|
حماس وحزب الله: تكفير النقد ورفض النصائح
محمد علي مقلد
(Mokaled Mohamad Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 02:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حماس وحزب الله تكفير النقد ورفض النصائح محمد علي مقلد 7-10-2025 في الذكرى السنوية الثانية على الطوفان والإسناد تظهر بارقة أمل قريبة بنهاية حرب غزة وأبعد منها قليلاً نهاية العصر الميليشيوي في لبنان. في السابع من شهر تشرين الأول 2023 اخترق مقاتلو حماس غلاف غزة. انتهت العملية البطولية بمثل ما كانت تنتهي حروب الغزو في الجاهلية، غنائم وسبايا وحرب طويلة أين منها داحس والغبراء وبها اختتمت إسرائيل حروبها الخاطفة، وبدأت حروب السنوات. في الثامن منه بدأت حرب الإسناد في جنوب لبنان. بعد أيام ثلاثة، في 11-10-2025، بدأنا ننشر بالتزامن في جريدة نداء الوطن اللبنانية وفي موقع الحوار المتمدن مقالات عن الحربين من موقع التضامن مع القضية الفلسطينية والخشية عليها من مغامرة بطولية من دون شك، لكن قصيرة النظر. المقالة الأولى طرحت التساؤل عن مآل تلك الحرب، وعما إذا كانت بحثاً عن تسوية لحل القضية الفلسطينية أم سعياً وراء سراب حمله العنوان، طوفان الأقصى. المقالات المتلاحقة مرتين في الإسبوع كانت بمثابة سباحة ضد التيار، كسرت حدود المجاملات "الثورية" وتضمنت إشادة ببطولات المقاتلين ونقداً لخارطة طريق كانت قد بدأتها حركات التحرر الوطني وتابعت تنفيذها، على طريقة سباق البدل، منظمات الإسلام السياسي. لعل المراجعة النقدية في نهاية الحرب تؤكد قول الشاعر جرمانوس فرحات "ليس المغامر محموداً ولو سلما"، من غير أن تطلب من المغامرين تلاوة فعل الندامة. فقد بات ثابتاً أنه كان من الممكن التخفيف من حجم الخسائر البشرية والمادية الهائل لو أن قادة الحربين، الطوفان والإسناد، تصرفوا استناداً إلى ما كانوا يعرفونه عن "وحشية" العدو، وعقدوا مقارنة علمية بين قدرات كل من المعسكرين المتقاتلين، وراجعوا تاريخ الحروب العربية الإسرائيلية، وأخذوا بالقراءة الاستباقية في مقالاتنا العشر الأولى المنشورة بعد بطولات غلاف غزة. أخذ البعض علينا الاستعجال في نقد الحرب، وقت كانت تسود المشهد مشاعر التضامن. اليوم ، بعد أن خفت صدى الشعار، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، قد تكون المراجعة النقدية أكثر إلحاحاً، لكنني سأقدم قراءتي الاستباقية تحية لشعب غزة البطل الذي صمد في وجه استبدادين فتحمل نتائج الوحشية المعادية وصبر على ظلم ذوي القربى.
11-10-2023 الطوفان : تسوية في فلسطين أم حسم ؟ الجواب صعب وسهل. يخون وطنه وعروبته وأمته ودينه وإنسانيته أي عربي لا يتضامن مع الشعب الفلسطيني ضد دولة اغتصبت أرضه وشردته ومارست عدوانيتها على دول وشعوب عربية أخرى. إسرائيل هي آخر نسخ العنصرية على الكرة الأرضية وأبشعها وأكثرها خطراً وإجراماً. وهي آخر نسخ الاستعمار. تأسست حين كان يشرف على نهايته مع الحرب العالمية الثانية. يحق لشعب وزعته الصهيونية على مخيمات اللجوء أن يفعل المستحيل، أن يبتكر ما توصلت إليه وما لم تتوصل مخيلات الثورات في التاريخ. صيدا أحرقت نفسها في وجه أرتحششتا، الكاميكاز انتحاريون بطائراتهم، اللبنانيون بأجسادهم، الفيتناميون مرغوا أنف الاستعمارين الفرنسي والأميركي، الجزائريون قدموا مليون شهيد على مذبح الحرية، مقاومة الاحتلال أطلقها الشيوعيون في الاتحاد السوفياتي ثم في كل أوروبا ضد النازية. من البديهي أن ينحاز واحدنا إلى قضية شعب ضد دولة قراصنة. الدول خارج العالم العربي لا تبحث إلا عن مصالحها. الأكثر سخاء في تضامنه يدعو إلى ضبط النفس وعدم التصعيد والبحث عن وقف شلالات الدم. والأكثر انحيازاً للجريمة يقدم دعمه