أنس الراهب
الحوار المتمدن-العدد: 8430 - 2025 / 8 / 10 - 20:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قال "سايكس" إنه يريد أن "يرسم خطا يبدأ بحرف الألف (عكا الفلسطينية)، وينتهي بحرف الكاف (كركوك العراق)، ليقسم معها النسيج القبلي والعشائري والانتماءات الدينية. كما أن عدد من المفكرين والسياسيين وضعوا تصوراتهم عن مستقبل المنطقة. فكان أول من أطلق مصطلح الشرق الأوسط هو الأدميرال الأمريكي "ألفريد ماهان" عام 1902، كجزء من رؤيته الإستراتيجية المستقبلية التي تعتبر هذه المنطقة نقطة الارتكاز في الصراع بين الدول العظمى، ومحور للتنافس بين بريطانيا العظمى ومعها الولايات المتحدة في الحفاظ على مصالحها، وبين القوى البحرية الصاعدة مثل ألمانيا، إضافة إلى التهديد البري الروسي.
التاريخ يعيد نفسه بصورة جديدة. مع بداية الحرب العراقية – الإيرانية سنة 1980، صرّح مستشار الأمن القومي "زبغنيو بريجنسكي": إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى، بحيث تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية من خلالها تصحيح حدود اتفاقية سايكس – بيكو. وبذلك عمل "بريجنسكي" على اطلاق نظريته قوس الأزمات المتعلقة بالشرق الأوسط. حيث رأى أن القاسم المشترك الأعظم بين أكثر دول الهلال الإسلامية، هو كونها دول هشة تتكون من جماعات عرقية ودينية مختلفة، وذات بنى اجتماعية وسياسية هشة، وهي مرشحة لفوضى وقلاقل تهدد وتزعزع كياناتها . ووجد أن هناك ضرورة لتحويل الصحوة الإسلامية التي تصاعدت في سبعينيات القرن الماضي في المجتمع العربي الإسلامي، إلى ظاهرة أمنية يتوجب معالجتها وفقًا للاعتبارات الأمنية والاستخبارية باعتبارها حركات" إرهاب أصولي عابر للدول" تهدد المجتمع الدولي وتمثل خطرًا استثنائيًا عليه. وابقاء المنطقة منشغلة بالمسألة الدينية تمهيدًا للمرحلة التي ستأتي بعدها .
وبتكليف من وزارة الدفاع الأمريكية، وضع "بيرنارد لويس" مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية للدول العربية والإسلامية جميعًا، وكلًا على حدة. فقدّم مشروعه لتقسيم المنطقة والتدخل فيها كمرحلة ثانية بديلة عن اتفاقية سايكس - بيكو. وجاء مخططه كارثيًا، فلم يبق على دولة عربية إلا وقسمها.
أما "أوديد إينون" ، فقد كتب مقال عام 1982، بعنوان: استراتيجية إسرائيل للثمانينيات، تنطلق من مبدئين أساسيين استراتيجيين ينبغي لإسرائيل مراعاتهما: العمل على تحول إسرائيل إلى قوة إقليمية في المنطقة، والعمل على تحويل المنطقة برمتها إلى دويلات صغيرة وكيانات طائفية وعرقية صغيرة تهدف إلى ضمان تفوق إسرائيل واستقرارها الإقليمي، وتركزت بشكل خاص على سورية، وعلى ضرورة تقسيمها إلى دويلات علوية وسنية ودرزية.
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق ظهر مصطلح الفوضى الخلاقة الذي هدف إلى إحداث تغييرات عميقة في الشرق الأوسط لإعادة تشكيل النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي فيه، من خلال إثارة الأزمات والصراعات . واعتبرت الإدارة الأمريكية أن هذه الفوضى ستكون مؤقتة لكنها ستؤدى إلى نتائج إيجابية، تحقق مصالح الولايات المتحدة لفترات طويلة في المنطقة . وقاد عملية الفوضى "كونداليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية.
