عماد يحيى عبيد
محام ، كاتب وناشط حقوقي وسياسي مستقل
(Imad Yhya Obeid)
الحوار المتمدن-العدد: 8387 - 2025 / 6 / 28 - 02:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
....
كما على الطبيب إعلام مرضاه بالحقائق المرضية، حيث معرفة المريض بمرضه أولى طرق العلاج، كذلك في تحليل السياسة ليس من المجدي الترفع عن ذكر المكونات الإثنية في سوريا صراحة، قومية كانت أو دينية (بطوائفها ومذاهبها) حيث يتوجب تسميتها باسمها وتحديدها في معرض توصيف الحالة الواقعية لها والمتشابكة مع الحالة السياسية، وذلك ليس بقصد تفخيمها أو اتهامها، بل لتقييم دورها بغية التوصل إلى تشخيص صحيح وحلول مقترحة لتجاوز حالة التعصب التي أسفرت عن تصادمات وصلت إلى الدموية.
لو أجريتْ انتخابات ديمقراطية شفافة في سوريا وبإشراف دولي ورقابة عالمية، فالفائز سيكون من المكون السني دون أدني شك، وسيكون من المتدينين أيضا حتى لو كان المنافس سني علماني.
ولو طلبت من المكون المسيحي أو العلوي أو الدرزي أو الإسماعيلي ترشيح شخص أو أشخاص لتولي منصب ما، فالفائز سيكون هو المرشح الذي تدعمه الهيئة الدينية من هذه المكونات.
وعند حدوث أي أمر جلل أو مصاب يخص دين أو مذهب أو طائفة ما من مكونات الوطن السوري، فالجميع ينتظر كلمة الإمام أو الشيخ أو البطرك وردة فعله، دون الاتكال على مواقف الأحزاب والتيارات والهيئات والتجمعات، بما في ذلك المثقفين والمفكرين وبعض الشاهرين لشعار العلمانية. وبنفس الوقت سنجد بعضا من هؤلاء المثقفين المدعيين للعلمانية يرتدّون إلى التماهي مع الخطاب المذهبي الطائفي كحالة دفاع عن هذا الانتماء في الأزمات، ويتصدر هذا الموقف خطاب بعض النخب التي تلجأ إلى الدفاع عن مكونها الإثني المنتمية إليه عندما يُتهم اتهاما عاما كحالة تطهر من التهمة، ويتم ذلك غالبا بردها على المُتَهِم من منطق تعصبي.
وقبل أن ينتقد أو يخالف من يعارض هذا الرأي ويستشهد بتاريخ سوريا في الخمسينيات والموقف من فارس الخوري المسيحي أو سلطان الأطرش الدرزي أو إبراهيم هنانو الكردي أو محمد سليمان الأحمد العلوي أو غيرهم، مستعرضا تسيد الخطاب الوطني في تلك الفترة ودحره للخطاب الطائفي أقول: إن حقبة أكثر من ستين عاما تلت تلك المرحلة الذهبية الوجيزة، رزخت تحت تغول العسكر وإخصاء الحريات وغياب الألوان التعددية قد غيرت النفوس والأفكار نحو الانكفاء للحلقات الانتمائية الدون وطنية وأهمها الدين والعائلة.- علما أن جمال باروت يؤكد أن الفترة الوحيدة التي عاشت فيها سورية حالة الدولة هي بين عامي 1943 و1949، بعدها اغتالها حسني الزعيم ومازالت مغتالة إلى الآن.
السبب في التمترس خلف الموقف الإثني يعود إلى ذهنية التعامل بردة الفعل التلقائية للشريحة الأكبر (الدهماء)، فالأمر لا يتعلق فقط بفشل العلمانيين وتشرذمهم واهتلاك أحزابهم وضعف خطابهم قياسا بالتمدد الديني وخطابه الجامع، فقد آزر ذلك، التغول التاريخي للفكر الاستبدادي القمعي المتشح بوشاح العلمانية والمروج للحرية الشخصية المنمقة في الشكل والمزورة في المضمون، فتاريخ المعاناة مع ذاك النهج الاستبدادي الديكتاتوري نحا بالعامة نحو الالتجاء إلى الفكر الديني بما يملكه من حلول غيبية أو جهادية بعد تنامي اليأس من الفكر الوضعي. لذلك أسهل على الدهماء اتباع الفكر الديني الجامع والمحصن بالحلول اللاهوتية والذي لا يحتاج إلى تشغيل المدارك القصوى للعقل غير المعتاد على المحاكمات والأسئلة والرفض.