المادي والمعنوي لتمكين إسرائيل من استكمال وحشيتها. وبعض المتحمسين لعروبتهم يقيمون احتفالات النصر ويقيمون حواجز الحلوى ويرفعون شارة النصر. أما تجار القضية فيعلنون وقوفهم إلى جانب غزة حتى آخر فلسطيني على أرض فلسطين أو في الشتات. لغة الحسم في المعارك مع الصهيونية قديمة. من صواريخ القاهر والظافر والناصر حتى الأسلحة البالستية والتهديدات الإيرانية بالقضاء على إسرائيل في سبع دقائق وما بينهما صواريخ صدام حسين والكلام الشائع عن النصر الإلهي وعن معركة وجود لا معركة حدود. حافظ الأسد وحده كان متحفظاً ومتواضعاً في طلباته. طالب بمساعدته على إقامة توازن استراتيجي مع العدو. مع أنه لم يسع إلى تحقيقه، فهو اشترط أن يحصل على تمويل كاف يمكنه من تأبيد سلطته على سوريا ومن احتكار القرار العربي والإمساك بالورقتين الأردنية واللبنانية ومصادرة القرار الفلسطيني. مع أن لغة الحسم هذه كانت تفضي دوماً إلى نقيضها، أي إلى هزائم تعلوها شارات النصر. فلا تزال البطولات الفردية والجماعية في مواجهة جيش الاحتلال محل اعتزاز الشعوب الحرة في العالم، لأنها النقطة المضيئة الوحيدة في ظلام الإدارات الفاشلة والقيادات القاصرة القصيرة النظر. لو أن تلك المعارك حسمت لصالح هذه الإدارات لدخلت فلسطين المحررة نادي "الربيع العربي" مع كل شروط الحرب الأهلية الجاهزة بين غزة ورام الله، ونموذجها مخيم عين الحلوة، أو تحولت إلى نسخة منقحة من سوريا المدمرة أو العراق المنهوب أو اليمن المقسم، أو إلى ما يشبه أفغانستان المنتصرة لا على جيوش الاحتلال فحسب بل على النساء الأفغانيات السجينات في المنازل، أو إلى صومال "الشباب" والأصوليات التي استولدت من رحم الجهل قراصنة في البحر وميليشيات في البر. الثورات لا تبحث اليوم عن عدتها في رباط الخيل والطيور الأبابيل، ولا هي تنافسٌ بين الأكثر استبداداً والأكثر جهلاً، ولا هي سباقٌ على ممارسة القهر والعنف وعلى التسلح. إذا كان لها من مبرر فهو البحث عما هو أفضل لسعادة الإنسان، لأن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة"، والأرض التي قصدها محمود درويش في عبارته هذه هي أرض فلسطين. نخشى على فلسطين من لغة الحسم لأن عدته العلم والحسابات الدقيقة لا العواطف والحماسة وتكبير الكلام. أمام الشعب الفلسطيني فرصة استثمار بطولاته في البحث عن تسوية مرحلية حتى لا يتحول وهم الحسم إلى مجزرة جديدة.
14-10-2023 مع القضية الفلسطينية أم مع حاملي لوائها؟ هل أنت مجبر، إن كنت مناصراً للشعب الفلسطيني ولقضيته، أن تناصر حركة حماس؟ هو السؤال المحرج الذي لن يكون الجواب عليه سهلاً. الصديق وقت الضيق. هذا صحيح، لكن سؤالاً آخر ينهض للتو: ماذا عساه يفعل من لا يملك غير الكلمة الحرة ومشاعر التضامن الصادقة؟ في ندوة عن المقاومة في كفررمان عام 1993 حضرها قياديون من حزب الله ومن الحزب الشيوعي حاولت أن أقدم جواباً على السؤال عن أسباب تراجع دور المقاومة الوطنية اللبنانية يومذاك وتنامي دور المقاومة الإسلامية. قلت إن نجاح المقاومة رهن لا بقدرتها الميدانية على المواجهة فحسب، بل بمشروعها لما بعد التحرير. الحزب الشيوعي كان يخطط لإقامة حكم وطني ديمقراطي مستلهم من أدبيات حركات التحرر بقيادة الاتحاد السوفياتي. البيان الذي وقعه جورج حاوي ومحسن ابراهيم في 16 أيلول من العام 1982 وجد طريقه إلى التنفيذ بعمليات بطولية نفذها الشيوعيون قبل أن تظهر إلى العلن أزمة التحرر الوطني. وحين بدأت ملامح الانهيار تظهر على التجربة الاشتراكية ومنظومتها كان من الطبيعي أن يهتز مشروع ما بعد تحرير التراب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي ويهتز معه دور جمول. اختار الحزب الشيوعي تفسيراً آخر ذا طابع أمني