سامي خويص
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 22:08
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
ما يجري اليوم في الشرق الأوسط ليس صراعاً تقليدياً، بل مناورة جيوسياسية كبرى تتسابق فيها القوى الإقليمية (تركيا، إسرائيل، السعودية، الإمارات، قطر، الأردن) لرسم حدود النفوذ وتثبيت التجزئة. ورغم الاهتمام الدولي بالمشاركة والتأثير في صناعة مستقبل المنطقة لكن تبقى الشروط الجغرافية والسياسية والديموغرافية تفرض نفسها على القوى العالمية وتضع محددات لإدارة الأزمة في نهاية المطاف.
تتلخص خيارات هذه القوى في استراتيجية الهرب من "اللعبة الصفرية"، والاعتراف بعدم وجود فاعل إقليمي قوي قادر على فرض مشروعه، مع إدراك ضمني بخطر الاشتباك العسكري المباشر بين تلك القوى.
أولاً: خيارات النفوذ المباشر
يدور الصراع بين القوى الإقليمية حول قدرة الأطراف على انتزاع أكبر مساحة نفوذ جيوسياسي من الجغرافية والقرار السوري. فرغم أن سورية مازالت رسميا دولة واحدة معترف بها دوليا، لكن الواقع الفعلي يختلف عن ذلك، فهي منذ أكثر من عشرة سنين مجزأة سياسيا وعسكريا وإداريا، ورغم وصول السلطة الحالية إلى دمشق لم يتحسن الوضع، بل ازداد سوءا، خاصة بعد المجازر التي ارتكبتها قوات السلطة وأحدثت شروخات جديدة في الوقع المتصدع أصلا.
الصراع الإقليمي لم يعد يجري على سورية ككل فقد أدرك كل طرف استحالة أن يسيطر على المنطقة كاملة، وأنه لا بد له أن يراعي مصالح الأطراف الأخرى وأن يكيف طموحاته وخططه حسب مجريات الصراع، فخيار التفرد بالسيطرة لم يعد مطروحا في مطابخ السياسة. ولذا يناور كل طرف على توسيع حدود ملعبه المضمون:
1. تركيا والوصاية الشمالية: تثبيت السيطرة العسكرية المباشرة شمالاً، والطموح إلى تكريس السلطة السورية المركزية الموالية له في دمشق، مع الحرص على محاصرة قوات سورية الديمقراطية، ووأد أي إمكانية لإقامة حكم ذاتي أو حتى إدارة لامركزية بالقرب من حدودها. الهدف الأكبر جعل العمق السوري امتداداً حيوياً للنفوذ التركي وبوابة نحو الخليج والسعودية والأماكن الدينية المقدسة، وبالطبع مدخلا واسعا إلى الملف الفلسطيني. وهذا يمثل تحدياً جغرافياً حاداً للسيادة والطموحات العربية، ويثير أزمة واسعة الطيف مع إسرائيل.
2. السعودية والدور الإقليمي المتصاعد: تسعى السعودية إلى تدعيم حضورها الإقليمي والدولي الاقتصادي والسياسي، عبر ضمان ولاء الأطراف على حدودها، وإبعاد المنافسين الاتراك والإيرانيين عن دمشق وبيروت، مع سهولة الوصول إلى العواصم العربية الشمالية دمشق وبيروت، والتحكم بخيارات المنطقة سياسيا وثقافيا واقتصاديا، عبر سياسة إطفاء الحرائق الكبيرة بحرائق صغيرة، ووعود باستثمارات مالية يسيل لها اللعاب.
3. إسرائيل والدولة العازلة الوظيفية: خيار تل أبيب هو التفكيك الوظيفي لسوريا بهدف خلق "دولة عازلة" قوية في جنوب سورية. هذه الدولة يجب أن تكون وظيفية، تضمن أمن الحدود، وتحيّد النفوذين الإيراني والتركي، مع ضرورة مراقبة توسع المنافسة السعودية/التركية والتحكم بها. وإمكانية لعب دور الشرطي في المنطقة.
4. الأردن هو الداعم الأقوى لـ خيار "الدولة العازلة" في جنوب سوريا: حيث يضمن ذلك استقرار حدوده الشمالية ومنع تسلل الفوضى. هذا الخيار يسمح للأردن بالتحول إلى نقطة ارتكاز أساسية بين المحور الخليجي (الداعم) و"الدولة الجديدة"، ما يمنحها مكاسب اقتصادية ودبلوماسية كبيرة.
