عماد يحيى عبيد
محام ، كاتب وناشط حقوقي وسياسي مستقل
(Imad Yhya Obeid)
الحوار المتمدن-العدد: 8441 - 2025 / 8 / 21 - 17:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بالعودة إلى التصريف اللغوي لمصطلح (مظلومية) من الفعل (ظَلمَ) في صيغة الماضي المعلوم المنسوب لصيغة الفرد المذكر هو، ومعناه (جارَ ولم ينصفْ وعكسه عَدَلَ) وجذره (ظُلمْ) وجذعه (ظُلمْ) واسم المفعول (مظلوم)، ليأتي مصطلح (مظلومية) كصيغة مبتكرة من سياق الاشتقاق اللغوي الشائع، وتصبح دلالته التعبيرية مناقضة لمعنى الأصل الذي اشتق منه حيث أضحى يستخدم لتبرير التجاوزات والانتهاكات تحت حجة الظلم والإقصاء وعدم الانصاف.
مصطلح المظلومية الذي يعني (تمثيل دور الضحية) عالجه علم النفس على المستوى الفردي معالجة طبية بمعزل عن امتداده الاجتماعي أو السياسي وقد عُرف بـ (متلازمة مونخهاوزن – اضطراب المرض الانفعالي) نسبة إلى البارون (مونخهاوزن) الذي وظف هذا المصطلح في قصصه وتجاربه في الحياة، حيث يظهر على صورة ادعاء المرض والمبالغة في توصيفه، ثم ظهر مصطلح آخر مقتبس منه هو (متلازمة مونخهاوزن بالوكالة) وهنا يتولى شخص وكيل تحضير شخص آخر وتقديمه على أنه ضحية ويتبنى حالته ويسوقها ليستفيد منها، وقد تجاوزت هذه الفكرة مستوى الفرد لتنسحب على الجماعات الاثنية سواء أكانت دينية أو عرقية أو سياسية أو اجتماعية.
يركز مصطلح المظلومية بمفهومه الاصطلاحي الإيديولوجي على ذات المظلوم وهويته، لتصبح حالة الظلم كأنها هوية ملازمة للمظلوم حتى ولو ارتفع عنه الحيف، ثم تتحول إلى تابو ممنوع الاقتراب منه أو التشكيك به تحت طائلة تجريم إنكاره أوالنيل منه ليغدو هيكلا مقدسا لدى المنضوين تحت تلك الهوية.
يصور لنا هذا المصطلح أن المظلوم (فرد أو جماعة) مسكين ومسلوب الإرادة ومفتأت عليه، وقد يكون ذلك صحيحا نسبيا، لكن دعاته وسعاته يعملون على تأجيج الحالة لإظهارها وتسويقها بتضخيم الظلم قد يصل إلى درجة التزوير، تظافرا مع الترويج الإعلامي المصاحب والمدعوم من الجهات الوكيلة وتكون نواتها حاضنة شعبية، فتستخدم كوسيلة ضغط بأساليب مختلفة تبدأ بالابتزاز وقد تصل إلى العنف والدموية، حتى أن منتسبي المظلومية يتفاخرون بها على أنهم ضحايا متميزون عن غيرهم بتحملهم للظلم والمعاناة كحالة تفوق على الغير، وهنا يأخذ العامل الإيديولوجي دوره في قيادة المظلومية وإرجاعها إلى عقيدتها الجمودية في ذروة تطرفها وانغلاقها، فتقود نضالها تأسيسا على مرجعية الانتماء وما تحمله تلك المرجعية من تعصب وتأزم ورغبة بالثأر وليس تحقيقا للعدالة والانصاف.
كثيرا ما يتواطأ ضحايا المظلومية مع جلاديهم عن قصد أو غير قصد حين يبالغون بتصوير مظلوميتهم بالتهويل والفجائع والقيام بممارسات عنيفة وتصادمية، تستفز الجلاد ليرد على ذلك بفعلين متوازيين، الأول تعزيز مكانة أشخاص من المحسوبين على تلك المظلومية وإشراكهم معه في السلطة والظلم كعمل دعائي إعلامي كمحالة للخروج من الاتهام الإثني، والثاني بالرد القاسي على الممارسات العنفية التي يقوم بها مدعو المظلومية.