يتعلق بالتسليح والعلاقة بالحلفاء. في المقابل وافق حزب الله على أن يكون جزءاً من السلطة التشريعية فكان له ممثلوه في أول برلمان منتخب بعد توقف الحرب الأهلية، ما يعني موافقته كحزب سياسي على تنفيذ ما ورد في وثيقة الوفاق الوطني وما أوكل إلى رفيق الحريري تنفيذه، أي إعادة بناء الدولة. غير أنه راح يوظف الأعمال البطولية لمقاوميه في ما يتناقض مع إعادة بناء الدولة ما أدى شيئاً فشيئاً إلى فقدانه الإجماع اللبناني على تقدير بطولات المقاومين، وإلى طرح السؤال، هل من الضروري أن يتلازم الاعتزاز ببطولات المقاومين بتأييد سياسة حزب الله؟ هل من الضروري أن يتلازم تأييد الاشتراكية كمشروع نبيل لمستقبل البشرية بتأييد سياسة الأحزاب الشيوعية أو أن تتلازم الإشادة بانتصار ستالين في حربه ضد النازية بتأييد القهر الذي مارسه على رفاقه في الحزب وعلى شعبه؟ وهل يكون إنجاز نابليون بإنقاذ الثورة الفرنسية وتعميمها على أوروبا مبرراً لتأييد ممارسته الاستبداد؟ سؤال أول يطرح على حركة حماس. ماذا بعد العملية الناجحة بكل المقاييس؟ بطولات فردية وتخطيط متقن وقدرة على المباغتة وعلى المواجهة وعلى الاقتحام؟ إسلاميو الجزائر فازوا في الانتخابات وخسروا دورهم. داعش أقامت دولة وسرعان ما انفرط عقدها. كم من انقلاب عسكري في العالم العربي وفي العالم حكم ثم انهار لأنه لم يقدم إجابة على سؤال المستقبل؟ القضية الفلسطينية لا مثيل لها في العالم المعاصر. وإسرائيل لا مثيل لتوحشها في مرحلة الحضارة الرأسمالية، إبادة متكررة واستيطان وتمييز عنصري وقهر يومي وشعب مستعار ودولة مفتعلة " تجمع فيها كل لسن وأمة" (أبو تمام)، لكننا نحاربها بالأحلام والأوهام والمواجهات اللغوية. نستعطف العالم على دماء شهيد وبكاء طفل ونحيب أم ودمار وتهجير جماعي، فيما المواجهة تحتاج إلى عدة أخرى، أولها أن يقبل بعضنا بعضاً، ألا تكون فلسطين، المحررة ولو صورياً، مجزأة بين غزة ورام الله. كان على حماس أن تستشرف كيف يمكن لها أن توظف انتصارها، وأن تسأل عما هو أبعد منه. ماذا لو تحررت فلسطين كلها غداً أو بعد غد؟ ماذا سيكون مشروعها لإدارة البلاد؟
28-10-2023 حزب الله خاسر حتى لو انتصر
حسابات نتائج الحروب بين الجيوش بسيطة. الخسائر البشرية والمادية تحدد بالأرقام، يضاف إليها حجم الدمار وميزانيات إعادة الإعمار. حين يتعب المتقاتلون يذهبون إلى تسويات، أو تستسلم القيادة فيفرض المنتصر شروطه على المهزوم. أما حروب التحرير فحساباتها معقدة. الأرقام في خسائر التحرر الوطني لا قيمة لها. الجزائر ثورة المليون شهيد. لبنان استبدل يوم الشهداء الوطني بأيام الشهيد الحزبي. أكثر من نصف الشعب في سوريا ضحية قتل أو تهجير أو نزوح والضحايا البشرية كما لو أنّها بفعل زلزال لا بسب الحرب والبراميل. في جميع هذه الحالات تساق الشعوب إلى الاحتفال وعلى المقاتلين الأحياء رفع راية النصر. فلسطين ما زالت تحصي شهداءها، منذ النكبة حتى غزة، ولم يتوقف العدّاد بعد. حسابات «حماس» أقل تعقيداً من حسابات «حزب الله». بعض خسائرها، إن خسرت الحرب، سيتم توظيفه، شاءت أم أبت، لحساب القضية، لأنّ مقاتليها من شعبها، والبعض الآخر عصي على التوظيف لأنّها مصنفة في خانة التطرف، وسيدان نهجها ونهج الدولة الصهيونية معاً لأنهما يتوسلان الأصولية الدينية، كل على طريقته، لتحقيق أهدافهما. «حزب الله» قدم، مع سائر القوى غير الفلسطينية، الحكومية والشعبية، تضحيات كبرى باسم القضية. كذلك فعلت أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية منذ ما قبل الحرب الأهلية وخلالها، ومنظمات دولية ثورية، كالجيش الأحمر الياباني، إذ قدمت شهداء على مذبح القضية، كما خاضت أنظمة عربية حروباً من أجل تحرير فلسطين، واليوم تتضامن من لبنان تنظيمات إسلامية أخرى مع «حماس». المساهمات غير الفلسطينية كانت في الظاهر مجانية أي «لوجه القضية»، فيما أثبتت الوقائع أنّ الحركة الوطنية حاولت استثمار تضامنها في فرض تعديلات على النظام اللبناني، وأنّ أنظمة سوريا وبلاد الطوق سعت إلى احتواء منظمة التحرير ومصادرة قرارها المستقل بحثاً عن تسويات، وهذا ما تحاول إيران فعله بعدما صارت جزءاً من المعادلة الإقليمية. ماذا سيكون دور المشاركين في النضال إذا ما تحررت فلسطين؟ سيعمل الفلسطينيون على بناء دولتهم. حماس استلهمت الإسلام كما في ثورة الجزائر. حين فضّل إسلاميو الجزائر السلطة على الدولة دخلت البلاد في حرب أهلية، كررت حماس التجربة حين قسمت الدولة المنقوصة السيادة إلى دولتين. المتضامنون مع القضية من غير الفلسطينيين، ومنهم «حزب الله»، سيراقبون من الخارج. القضية أممية، لكن، الفلسطينيون وحدهم سيقطفون الثمار. تضحيات الخارج ستبقى مخلدة في سجلات الشرف. الياباني كوزو أوكاموتو لا محل له في بنية الدولة الفلسطينية. القضية لا تخص الفلسطينيين وحدهم، لأنّها عربية، دولية، إسلامية، مسيحية، إنسانية، لكنها تخصهم هم قبل سواهم أبطال اليوم، من «حماس» و»حزب الله»، كما أبطال الأمس من عز الدين القسّام إلى ياسر عرفات، ومن جورج حبش إلى جورج حاوي، شاركوا ويشاركون بكتابة تاريخ الثورة والقضية وأسسوا ويؤسسون للمستقبل، لكن لن تكون لهم، وربما لجيل أو أكثر من بعدهم، فرصة المشاركة في احتفالات العودة. فضيلة هؤلاء أنّ واحدهم كان يحسب أنه قد «يموت غداً» قبل أن يدرك النصر لكنهم ناضلوا «كأنهم يعيشون أبداً». إذا شارك «حزب الله» في الحرب الدائرة سيتحمل مسؤولية التفريط بالوحدة الوطنية اللبنانية، وسيكون من الخاسرين لأنّه يتصرف كأنه صاحب القضية بدل أن يقف خلف أصحابها من موقع المتضامن، ولأنّه ينطلق مثل «حماس» من نظرية دينية مفيدة فحسب للتعبئة ضد مشروع الصهيونية العنصري. وإن لم يشارك سيكون بين الخاسرين لأنه خلف الوعد بوحدة الساحات. يا «حماس» ويا «حزب الله»، الوحدة الوطنية أفعل من الصواريخ.
1-11-2023 دعم الشعب أم دعم الحرب
خلال قرن من الحروب ضد الصهيونية، أحرزت الجيوش العربية انتصاراً عسكرياً واحداً والشعب الفلسطيني انتصاراً سياسياً واحداً. الجيوش عندما تمكن الجيش المصري من اجتياز قناة السويس ودخل إلى سيناء، والشعب الفلسطيني يوم اخترق ياسر عرفات كل الحدود ودخل إلى رام الله. ما خلا هذين الانتصارين، تاريخ القضية زاخر ببطولات وتضحيات لا تحصى، وبالهزائم أيضاً.
في المرتين كانت القيادة تعرف ماذا تريد. السادات، لتوظيف نتائج المعركة في عقد صلح مع إسرائيل، اختار هدفاً متواضعاً هو تحقيق انتصار جزئي يزيل فيه آثار الهزيمة ويفتح الباب أمام المفاوضات؛ ياسر عرفات لإقامة دولة فلسطينية على أي شبر يحرر من أرض فلسطين، اختار الكفاح المسلح وذهب إلى الأمم المتحدة حاملاً غصن الزيتون. في المرتين كانت استعادة أرض محتلة، أو شبر منها، هي مقياس النصر.
معركة غزة خاضها مناضلو «حماس» ببطولة مشهودة، لكن أهدافها ليست بوضوح أهداف المعارك التي خاضتها منظمة التحرير الفلسطينية، بل هي أقرب إلى أهداف جبهة الرفض التي كانت تعرف ما لا تريده وتجهل ما تريده أو تضمره فيبدو كأنّه مجهول أو على الأقل غامض، وتبدو مشوشة بسببه معايير الربح والخسارة.
يبدو من مجريات المعركة أنّ «حماس» لا تريد استعادة أرض محتلة، بل اتبعت خطة المباغتة لتستدرج العدو إلى حرب الأنفاق ولتبيّن قدرتها على الصمود تحت الأرض. هذه تجربة تصلح معياراً للشجاعة لا لقياس الجدوى والربح والخسارة، ولفروسية تشبه شاعراً عظيماً كالمتنبي «لا يعرف فنّ التكتيك». (عبارة قالها عنه الشاعر محمد العبد الله).
