عماد يحيى عبيد
محام ، كاتب وناشط حقوقي وسياسي مستقل
(Imad Yhya Obeid)
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 00:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كلما سمعنا بهيبة الاسم المدوّي (هيئة الأمم المتحدة) تعترينا الريبة والحيرة بين التقدير والتوجس لهذا الاسم المركب، تقدير نابع من جلالة الدور الذي يجب أن تلعبه هذه الهيئة لإرساء الأمن والسلام في العالم، وتوجس من الأفعال والنتائج على الأرض فهذه الهيئة محتكرة من أصحاب التاج والصولجان المهيمنين على العالم والمتحكمين بمقدراته والمتلاعبين بمصائره والمتمظهرين بحمايته، أقصد أعضاء مجلس الأمن الخمسة الدائمين الضواري المتقاسمين كعكعة هذه المعمورة، أما باقي أعضاء الهيئة الموقرة وعددهم 188 دولة بين المؤازر والوكيل والمفلس والتابع والمسخ فهم كادر الكومبارس الضروري لتعبئة المشاهد المسرحية حسب الزمان والمكان وبؤرة التوتر.
مسرحية الأمم المتحدة سيناريوهاتها أكثر تعقيدا من أفكار هنري إبسن وأشد عصفا من رؤى برتولد بريخت ولا تأتلف مع صدقية قسطنطين ستانيسلافسكي، هذه المسرحية مقبوسة بدقة متناهية من رواقية زينون الرواقي ومكتوبة بأحبار ميكافيللي، فلأجل الغايات والسيطرة تصبح كل الوسائل مشروعة، في البداية ينزاح الستار عن مشهد ساطع تشع منه أنوار الفضيلة وتحوفه هالة من السمو والرفعة، حيث يتحفوننا بديباجة من الأقوال المنمقة والمأثورات الرصينة والنصائح القدسية، ثم يتبعونها بمجموعة من القوانين والأنظمة المحبوكة بعناية نسّاج ماهر تحاكي في الأمم والشعوب ضمائرها ووجدانها وتحث فيها نوازع الخير ومكارم الأخلاق، فيستأنسها المعذبون في الأرض ويتلقفها المنضامون من نوائب الحياة على أنها الخلاص الديني والدنيوي، إلى أن تدخل مشاهد المسرحية في التأزم ويبدأ صراع الشخصيات المؤثرة، هنا يأتي دور المخرج بتوزيع الأدوار وتقاسم مساحات الخشبة، بينما على المقلب الآخر يصدق الجمهور سيناريوهات المسرحية المتبدلة، ويقضي جل وقته بالتحليل والتركيب والثناء والهجاء ولا ينسى أن يزج بالكثير من كوادره في كومبارس المسرحية معتقدا أنه مشارك في صناعة الحدث وغافلا عن أنه الضحية اللازمة لاكتمالها، مسرحية بلا بداية ولانهاية.
لعل اتفاقية بوتسدام عام 1945 التي تمت على أعقاب الحرب العالمية الثانية بين الدول المنتصرة (الولايات المتحدة – الإتحاد السوفييتي – بريطانيا) التي رسمت أراضي النفوذ في المسرح الأوربي وتجميد ألمانيا كقوة عسكرية، هذه الاتفاقية التي استبعدت فرنسا منها جعلت شارل ديغول يعارضها إلى أن وصلت التفاهمات السرية إلى جعل أوروبا الغربية منطقة مميزة ومستثناة من خرائط الصراع المقبلة إلا ماندر وهذا ما يفسر استقرارها، وفي نفس السنة تم إنشاء منظمة الأمم المتحدة التي صممها هؤلاء المنتصرون على مقاسهم. حيث اقتصر أعضاء مجلس الأمن وقتها على الأربعة الكبار (الولايات المتحدة – الاتحاد السوفييتي – بريطانيا – فرنسا) بينما جاء انضمام الصين بعد إقصاء تايوان وحلولها محلها وأضحت عضوا دائما عام 1971 بموجب اتفاقات وجولات سرية بينها وبين الولايات المتحدة كان عرابها وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر برعاية رئيسه ريتشارد نيكسون.