وفي عام 2006، نشر الكولونيل الأمريكي المتقاعد "رالف بيترز" في مجلة القوات المسلحة الأمريكية مقال بعنوان: "حدود الدم"، تضمن تقريرًا متكاملًا عن الصراعات والتوترات في منطقة الشرق الأوسط، والتي اعتبرها نتيجة منطقية بسبب الخلل الكبير في حدود هذه الدول التي وضعها الأوروبيون الانتهازيون بشكل اعتباطي. وقد رأى "بيترز" أن المجموعات الإثنية والدينية في المنطقة اختلطوا وتعايشوا مع بعضهم البعض، إلا إنه من الضروري إعادة رسم الحدود لإنصافهم. ومن أجل شرق أوسط جديد، قدّم "بيترز" خريطة بديلة عن سايكس - بيكو، تلغي بعض الحدود القائمة لتقسمها من جديد، فتتحوّل الدولة الواحدة إلى دويلات، تكبر دول كانت صغيرة، وتصغر دول كانت كبيرة. ومنها العراق وسورية ولبنان.
بعد اخماد ثورات الربيع العربي، ثم الحرب في غزة، أخذ مفهوم تأثير الدومينو في التنامي بسرعة كبيرة. وقد استمد هذا التشبيه من كيفية تساقط قطع الدومينو واحدة تلو الأخرى عند دفع القطعة الأولى. واستنادًا إلى هذا المفهوم، فإن انهيار النظام السوري هو قطعة دومينو سبق أن حركها طوفان الأقصى وبعدها حرب غزة. أي ان تفاعلات الأحداث متداخلة، بما يؤدي إلى فتح المجال أمام موجة من التغيرات الجيوسياسية الواسعة في المنطقة، تؤدي بعضها إلى انهيار أنظمة أخرى، أو خلق ديناميكيات جديدة قد تدفع بعض الدول إلى إعادة حساباتها، أو تصاعد صراعات كانت كامنة، أو تشكيل تحالفات جديدة، أو حتى بروز فاعلين جدد على الساحة.
بينما كان تأثير الفراشة أوسع من تأثير الدومينو. فهو يشير إلى فكرة أن التغييرات الطفيفة في الظروف الأولية يمكن أن تؤدي إلى نتائج مختلفة تمامًا في الأنظمة المعقدة، كما أن رفرفة جناحي الفراشة في البرازيل، قد تسبب إعصارًا في تكساس. فالتداعيات ليست كلها سلبية بالضرورة كما أنها تكون غير متوقعة، وغير مرتبطة مباشرة بالحدث الأصلي، وغير خطية، وذلك بخلاف ما يوحي به تأثير الدومينو الذي يميل أكثر لإثارة احتمال أن الحدث يتكرر تباعًا ويكرر النمط الأساسي بصورة أقرب ما تكون إلى الخطية.
وهكذا، فإن تداعيات قرار طوفان الأقصى غير المتوقعة تشكلت نتيجة تفاعل سلوك الأطراف، وصراع مصالحهم، وترابط النسيج الإقليمي، وقد تجلت في نتائج غير مخطط لها وغير مقصودة من قبل مخططي عملية طوفان الأقصى. فهي قامت لتوحيد جهود محور المقاومة، لكن نتائجها أدّت لإضعاف هذا المحور بصورة استراتيجية من خلال إضعاف حزب الله وسقوط نظام "الأسد". ما أدّى إلى تعزيز نفوذ تركيا إقليمًيا وتعزيز حكم الرئيس "أردوغان" محليًا، وهي نتائج لم تكن ضمن أهداف مخططي عملية طوفان الأقصى، ولا حتى من أهداف الحرب الإسرائيلية على غزة وحزب الله .