لا شك أنّ الشعب الفلسطيني عموماً وسكّان غزة على وجه الخصوص يحتاجون إلى كل أنواع الدعم والتضامن، وما من قضية في التاريخ الحديث حازت على تعاطف عربي ودولي كقضيته. حتى يهود أميركا تظاهروا ضد عمليات الإبادة التي يقترفها الجيش الصهيوني في غزة. فأيّ نوع آخر من الدعم تريده «حماس» ودعاة التضامن معها؟
ماذا يمكن لشعوب عربية غارقة في حروبها الأهلية أن تعبّر بغير الشجب والاستنكار والتعاطف والتضامن في الصحافة والإعلام والبيانات والمظاهرات، في عواصم العالم لا في المدن العربية؟ فتح الجبهات لا يعني سوى لبنان، ولبنان لم يقصّر. قدّم سيادته واستقلاله واقتصاده وازدهاره وديمقراطيته ووحدته الوطنية من أجل القضية، وبات من حقه أن يردد قول الشاعر، أأنا العاشق الوحيد لترمى تبعات الهوى على عاتقي؟
أنا المواطن اللبناني الذي قضى، غير نادم، خمسين عاماً من عمره في النضال من أجل لبنان وفلسطين، يحق لي، وأنا أراجع تجربتي اللبنانية، أن أراجع تجربتي الفلسطينية أيضاً ويحق لي أن أختار نهج منظمة التحرير لأنّ صفوفها اتسعت لكل مدارس النضال اليساري والقومي والديني ولأنّها اختارت شكلاً صريحاً وواضحاً، رغم كل الالتباسات التي أحاطته، ومن بينها التضحية بوطن موجود من أجل وطن مأمول.
ويحق لي أن أسائل «حماس» عن الهدف من اقتطاع غزة عن الدولة الفلسطينية. ألكي نجرّب نهج التقيّة والتفريط بالوحدة الوطنية وغموض الأهداف؟ متاهات الأنفاق تجربة شجاعة من غير شك، لكنّها تشبه تجارب الأنظمة العربية في الإطباق على حريات شعوبها تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وفي رميها تهمة التخوين في وجه معارضيها.
ويحق لي أخيراً أن أسائلها عن دراسة الجدوى وعن الحسابات الافتراضية في الربح والخسارة، لأنّ اندفاعي إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني مترافق مع خشيتي من أن توظّفه حماس لصالح صوملة مستقبلنا الفلسطيني والعربي أو أفغنته.
22-11-2023 حماس كاميكاز الثورة
لمنظّمة «حماس» الفضل في هذا الفيض من التضامن العالمي الذي أُغدق على القضية الفلسطينية على الصعيدين الشعبي والحكومي، لأنّ العملية البطولية نفضت الغبار عن قضية كادت أن تصبح طي النسيان. حصتها من هذا التضامن كادت أن تكون صفراً. فهل هذا من عدل التاريخ أم من ظلم الرأي العام؟
«حماس» ومؤيدوها يقرأون التاريخ بغير هذه العين. هم يرون في ما حصل هزيمة لجيش لم يهزم أمام الجيوش العربية مجتمعة. أذله أبطالها حين اجتاحوا غلافاً كرتونياً من بشر تجمعهم عنصرية دينية وأساطير ومصالح البلدان الاستعمارية.
عين «حماس» الجهادية «لم تعد ترى في الموت ثمناً ممكناً أو محتملاً، بل الوسيلة الحتمية للهدف المنشود، لا بل الهدف بذاته» بحسب تعبير سمير قصير في كتابه «شقاء العرب» (دار النهار)، أو بحسب طقوس التبريك التي يقيمها «حزب الله» للشهداء، أو بحسب تفسيرهم النصوص الإيمانية التي تحسب أنّ الجنة هي جزاء من يقتلون «في سبيل الله» لا من أجل الوطن، ولا يحسبون أمواتاً «بل أحياء عند ربهم يرزقون».
العين السياسية الحزبية لها رأي آخر. مقياس النصر والهزيمة عندها هو الإمساك بالسلطة. ما دامت سلطة الحزب وقيادته بخير فالنصر محتم. بهذا المقياس انتصر النظام السوري في حرب تشرين واحتفل ويحتفل غداة كل هزيمة، حتى لو كان ثمن ذلك التخلي عن القنيطرة والجولان وعن أكثر من نصف الشعب السوري بتشريده في أربع أصقاع الأرض. فهل هذا ما تريد أن تفعله «حماس» بالشعب الفلسطيني في غزة؟
طبعاً لا. هي لم تقصد ذلك، لكن ما يحصل يدمي القلوب. عشرات آلاف القتلى. هذا ليس رقماً. إنهم أحياء يرزقون على هذه الأرض لا في وعود السماء. هل إذا قتل طفل يكون موته في سبيل الله؟ لا وقت للعودة إلى السؤال الفلسفي عن مصير الإخوة الثلاثة. ولا يمكن أن نعزز انتصاراتنا بزيادة أعداد الشهداء. هذه كانت ثقافة الموت في مراحل التبشير الديني. أما حرية الشعوب، وحرية الاعتقاد، وحرية الالتزام الحزبي والتحرر من الاستعمار فمقاييسها مختلفة.