المظلومية العرقية والدينية والقومية غالبا ما تلجأ إلى الصراع الانتقامي المتجاوز لمرحلة استرجاع حقها المزعوم، فتتحول إلى ظالم مضاد لكن تحت راية المظلومية وحصانتها، سيما إن اعتمدت على ماكينة إعلامية (بروباغندا مسرحية) مؤازرة تبدأ بالضخ والتجييش وتضخيم الجناية والتركيز على الجراح والمكابدات وهول المصاب، يتبعها جمهور مقاد من الدهماء السريعة الانفعال المحكومة بالتسليم للخطاب الديني المتشدد أو الانتماء العرقي المجني عليه أو الأصول القومية العصبية، هنا لا تفرق هذه الدهماء ولا ساستها بين الجاني والآخر، فكل ما هو آخر هو جان بمفهومها ويجب الانتقام منه مادام لا يماثلها في العقيدة أو العرق أو القومية.
أما الطامة الكبرى فتتمثل عندما تتمكن الجماعة أو الفئة المنتسبة إلى تلك المظلومية من الفوز أو الانتصار على من كانت تعتبره ظالمها، فإن حالة المظلومية تنتقل من رفع الظلم إلى الانتقام المبني على الحقد والإيغال به، فيتعدى الانتقام شخوص الظالم الأساسي إلى ملته برمتها، بل يصل إلى المكونات الأخرى حتى ولو لم يكن لها دور في تلك المظلومية، فتمارس ديكتاتورية تتفوق على ديكتاتورية ظالمها مبررة سلوكها بحجج جاهزة ترتكي على ما عانته وما تحمله من ندوب تنسبها إلى صفتها السابقة كضحية ومجني عليها، وتتمادى في ممارسة حالة استبداد جديدة بإيديولوجيا عنفية تطالب الآخر دائما بالاعتراف بالتقصير والذنب والخضوع وترفع منسوب سقف متطلباتها تجاه الأخر قد يصل إلى تحويله إلى عبد لها.
لعل ما يحدث الآن في سوريا من مجازر وانتهاكات ممنهجة سواء على مستوى السلطة أو الأفراد المسميين عليها يؤكد مدى ديكتاتورية هذا المصطلح (المظلومية) وقدرته على الفتك بالنسيج الاجتماعي متبنيا ذهنية ما يسمى (المظلومية السنية) التي فرّغت جام غضبها انتقاما من الحقبة الأسدية على مكونات الشعب الأخرى، وبالرغم من اعتلائها سدة السلطة واحتكارها لها وتسيدها لمفاصل الحكم، لكن الغل السابق الذي بني عليه التجييش الديني والتعاليم الانتقامية لم يقف عند استعادة الحق المغصوب الذي تزعم أنه لها، بل أنها ترفع سقف استعلائها على المكونات الأخرى وإجبارهم على رفع راية الإذعان وتقديم طقوس الطاعة والولاء دون أن تتنازل عن جبروت الطغيان، وإن زينت خطابها الرسمي وشذبته سيبقى متنافرا ومتناقضا مع سلوكياتها على الأرض كسلطة وأفراد.
أما النتيجة الباهضة الثمن لديكتاتورية هذا المصطلح فتتجلى في انعكاساتها وولادته في مظلومية جديدة منبثقة عنها ومتعاكسة معها، فالمظلومية السابقة المنتصرة واقعيا والخاسرة أخلاقيا نتج عنها مظلوميات جديدة تعس بجمار قد تنبئ بحريق قادم واستنبات أحقاد جديدة أكثر غيضا وضراوة خاصة عند البريئين من الاتهامات الحقيقية للمظلومية السابقة، تؤدي إلى عنف وعنف مضاد واضطراب وخراب على مدى المساحة الجغرافية المتأثرة بالفعل ورد الفعل.
مع التنويه أن ممارسة المظلومية لبطشها ليس رد فعل، بل فعل مبتدأ مستقل بحد ذاته بعد أن تخلصت من الظلم الواقع عليها، واستعادت حريتها المسلوبة التي وظفتها كمحور وحامل لمظلوميتها، عندها يصبح الانتقام فعل وجناية بحالة هجوم وليس دفاع.
بالمحصلة نجد أن ديكتاتورية هذا المصطلح (المظلومية) جعلت منها نوعا من الفاشية المتخلفة في مواجهة التاريخ النهضوي، ومن السذاجة أن نعتقد أنه يمكن للمظلومية أن تؤسس أو تساهم في إحقاق الحق وجبر الضرر وإرساء الدولة، بل على العكس هي حالة نكوص وتخلف في معالجة العدالة، ولو عدنا إلى أسبابها سنجد أن العرق أو الدين أو القومية هي الوسائط التي بنيت عليها هذه المظلومية وتم استخدامها كإيديولوجيا ومرجعية للوصول إلى السلطة وتحقيق المصالح الخاصة بالأسياد المحركين للمظلومية كوسيلة تبررها الغايات الطامحة للتسيد.
#عماد_يحيى_عبيد (هاشتاغ)
Imad_Yhya_Obeid#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