أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي ماضي - المعجزة أم المحاولة: لماذا نفضل الوهم المريح على الحقيقة المزعجة؟















المزيد.....

المعجزة أم المحاولة: لماذا نفضل الوهم المريح على الحقيقة المزعجة؟


علي ماضي

الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 08:38
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أثناء إعادة طلاء منزلي مؤخراً، ظهر على أحد الجدران حرف (B)1
بشكل واضح. لم يكن الأمر بالنسبة لي أكثر من مصادفة شكلية، لكنه أثار في ذهني سؤالاً أعمق: ماذا لو كنت أتبع عقيدة تعتبر هذا الحرف رمزاً مقدساً؟ هل كنت سأراه مجرد مصادفة، أم دليلاً إعجازياً يؤكد صدق إيماني؟ إن هذا الحرف لم يكن مجرد طلاء، بل كان مرآة رأيت فيها واحدة من أعمق إشكاليات العقل البشري: الصراع الأزلي بين السعي لاكتشاف ما حولنا عبر ربط الأسباب بنتائجها الحقيقية، وبين الكسل الفكري الذي يدفعنا لأن نحيل كل ما نجهله إلى عالم الإعجاز.
هذا الصراع أعاد إلى ذاكرتي حادثة كاد فيها خزان مائنا أن يتحول إلى مزار مقدس، لولا فطنة أخي "عصام". وإليكم الحكاية كما رواها لي بنفسه. يقول عصام إن الحادثة وقعت في الأيام الأولى التي تلت سقوط النظام السابق، وتزامنت مع شهر محرم. بينما كان جالساً في المقهى، أقبل عليه جمعٌ من الأصدقاء لاهثين: "أنت جالس هنا وقد حدثت معجزة في بيتكم! صورة الإمام الحسين ظهرت على خزان الماء!". يقول عصام إنه لم يصدق الأمر، لولا أنهم أقسموا بأغلظ الإيمان. فنهض ومعه من في المقهى متوجهين إلى بيتنا.
يروي عصام أنه وجد الناس قد تجمهروا حول البيت، بين باكٍ ومصلٍّ على النبي. نظر إلى الخزان، وبالفعل، كانت هناك صورة رأس الحسين مرفوعاً على الرمح، واضحة وملونة لا تقبل الشك. يقول إنه شعر بقشعريرة من الرهبة والخشوع، واتكأ على أحد الجدران حائراً يفكر فيما يفعل. إلا أنه، بعينه الفاحصة، لاحظ أمراً: الصورة نسخة مطابقة لملصق كان منتشراً في الأسواق، والتيار الكهربائي مقطوع عن الجميع ما عدا بيت جارهم الذي يملك مولداً. وعلى جدار الجار المقابل للخزان، كان هناك نفس الملصق. أدرك عصام أن ما يراه الجمع ليس معجزة، بل هو انعكاس ضوء المصباح من الملصق على السطح الصقيل للخزان. بهدوء، شرح للجمع الأمر، فتبدد الوهم وحل محله الضحك، ونجا خزان مائنا من أن يتحول إلى مزار، ونجت عقولنا من السقوط في فخ صناعة الوهم. وما زال أخي "عقيل" يلوم عصاماً ساخراً: "لو تركتهم، لكنا الآن من الأثرياء نبيع ماء البركة!".
لكن السؤال الأهم يبقى: لماذا كان الناس مستعدين لتصديق المعجزة بهذه السرعة؟ الجواب لا يكمن في الجهل الساذج، بل في آلية عمل العقل البشري نفسه. فهذا العقل مجبول على البحث عن سبب لكل ظاهرة، ولا يقبل التسليم إلا بدليل. وحين يعجز عن إيجاد الدليل الحقيقي، فإنه لا يحتمل فراغ المجهول، بل يسارع إلى اختراع "المعجزة" كدليل بديل يطمئن به قلقه ويخدع به حاجته الفطرية للسببية.
وإن كنّا نظن أن هذا الهروب إلى الإعجاز هو حكر على العامة، فإن تاريخ العلم يقدم لنا درساً صادماً. فالقصة تصل إلى ذروتها مع العقل الجبار لإسحاق نيوتن نفسه. نيوتن، الذي فك شفرة الكون بقوانين الجاذبية، اكتشف من خلال معادلاته ذاتها أن النظام الشمسي غير مستقر. وحين عجز عن إيجاد حل رياضي لهذه المعضلة - أي حين غاب الدليل - لم يحتمل عقله الفراغ. فماذا فعل؟ لقد افترض أن هناك "إلهاً" يتدخل بشكل دوري "لإصلاح الأمور". لقد لجأ أعظم عقل علمي في زمانه إلى ما يسميه الفلاسفة "إله الفجوات" (God of the Gaps)، ليرمم به فجوة في معرفته. وهي الفجوة التي سيملؤها العلم لاحقاً.
إنها استجابة عميقة لتلك الفطرة الأولى التي وُلدت مع آدم. فقصة آدم في جوهرها ليست قصة الخطيئة، بل هي قصة ولادة المنهج التجريبي. فالأمر الإلهي "لا تقربا هذه الشجرة" كان أول "مجهول" يواجه الوعي البشري. وآدم، مدفوعاً بالفضول، لم يختر التمرد، بل اختار التجربة، مفضّلاً المعرفة الحسية الملموسة على الأمر الغيبي المجرد. "سقوطه" كان قفزة شجاعة إلى عالم الأسباب والنتائج، عالم المحاولة والخطأ الذي هو أساس كل معرفة بشرية.
وهذه الفطرة الآدمية المتعطشة للبرهان الحسي لم تتوقف. إنها ما دفعت فرعون المتغطرس ليقول: "يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى"، وهي نفسها ما همست في قلب إبراهيم ليقول: "رب أرني كيف تحي الموتى... بلى ولكن ليطمئن قلبي". إنها شهوة "اطمئنان القلب" الأزلية التي لا تتحقق إلا بالبرهان الملموس.
وهنا نصل إلى المفارقة الكبرى. إذا كانت طبيعتنا، فطرة آدم فينا، هي البحث عن الدليل الحسي ورفض التسليم إلا بالبرهان، فما هو "الإيمان" إذن؟ الإيمان بالغيب، بهذا المعنى، ليس ارتقاءً فوق الطبيعة البشرية، بل هو فعل قمعي لهذه الطبيعة. إنه قرار واعٍ بتعطيل الفضول التجريبي والتضحية بالعقل النقدي على مذبح اليقين المسبق. لهذا السبب، فإن الشك والتدبر هما الامتداد الطبيعي لفطرة آدم، بينما الإيمان يتطلب قفزة قسرية فوق تلك الفطرة، وهو ما يجعله فعلاً أقل شأناً من الناحية المعرفية.
وهذا الصراع بين فِطرة آدم الباحثة عن الدليل وبين فعل الإيمان القائم على التسليم، يتجلى على مستوى الحضارات. فالمجتمعات التي تبنت "فطرة آدم" منهجاً للحياة، هي التي أصبح فيها الشك فضيلة والتساؤل واجباً. هذه المجتمعات لم تنتظر المعجزات، بل صنعتها بنفسها. على الضفة الأخرى، تقف المجتمعات التي اختارت "قفزة الإيمان" طريقاً، فحكمت على نفسها بالجمود، وتحولت إلى مجرد مستهلك للمعجزات التكنولوجية التي تنتجها الحضارات القائمة على الشك.
في النهاية، يضعنا هذا البحث الفطري عن اليقين أمام خيارين. فالعقائدي الذي يحاول يائساً أن "يلي عنق الأحداث" ليجعل من صياح الديك لحناً حزيناً على مقتل الحسين( 2)، يستجيب لنفس نداء "اطمئنان القلب" الإبراهيمي، لكنه بدلاً من أن يبحث عن الحقيقة، يفضل أن يصنعها بنفسه. وهكذا، نعود إلى ذلك الحرف على الجدار، وإلى الخيار المطروح على كل منا: إما أن نكون كأخي "عصام"، نستخدم عقولنا لتفكيك الوهم والوصول إلى حقيقة قد تكون باردة ومجردة، أو أن نكون كأخي "عقيل"، نفضل الوهم المريح الذي يجلب "البركة"... والمال.
------_--------------------------
١ https://photos.app.goo.gl/wTVxDLR3BdD3Wm3P6
٢ https://photos.app.goo.gl/WUqoC9dUTq9GJmeu9



