شهر كي يفكر مليًا في استقالته، مكررًا اغراءه باختيار أي مكان أو موقع في الجيش ليتم نقله إليه. خلال هذه الفترة أقنعه صديقه المبعد عن الجيش إلى السلك الدبلوماسي، (كانت وزارة الخارجية مركزًا لنقل الضباط غير المرغوب فيهم في السلك العسكري)، بالالتحاق في وزارة الخارجية بدلًا من البقاء بدون عمل. وعندما قابل هلال وزير الدفاع من جديد، سأله الأخير عن قراره، أصّر هلال على طلب الاستقالة، لكنه أعلمه أنه لا يمانع في نقله إلى وزارة الخارجية. وبالفعل تم نقله إلى السلك الدبلوماسي، والتحق بعمله الجديد برتبة سكرتير ثان مع قدم وظيفي سنتين.
كان وزير الخارجية في ذلك الوقت تربطه به صلة قرابة، ولذلك كان الأخير يخشى من نقله إلى البعثات الدبلوماسية كي لا يُفسر بأنه منفي عن سورية. ومع ذلك، نقل هلال للعمل في السفارة السورية في موسكو عام 1969. ونتيجة لإصاباته السابقة وللبرد الشديد، طلب نقله إلى بعثة تكون أقل برودة في المناخ فنقل عام 1970 إلى بودابست، لكنه لم يتحمل برودتها أيضًا، فتم نقله إلى القاهرة للعمل في السفارة وفي المندوبية السورية لجامعة الدول العربية. وبقي في القاهرة حتى عام 1974، ليعود إلى الإدارة المركزية في دمشق.
ولما كان وزير الخارجية الجديد يناصب هلال العداء الشديد، بسبب المساعدات التي قدمها هلال له قبل توليه هذا المنصب، خلال فترة الستينات من القرن الماضي، ولأسباب تتعلق بصلة القرابة التي تجمع هلال بوزير الخارجية السابق الذي هرب خارج البلاد بعد انقلاب 1971. قام الوزير بتجميده وعزله، ولم يتم نقله للعمل في البعثات الدبلوماسية إلا لمدة ثمانية شهور قضاها في الخرطوم عاصمة السودان في نهاية صيف عام 1977، لينقل من جديد إلى دمشق عام 1978.
عاش هلال عدة سنوات بعد ذلك في فقر مدقع، فكان يحيك ملابس أولاده بنفسه، ويقص شعورهم حين تطول ليتجنب دفع نفقات غير قادر على تأمينها. ومع ذلك تراكمت عليه الديون، فاضطر إلى أن يبيع قطعة أرض صغيرة كان يملكها في قريته، ثم بيع أثاث منزله.
بقي هلال على هذا الوضع حتى تم تعيين وزيرًا جديدًا للخارجية، كان يعرف بدماثة أخلاقه وعدالته وانصافه للمظلومين ونظافة يده وفكره. وبالفعل بعد لقاءه بهلال، وعد الوزير الجديد بإعادة الحق ورد الاعتبار له.
خلال كل هذه الفترة كان هلال يمارس هواية الرسم، وقد أنجز العديد من لوحاته الفنية، كما بدأ بكتابة روايته الأولى بجزئيها الاغتراب، متجرعًا من مرارة تاريخ المنطقة والمظالم التي يعيشها الناس ومعاناته الشخصية، ويتم نشرها من قبل وزارة الثقافة عام 1983، لتحظى باهتمام كبير من قبل المثقفين والكتاب، ويتم بيع نسخها الأولى خلال أشهر قليلة فقط.
في عام 1985، أوفى وزير الخارجية بوعده، وقابل هلال ليعرض عليه الانتقال إلى جدة أو دبي كقنصل عام أول، لكن هلال طلب إليه أن يبعده عن هذين الموقعين. وأن ينقله إلى داكار عاصمة السنغال كونها شاغرة من منصب رئيس البعثة، وأن مرتبته الوظيفية تلائم هذا الشاغر، فاستغرب الوزير طلبه منوهًا إلى أن كلا الموقعين يتمناه كل الدبلوماسيين في الوزارة، سائلًا عن سبب اختياره للسنغال؟ فأعلمه هلال أن هاتين البعثتين يتحكم بعملهما عناصر الأمن المرسلين من دمشق، وهم يفرضون الإتاوات على انجاز المعاملات القنصلية بالإكراه على المواطنين المغتربين، وهذا سيؤدي بالضرورة إلى الاحتكاك معهم، وبالتالي حدوث مشاكل قد لا تحمد عقباها. وبالفعل لبّى الوزير رغبته وتم نقله إلى داكار رئيسًا للبعثة الدبلوماسية بمرتبة وزير مفوض.
قضى هلال في داكار ما يقارب من تسع سنوات، وخلالها كتب روايته الثانية خماسية جداول عندم. وقد طبعت ثلاثة أجزاء منها هي: ضراح من جماجم ومراكب الجبال البحرية والموت شغفًا .وكانت طباعتها سيئة جدًا لدرجة أنه تم سحبها من الأسواق لعدم صلاحية قراءتها. ولم يعد طباعتها من جديد. وبذلك لم تأخذ هذه الرواية حقها، وبقيت مجهولة أمام المثقفين والقراء والنقاد.
كان هلال بعد تقاعده قد قرر توزيع وقته بين دمشق وقريته بعيدًا عن ضجيج العاصمة ومشاكلها. لكنه أصيب سنة 2006، بجلطة في منطقة النخاع الشوكي تسببت بشلل نصفي له، ليبقى طريح الفراش، حتى رحيله عن عالمنا القاسي بتاريخ 6/6/2012.
ومن الجدير بالذكر أن الكاتب الكبير هاني الراهب هو شقيق هلال، وأن كل أولاده يعملون في عالم الثقافة والفن والتأليف، فكان منهم المخرج والممثل والرسام والكاتب والموسيقي.
بعد وفاة الكاتب هلال الراهب، تم العثور على الجزء الرابع من خماسية جداول عندم باسم إسراء إلى التيه، فعمل ابنه عام 2024 على إعادة طباعة الخماسية لتصبح رباعية، وطباعة رواية الاغتراب من جديد في دولة الإمارات العربية المتحدة عام، لتكون حصيلة مؤلفات الراحل ست روايات.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