أعود إلى البداية لأقول من السذاجة أن يتنطح العلمانيون للمطالبة بعلمانية الدولة في سوريا كحالة ناجزة فورا، فلا هم قادرون على تصدير مشروعهم الناضج والجاهز، ولا هم يمتلكون الأدوات المؤثرة والفاعلة في مفاصل الدولة، ولا هم يشكلون كتلة واحدة متفقة ومتماسكة، فضلا عن افتقارهم للقاعدة الشعبية المؤازرة، وعدم التكافؤ مع الخصم بالعدة والعتاد.
سؤالان متناقضان يترددان على ألسنة دعاة المدنية والعلمانية، هل العلمانية هي القادرة وحدها على انتاج الدولة ذات الطابع العلماني المدني؟، أم لابد من وجود الدولة بتكوينها القانوني المؤسساتي القادرة على إرساء الحريات والعدالة لنصل إلى المجتمع المدني العلماني.؟
الحامل الأساسي لأي مشروع تنويري علماني هو تفوق العقل وارتفاع منسوب الوعي واندحار الجهل، سيما بعد مرحلة مرّة طويلة من الركون السياسي والاستلاب الفكري والانكفاء إلى الذاتية والخلاصات الفردية، تلتها محرقة الاقتتال الداخلي التي تخرب فيها النسيج المجتمعي السوري وازداد استشراء الأمية والتشتت الأسروي وتفشي التسول والفقر والقهر، فضلا عن النكوص المعرفي والثقافي المؤسف، فلتجاوز هذا الوضع العصيب وكي يتجلي المشروع التنويري العلماني في سوريان ذلك يحتاج إلى مرحلة زمنية لا تقل عن جيل من الزمن (الجيل بين 25 و30 سنة). فتلك الارتكاسات والرواسب وما صاحبها من رِدّة نحو التعصب الديني تفشت في كل الأديان والمذاهب بلا استثناء فظهرت بشكل صلف لدى الأكثريات وبشكل خجول ومتقوقع لدى الأقليات، جعلت الكلمة الأولى لرجال الدين، ليس من منطق امتلاكهم للحقيقة وسداد الرأي، بل من منطق الالتفاف القطيعي للمستضعفين المهمشين أو حتى للمقتدرين اللائذين بتقية الدين نحوهم، في ظل وجود خصم يحكم بعصا الاستبداد المرتدية لثوب مدني تنكري.
المشكلة ليست في دين أو مذهب رئيس الدولة، فحين تتشكل الدولة بمعناها الحقوقي القانوني يصبح الدين مجرد صفة لاحقة غير مؤثرة، لأن الحكم الأساسي سيكون للمؤسسات والقوانين، وستكون العدالة والحرية والأمان وبالنتيجة الديمقراطية أهم السمات الواسمة للدولة الحقيقية.
ولكي نصل إلى مرحلة الدولة المرجوة لابد من النهوض بالعقل الجمعي وتجريديه من الحالة القطيعية التبعية إلى الحالة العاقلة الواعية، وذلك بالتخلص من الجهل والتخلف وتغيير أدوات التفكير وطرائقه ونشر الوعي الحضاري.
وحتى نتجاوز هذه المرحلة ونصل إلى حالة انتاج الدولة الدستورية المعاصرة بغض النظر عن توصيفها (علمانية - مدنية - دينية) فيكفي أن تكون دولة لتذوب فيها الانتماءات وتتخلص من التسميات، طالما الديمقراطية والحرية والعدالة هم ضماناتها من أي انحراف أو تغول. لذلك يبدو أنه لم يبق للقوى العلمانية وكل القوى المدنية الطامحة للوصول إلى الدولة الشاملة الحافظة لحقوق مواطنيها بغض النظر عن فئاتهم وطوائفهم وأيديولوجياتهم وأعراقهم أو قومياتهم أو أعدادهم ، لم يبق لهم إلا التغلغل في مسامات المجتمع والعمل على انهاضه وتغيير سلوكيات تفكيره وكسب مودته، وبنفس الوقت الانخراط مع هذه السلطة التي مازالت تحت تأثير الذهنية المتدنية وآلياتها في الحكم، لا لمساعدتها في مشروعها الانغلاقي الدعووي، بل للعمل معها وجرها نحو مسار حالة الدولة بمفهومها القانوني المؤسساتي المنتظر، علما أن محاباتها بالطرق المكرورة مع النظام السابق والسكوت عن مطباتها والثناء على منجزاتها وتبرير أخطائها هو مساهمة في إفسادها وتراجعها وتطويل حالة الشفاء وخسارة إنجاز حالة الدولة.
خاتمة مؤلمة: مع كل ما ذُكر سيبقى انتاج حالة الدولة مسألة مستحيلة وعاجزة عن تحقيق ذاتها إن لم تتمتع باستقلالها وسيادتها الوطنية المطلقة، وهذا أمر مستعصٍ في الشرق الأوسط المحكوم بلعنة الجغرافيا.
#عماد_يحيى_عبيد (هاشتاغ)
Imad_Yhya_Obeid#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