لكل حرب نهاية. حرب داحس والغبراء، حرب السبع سنوات، حرب الثلاثين سنة والحربان العالميتان كلها انتهت، وحين تنتهي يصبح إحصاء الخسائر فيها من التاريخ. الرابح الوحيد هو الممسك بالسلطة. هو الذي يشرف على دفن الموتى ويحصي الغلال ويوزع الأرباح على القادة الأحياء. فماذا عن حرب غزة؟ من هي الجهة التي ستترجم انتصار القضية، ومن هي السلطات التي ستتولى إدارة الهزائم، هزيمة نتنياهو والسلطة الفلسطينية و»حماس» معاً؟
أخطأت «حماس» في اختيار اللحظة. توهمت دعماً سيأتيها بغير حساب، من رام الله وعمان وبيروت وطهران ومن كل العواصم وأن نهاية إسرائيل اقتربت ونهايات «جاهلية القرن العشرين» وعصور الكفر والزندقة والكوارث الإنسانية، فأصابها الخذلان. أخطأت لأنها لم تميز بين الحلم والوهم، بين الممكن والمتخيل. أخطأت لأنها انطلقت من مغامرة العقل الأصولي، وكل أصولية تعصب وتطرف.
السلطة الإسرائيلية انحدرت إلى مزيد من التطرف وقادت حملة إرهابية على التسويات، حتى على حل الدولتين. هي لا تحسن القراءة إلا في كتب العنصرية وفي الوصايا التلمودية. السلطة الفلسطينية جسدت التطرف بالمقلوب، أي الانكفاء حتى التخلي، حتى إطفاء جذوة القضية.
من الظلم ألا يخرج تنظيم «حماس» من هذه المعركة بنصر مؤكد. لكن سعيه إلى النصر يتنافى مع بحثه عن السلطة. هو يستحق النصر إن ارتضى أن يتخلى عن السلطة وأن يكون استشهادي الثورة وكاميكاز القضية؟
(*) الكاميكاز «رياح الآلهة والهجمات الانتحارية» اليابانية
29-11-23 إذا انطفأت في غزة هل ستندلع في لبنان؟
أسئلة تؤرق اللبنانيين. ماذا بعد غزة؟ هل ستتوقف الحرب هناك قبل تشريد من تبقى؟ هل يكفي الاعتراف بحماس طرفاً في المفاوضات ليحتفل العالم العربي بالانتصار؟هل طوفان الأقصى لتحرير مئتي سجين فلسطيني؟ قبل غزة سبق أن جرب لبنان هذه المعادلة غير العادلة وذاق مرارة النصر فيها. لا إجماع في الأمة إلا على أمر واحد، وحشية العدو وإجرامه وعنصريته وهمجيته وكيل من الشتائم لداعميه ولعملائه وللإمبريالية والشيطان الأكبر. كل ما تبقى يظل موضوع سجالات لا تنتهي وتتحول البطولات إلى حائط مبكى على من قضى في المجازر من الأطفال والنساء والعجز ويبقى لكربلاء حائط مبكاها المستقل. مبكيان متوازيان لكنهما يلتقيان في نهر الدموع ويصبان في بحر الفجيعة. هل من رادع للوحش الإمبريالي-الصهيوني غير بطولات وتضحيات الشعبين الفلسطيني واللبناني؟ لم يتورع الوحش الرأسمالي عن تفجير هيروشيما وناكازاكي بالقنابل النووية، ولا الوحش الصهيوني عن قتل الأطفال الخائفين في قانا الجنوب اللبناني ولا تلامذة بحر البقر في مصر، ولا عن تحويل غزة إلى ركام على غرار ما حل بالضاحية الجنوبية لبيروت ذات عام. مع ذلك، نطلع من بين الركام أو من داخل الأنفاق رافعين شارات النصر. من يذهب إلى التضحية بنفسه من أجل شعب ووطنه هو بطل من غير شك. فهل يكون بطلاً من يضحي بسواه، ولو من أجل القضية ؟ هذا سؤال طرحه كثيرون من مقاتلي الحرب الأهلية اللبنانية الأحياء حين تأكد لهم أن رفاقاً ماتوا ولم تنتصر القضية. شبكة أنفاق المترو في موسكو حمت السكان من الهجوم النازي، ومنها انطلق الهجوم المضاد الذي لم يتوقف إلا مع انتحار هتلر. لا شك في أن الأنفاق أقلقت إسرائيل، لكنها لم تشكل حماية ولا طمأنينة لأرواح أهل غزة. ساكنوها من القادة وأسرى الطوفان وحدهم ظلوا سالمين، لكن تحت ركام المدينة. أما العدو فقد تعلم كيف يتفادى أنفاق لبنان ويحارب عن بعد ليحمي سكان الجليل. هتلر أعلن بنفسه هزيمته حين انتحر في مخبأ يشبه النفق قبل لحظات من احتفال الجيش السوفياتي بالنصر، فهل يعتقد المتحصنون في الأنفاق أنهم على قاب قوسين أو أدنى من هزيمة نتنياهو ليختار الانتحار؟ هو ما زال يرغي ويزبد ويتعهد بمتابعة حرب الإبادة في فلسطين، ويتوعد لبنان بأهوال حرب تموز أضعافاً مضاعفة. اللبناني يسأل هل سيفعلها؟ أهل الجنوب اللبناني بدأوا يسألون عن أماكن النزوح، ولصوص المال العام بدأوا بوضع جردة بالخسائر الأولية طمعاً بنهب أموال الإغاثة. في فلسطين يتداولون بحل الدولتين، وفي لبنان صراع بين المتباكين على الدولة والحالمين بأكثر من دولة. الدولة هي الحل، الدولة الديمقراطية، في لبنان وفي فلسطين. لكن لا توافق على معنى الديمقراطية. هي في نظر الإسلام السياسي أرقام وأعداد. حماس وصلت إلى السلطة بأصوات المقترعين، وقبل أن تفوز الشيعية السياسية بجميع مقاعد الطائفة في البرلمان، كانت تتباهى بقدرتها على حشد مئات الآلاف، وقالت إن حافلتين تكفيان لتجميع خصومها من أهل الطائفة. أحد أسباب حروبنا الأهلية تزوير معنى الديمقراطية. الديمقراطية ثقافة ومنظومة قيم، الأرقام والأعداد هي آخر معيار فيها. الأساس هو احترام الرأي الآخر والاعتراف بحقه في الوجود. الأحزاب العربية القومية والإسلامية واليسارية لا يعترف أي منها بالآخر. أبشع حروبها نشبت بين متفرعات الحزب أو التيار الواحد. المختبر اللبناني شاهد. اللبنانيون يطالبون أحزابهم، ولا سيما الطائفية منها، إن كنتم حقاً مع الدولة ومع الديمقراطية، فما هكذا تورد الإبل.
25 . 11 . 2023 هل ننتصر بالسلاح الغيبي؟
العنوان لا يعني الطير الأبابيل ولا حجارة السجيل ولا العدة ورباط الخيل، تلك آيات موجهة للمؤمنين في معارك التبشير الديني الذي فات أوانه؛ بل يعني انتهاك قوانين العلم بفكر غيبي مثلما ينتهك الحكام الدساتير بسياساتهم. هنا تحل الفوضى في المجتمعات وهناك في العقول.
تتوسل العقول الكسولة النصوص المقدسة لتحتمي بها ولتخفي جهلها بقوانين العلم، فتحيل تفسير الوقائع والأحداث إلى السنن الإلهية التي «سنّت» قوانين الكون. العقل المستنير قرأ هذه السنن وفهم منها أنه مدعو إلى اكتشاف تلك القوانين لا إلى الركون إلى ظاهر النصوص التي «لا يعلم تأويلها إلا الله».
منظمة «حماس»، كما «حزب الله» من قبلها، حرمت الجيش الإسرائيلي من مألوف انتصاراته على الجيوش العربية. الفكر الغيبي لا يفسر هذا الإنجاز العسكري بقانون السببية. أحد المعممين فسره لا بابتكار سلاح الكمائن المخفية تحت الأرض بل بالمهدي الذي يدير العمليات من غيبته الكبرى تحضيراً لعودته.
المتحمسون اللبنانيون رأوا أنّ العامل الأساس في التوصل إلى هدنة إنسانية في حرب غزة ليس التضحيات الكبرى التي بذلها الشعب الفلسطيني بمقدار ما هو نتيجة لمشاغلة «حزب الله» الجيش الإسرائيلي ضمن قواعد الاشتباك على جبهة لبنان. أشباه له رأوا أنّ الشجرة التي ارتوت بدماء أحد الشهداء في بنت جبيل أزهرت في السماء أسماء الأئمة. هل من المعقول أن تستعاد بعد قرون المساجلة بين النقل والعقل أو بين تهافت الفلسفة وتهافت التهافت؟
قد يكون «العاقل» بعلمه عاجزاً عن صنع بطولة كالتي يصنعها متحمس بتفكيره الغيبي. لكن، لا يضير القضية إذا ما حقق الشعب انتصاراً بالحماسة ولو مبنية على جهل. منحى توظيف النصر هو ما يضيرها. أفغانستان نموذج صارخ. شد التاريخ إلى الوراء، تكفير الحضارة والعلم والتقدم وإعادة البلاد إلى عصور التخلف. لا مدارس ولا شاشات، النساء سجينات داخل جدران البيوت، فيما، على الضفة الأخرى، البشرية كلها مشغولة باكتشاف المجاهل وسنن الكون، وبحماية نفسها من مخاطر الذكاء الاصطناعي.
يضيرها أيضاً أن يفضي نكوص الفكر إلى نكوص إضافي يستعاد به المنهج الأسطوري لتفسير وقائع الماضي ويستعان بالمنجمين لرسم معالم المستقبل. التقهقر من السببية إلى علم الغيب إلى منهج التفسير الأسطوري مسار تراجعي خطير في التفكير، فيما تتضاعف سرعة تقدم العقل البشري بصورة قياسية، ما يجعل النكوص ممراً حتمياً للخروج من التاريخ، بحسب تعبير المفكر المصري فوزي منصور.