#علي_ماضي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عاشوراء من احياء الذكرى الى احياء الامة
- هذا المساء
- نبوءة
- ارصفة الغربة
- انا وسيزيف ورجاء النقاش
- مخاوف بشان الديمقراطية في العراق
- قراءة في الانتخابات التمهيدية للتيار الصدري
- هوامش اجتماعية
- هوامش في التربية
- لا اريد ان اكون ملاكا
- وجهة نظر في جدل مظاهرة يوم الجمعة
- ملاحظات في مأزق تشكيل الحكومةالعراقية
- هم يبدعون ونحن نتعجب
- المنطق الثنائي وحملات الانتخابات الاعلامية.
- التاثيرات المحتملة لنتائج انتخابات مجالس المحافظات السابقة ع ...
- قراءة في خلاف مجلس النواب حول قانون الخدمة والتقاعد للعسكريي ...
- هل نجح المجتمع العراقي في تشكيل راي عام فاعل وموضوعي؟
- قراءة لدور المدرسة في منظومة التربية العراقية(1)
- رأي في جاهزية القوات العراقية بعد انسحاب القوات الامريكية ال ...
- تأملات في انتفاضة الشعب الايراني


المزيد.....




- مصر: بيان من 6 نقاط بشأن مواجهة الحكومة لفيضانات سد النهضة ب ...
- باحثون صينيون يبتكرون طريقة لتحويل الخلايا الجذعية إلى خلايا ...
- عشر غارات في ليلة واحدة... إسرائيل تدمر مئات الآليات الثقيلة ...
- تتويج للدور الريادي المصري: الاتحاد العام لعمال مصر يُثمن ان ...
- الإليزيه: ماكرون يزور مصر الاثنين لدعم اتفاق غزة
- من الخيام إلى الركام.. ولكنهم يعودون
- زلزال ثالث يضرب الفلبين خلال يومين
- كاتب تركي: نتنياهو قبِل خطة ترامب لكنه يفكر كيف يفشلها
- عاجل.. مراسل الجزيرة عن مصدر أمني: اشتباكات بين القوات الأفغ ...
- نصف مليون يعودون إلى غزة وأرقام صادمة عن الدمار الهائل


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - علي ماضي - المعجزة أم المحاولة: لماذا نفضل الوهم المريح على الحقيقة المزعجة؟