أما "أنتوني كوردسمان" . الذي كتب عبر موقع مجلة "بوليتيكو" الأميركية، مقالًا يتساءل فيه عن أحوال الشرق الأوسط الجديد من زمن "الربيع العربي" إلى أوان ما اسمه "محور الدول الفاشلة". فقد اعترف بإن واشنطن قطعت شوطًا كبيرًا منذ الآمال المرتبطة بـــ "معاهدة كامب ديفيد"، إلى العولمة، وصولًا إلى "الربيع العربي"، غير أن هذه المسيرة الطويلة، كانت تسير في كل الاتجاهات الخاطئة لأنها نشأت من منظور غير واقعي، فتدهور الشرق الأوسط بمرور الوقت وبطرق تتجاوز إلى حد كبير صراعاته وأيديولوجيته ومعتقداته المتنافسة وصراعات السلطة بين الحكام والمحكومين. ويرى "كوردسمان" أن أهم ما يحدد مسيرة الشعوب، هو الاقتصاد ومستوى حياة الأمم والشعوب. ومن هنا تساءل إن كانت الطروحات والشروحات الأميركية، وعلى رأسها مبادرة الشرق الأوسط الجديد قد ساعدت على تحسين أحوال الناس في العالم العربي بصورة عملية فاعلة، أم أن الهدف كان دعائيًا غرضه الرئيس إقحام إسرائيل بالقوة الجبرية في سياقات الحياة الطبيعية هناك، عبر السعي إلى علاقات قسرية معها إن جاز الوصف ؟
لقد بنت الاستراتيجية الأمريكية مفهومها بمنطق "إدارة الصراعات، فإذا كان في مصلحتها تسهيل اندلاع صراع حدودي أو عرقي أو ديني أو طائفي، عملت ما بوسعها لحدوثه. فالمفكر "بريجنسكي" لم يجد مشكلة في أن يحدد النطاق الجغرافي للمنطقة، ولا "بيترز" في إعادة ترسيم الحدود، ولا "كونداليزا رايس" في طرح الفوضى الخلاقة، ولا "نتنياهو" في رفع خريطة المنطقة بدون وجود للدولة الفلسطينية، ولا "ترامب" في أن يعلن أن القدس عاصمة لإسرائيل، والجولان السوري المحتل أرض إسرائيلية.
عشرات الحروب جرت في المنطقة، غيرّت خلالها الولايات المتحدة الأمريكية من تحالفاتها أكثر من مرة. فبعد أن تحالفت مع الجماعات الجهادية ضد السوفييت في أفغانستان وأسمتهم "المقاتلون من أجل الحرية"، عادت وأسمتهم بالإرهابيين عندما شنّوا هجمات 11/09. وأنشأت تحالف دولي لمحاربتهم. ثم عادت من جديد لتغير تحالفاتها وتعلن تأييد أعداءها التقليديين الجهاديين المدرجين في قوائم الإرهاب (هيئة تحرير الشام – النصرة سابقًا) في سورية، وتفتح لهم أبواب الشرعية السياسية والدعم والانخراط مع المجتمع الدولي. إذ يرى الرئيس "ترامب" أن تحقيق الشرق الأوسط الجديد، يحتاج إلى الاستقرار، ولتحقيق الاستقرار يجب أن يتحقق السلام مع إسرائيل أولًا. ومن غير الجماعات الإسلامية في هذه الظروف ستفعل ذلك؟
لقد أكد السفير "روبرت فورد" أنه عمل على إعادة تأهيل "الجولاني" وتحويله من عالم الإرهاب إلى عالم السياسة. بينما دعا وزير الخارجية الأمريكي "ماركو روبيو"، لدعم السلطة الانتقالية في سورية، والتواصل معها، بالرغم من اقراره بوجود شخصيات من هذه السلطة لم تتجاوز فحص خلفياتهم، وبوجود أقليات تعاني من انعدام الثقة. أما السفير "باراك"، المتأثر بأفكار "بيترز"، فقد أثار في تصريحه عاصفة من الجدل والتفاعلات، بعد انتقاده الحاد لاتفاقية سايكس - بيكو والقوى الاستعمارية الأوروبية، معتبرًا أنها السبب وراء تقسيم المنطقة، ومن ضمنها سورية. وأكد باراك أن "زمن التدخل الغربي انتهى" وأن المستقبل سيُبنى على الشراكات بدلا من الهيمنة. . وقد اعتبر بعض المحللين والمتابعين أن تصريحات "باراك" ليست إلا عنوان جديدة للدور الأميركي القادم في المنطقة، وهي تترافق مع الحديث المتكرر "لترامب" و"نتنياهو" عن شرق أوسط جديد يبتلع حدود سايكس – بيكو، في ظل حكومة إسلامية جديدة في سورية، وحدها القادرة على تحقيق ذلك.
ثلاث وثلاثون دقيقة اعتقد فيها الأمريكيون أنها كافية لتغيير وجه سورية (وهي الفترة التي أمضاها الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" مع الرئيس السوري المؤقت "أحمد الشرع")، ونسيان ما يحدث على الأرض؟ ومحو كل الجرائم والمجازر التي ترتكب بحق السوريين، والاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية المشبوهة والتي تعقد من وراء الكواليس؟
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