أسوق هذه المقدمة الطويلة كتوطئة لوصول لجنة التحقيق الدولية (المستقلة) المسماة من مجلس حقوق الانسان التابع لهيئة الأمم المتحدة، هذه اللجنة التي مهمتها الآن التحقيق في المجازر المرتكبة في السويداء، حيث يؤكد المختصون أن طبيعة هذه اللجنة ليست سياسية ولا دبلوماسية، بل هي قانونية مهنية احترافية، غايتها التوثيق وجمع الأدلة ومعايرتها وفقا للقانون الدولي ورفعها لهيئة الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان.
هذه اللجنة الاحترافية عبارة عن موظفين تقنيين لن نسيء الظن بهم مسبقا، لكنهم مشلولي الفعل المؤدي للنتائج المرجوة، يقبضون رواتبهم وينصرفون إلى مهام أخرى.
هنا يبدأ فصل جديد من فصول المسرحية، هل ستقوم الأمم المتحدة بالمحاسبة؟ أم ستحيل الملف إلى السلطات السورية وفقا لاتفاقية خارطة الطريق الموقعة في عمان؟ وفي كلتي الحالتين النتيجة محبطة، فنادرا ما قامت الأمم المتحدة بتنفيذ خلاصة التحقيقات التي تجريها لجانها وغالبا ما تقوم بتوجيه التوصيات أو فرض عقوبات وهمية وبالنتيجة تمييع القضية وتسطيحها ومن ثم نسيانها، والأدهى أن تعيد الملف للسلطات السورية التي لم تعاقب مجرما يخصها حتى الآن، وأحداث الساحل السوري مازالت شاهدة بالرغم من أن السلطة نفسها هي التي قامت بالتحقيق، فقسم من مجرمي مجازر الساحل شاركوا في مجازر السويداء وبعض منهم نالوا الثناء والعطاء.
هكذا هو تاريخ الأمم المتحدة تحت سطوة رعاتها الأقوياء يفصّلون القوانين على مقاساتهم ويطبقونها بحذافيرها لأجل مصالحهم، وحين تصطدم مع مصالح الآخرين يتم طيّها، بل أنها كثيرا ما تحمي الجلاد وتتواطأ على الضحية، والشواهد كثيرة من الصراع العربي الإسarئيلي ومأساة فلسطين، وغزو العراق وقمع حركات التحرر في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكافة الجغرافية العالمية، ولم تنج منها أوربا العجوز وما حدث للدول البائسة المفتتة عن يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي، حيث بقيت اتفاقية بوتسدام حامية لأوروبا الغربية فقط.
لعل أهم الأكاذيب التي صدّرتها هذه المنظمة هي كذبة (الديمقراطية) فباسمها يمكن التدخل وقلب أنظمة وتثبيت أنظمة، بل والدفاع عن الاستبداد وفق هذا المفهوم. ففي تقرير أعدته منظمة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) يعود إلى شهر تشرين الثاني من عام 2007، قامت المنظمة بتقصى وضع حقوق الانسان ومدى توفر الديمقراطية في أكثر من 75 دولة حول العالم، خلص إلى القول: (إن الطغاة صاروا يؤمنون بأن الطريق إلى الشرعية يمر باعتماد الديمقراطية، لكن التقدم على هذا الطريق هش، ويعتمد معناه على مدى التزام النظم الديمقراطية الراسخة القائمة في العالم بدفعه للأمام. إذا هي قبلت أي طاغية يقدم مسرحية هزلية للانتخابات)
نعم فمعظم النظم الاستبدادية في العالم مدعومة ومشرعنة من الدول التي تتبجح بأنها من حماة الديمقراطية وحقوق الإنسان، فتطلب من تلك النظم تصدير خطابات ملساء عن العدالة والمساواة والحريات والحقوق ودور الدولة، كما تطلب منها تمثيل مسرحيات هزلية سيناريوهاتها الانتخابات والمؤسسات الكرتونية والقوانين الشكلية، وتكتفي منها بهذه المشاهد، ثم تترك لها الحبل على الغارب لتفعل ما تشاء، وآخر همها معاناة الشعوب ومصائرهم، شريطة أن تبقى مصالحها محفوظة ومصانة، وحين ينتهي دور كل نظام تستبدله تحت شعار الحرية والديمقراطية، وما يحصل في سوريا مسرحية محبوكة بأياد خارجية، والجمهور الساذج يشاهد ويصدق ويشارك.
#عماد_يحيى_عبيد (هاشتاغ)
Imad_Yhya_Obeid#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