ثانياً: التقاطع والتنافر بين الرياض وتل أبيب
تُوظف القوة المالية والدبلوماسية الخليجية في مواجهة النفوذين التركي والإيراني، وهذا يفتح الباب أمام تقاطع استراتيجي غير مسبوق بين السعودية وإسرائيل، يركز على "اللا" الاستراتيجية في وجه عودة النفوذ الإيراني، وتوسع النفوذ التركي:
المحور الخليجي (السعودية والإمارات) يدعم وجود سلطة سورية مستقلة عن الوصاية التركية، ويتعايش في الوقت نفسه مع فكرة "الدولة العازلة" كجزء من استراتيجية تحجيم تركيا وإيران، لكنه يحاول تقليص حجمها قدر المستطاع مع التمني ألا تتوسع اسرائيل عسكريا داخل الأراضي السورية. هذا التوجه يلتقي استراتيجياً مع إسرائيل في ثلاثة محاور رئيسية: أولاً، رفض أي نفوذ تركي قوي يمتد جنوباً، حيث ترى الرياض في أنقرة منافساً على الزعامة، وترى تل أبيب فيها قوة إقليمية غير خاضعة للسيطرة. ثانياً، العمل المشترك على الاستمرار بإضعاف النفوذ الإيراني ووكلائه في سوريا ولبنان كأولوية أمنية وجودية مشتركة. ثالثاً، دعم التجزئة والتفكيك الوظيفي لسوريا، لضمان بقائها دولة منشغلة ومهددة ومعتمدة تماما على المساعدات.
لكن هذا التوافق يتحول إلى خلاف عندما يتعلق الأمر بصراع الزعامة الإقليمية، فبينما تهدف الرياض إلى أن تكون سورية الجديدة امتداداً للنفوذ الخليجي/العربي ومحوراً سنياً موالياً، تهدف إسرائيل إلى أن يكون الجنوب السوري بما فيه أجزاء من دمشق وربما حمص دولة عازلة بين الطموحات التركية والطموحات السعودية، وأن تكون دولة "وظيفية" بالدرجة الأولى، تضمن أمن حدودها وتحييد أي خطر، مع الحفاظ على قدرتها على التأثير المباشر على قراراتها الأمنية.
وإذا كانت السعودية تبدي بعض المرونة في قبول وجود الدولة العازلة فإنها تتشدد كثيرا في مسألة مساحة هذه الدولة ودورها. كما تتباين رؤية الطرفين حول قيادة العالم السني، فالرياض ترى نفسها القائد الأوحد وتطمح لتأكيد هذه الزعامة عبر أي ترتيب إقليمي، فيما تستفيد إسرائيل من التنافس بين الرياض وأنقرة وتعمل على تشتيت جهود هذه القوى. وفي ملف التطبيع، ترى السعودية ضرورة ربط أي تعاون استراتيجي شامل بتقديم تنازلات ذات مغزى في القضية الفلسطينية، بينما تفضل إسرائيل فصل الملفين.
ثالثاً: الوضع الضبابي
يبدو أن دول المنطقة متفقة ضمنياً على عدم الاشتباك العسكري المباشر، لكن تسمح (وربما تشجع) بـ حروب ومجازر محلية متفرقة ومُتَحَكَم بها (كالأحداث التي تشهدها بعض المناطق السورية في الساحل والسويداء)، شرط ألا تتطور هذه التوترات إلى حرب إقليمية واسعة النطاق. هذا الاشتباك المُدار هو الوسيلة لفرض الحدود على الأرض دون المخاطرة بمواجهة شاملة.
إن الصراع الإقليمي الذي يجري حالياً في الغرف المظلمة وعبر القنوات المخابراتية واللقاءات الدبلوماسية الرفيعة، لم يُحسم بعد، ولذلك لم يخرج إلى العلن في شكل اتفاقية واضحة. وفي الوقت نفسه، لم يفشل ولن يسمح أحد بفشله، وهذا هو سر استمرار الوضع الضبابي في سورية.
التوقعات تشير إلى أن مبدأ التقاسم قد حُسم، لكن الخلاف محصور فعلياً في "أين توضع المسطرة" ومتى يرسم الخط ليعيّن حدود مناطق النفوذ والمنطقة العازلة.
التكلفة النهائية للمشروع
الخاسر الأكبر والوحيد من هذه الخيارات هو الكيان الوطني السوري. لقد تحولت سورية -خاصة بعد وصول هيئة تحرير الشام إلى دمشق- إلى ساحة لعب وورقة تفاوض، فُككت بنيتها لضمان ألا تعود قادرة على لعب أي دور إقليمي سياسي أو ثقافي.
ويبدو أن الحفاظ على الأمن الإقليمي للجيران يحتاج بالضرورة إلى تدمير كل الأهداف التي قامت من أجلها الثورة السورية عام 2011 وسحق حلم الناس بإقامة دولة العدالة والحرية والديمقراطية.
#سامي_خويص (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