الفكر الغيبي ليس الدين بل تفسير الدين. ليس النص المقدس بل فهم النص المقدس. ليس الإيمان، وهو حاجة لطمأنينة الإنسان النفسية، بل هو العقل المستقيل، بحسب تعبير الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري.
الفكر الغيبي يتفادى النقد، وفي غيابه تتراكم الهزائم وتتوالى. لم تتعلم الأمة من أخطائها، وما زال كل فريق فيها يخوّن الآخر. تخوين الأنظمة معزوفة تتكرر منذ النكبة الأولى حتى نكبة غزة. إدانة الدعم للدولة الصهيونية معزوفة ثانية. الثالثة، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
من سؤال شكيب إرسلان، لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون، ما زالت الأمة تردد الإجابات ذاتها على السؤال عن أسباب التخلف. تعفي نفسها من المسؤولية وتحيلها على الغرب، مع أن تخلف الأمة بدأ منذ هولاكو وتيمورلنك وإحراق مكتبات بغداد، أي قبل أن يأتي الغرب إلينا بألف عام.
من المؤكد أنّ الغرب كما الشرق يسعى كل وراء مصالحه. أما أوطاننا فمنكوبة بالاستبداد، استبداد الأنظمة والأحزاب واستبداد العقول. استبداد المهزوم، فكيف إذا انتصر؟!
2-12-2023 خارطة طريق إلى الحل في غزة
بطولة حماس في غزة زرعت الرعب في قلوب الإسرائيليين، لكنها أثارت ريبة في نفوس الغربيين شعوباً وحكاماً. فالإسلام السياسي قدم نفسه في أكثر من بلد أوروبي على صورة إرهابي متنقل، وداعش رسمت صورة تقريبية لما يمكن أن يكون عليه نظام الحكم إذا تولته قوى متحدرة من المنظومة الفكرية والسياسية ذاتها. صورة الطالب الذي ذبح أستاذه على قارعة الطريق في أحد شوارع باريس، أو السائق الذي دهس بشاحنته كل المارة على الرصيف في مدينة نيس، أو المسلم العراقي الذي أحرق نسخة من القرآن في السويد فاستدرج ردات فعل ضد الإسلام والمسلمين، وصور أخرى مشابهة مازالت ماثلة في الذاكرة. باتت الديمقراطية راسخة في منظومة القيم لدى شعوب الغرب، لا بحساب الأعداد وحكم الأكثرية، بل بمعنى احترام التعدد والتنوع والحق في الاختلاف، كتجسيد لحرية الإنسان الفرد بنداً من بنود شرعة حقوق الإنسان، ونصاً في الدستور الفرنسي متطرفاً في علمانيته يساوي بين حق المواطن بالإيمان وحقه بالإلحاد. هذه الحساسية تجاه الديمقراطية وضد العنف هي التي أطلقت موجة تنديد شعبي بعملية حماس، وموجة معاكسة في اليوم التالي استنكاراً للمجازر الصهيونية، وتضامناً مع قضية الشعب الفلسطيني، لا مع حماس. المتحمسون للقضية في بلادنا، إسلاميين وقوميين ويساريين، يتفاعلون مع الأحداث بطريقة مختلفة لأن"إصابعهم في النار"، ولأن الهزائم العربية المتراكمة تجعل الجمهور ميالاً إلى التضامن الانفعالي مع أي عمل انتقامي من دون النظر إلى ردود الفعل لدى من "أصابعهم في الماء". صحيح أن حماس قامت بعمل بطولي، لكنها، كما كل تنظيمات الإسلام السياسي، ليست محل ترحيب، لا في الغرب ولا في الشرق، لأن تجاربها لم تشجع على قبولها طرفاً في المفاوضات أو في إدارة شؤون البلاد، بعد أن قدمت نفسها على شكل داعش أو طالبان أو بوكو حرام أو سواها، جماعات وأفراداً ممن مارس العنف في بلده أو في بلدان أخرى. مع ذلك، يمكن توظيف نتائج ما حصل في غزة لصالح القضية الفلسطينية، لكن بشرطين اثنين، من دونهما لن تفضي عملية حماس إلى غير الكارثة على غزة وعلى القضية برمتها. الأول أن تعتبر حماس نفسها فدائياً انتحارياً مثل الكاميكاز، فتنتظر جنتها السماوية أو تستظل بشعب مناضل لا ينسى وليس من شيمه العقوق، وتهيئ نفسها، بنفس طويل، للانخراط البطيئ في منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. الثاني هو الأصعب، تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية تضم ممثلين عن جميع الفصائل والتيارات تكون مسؤولة عن استعادة الإمساك بناصية القضية وعن المشاركة في المفاوضات بحثاً عن حل للأزمة الناجمة عن أحداث غزة وعن حل عادل للقضية، بدولة علمانية واحدة أو بدولتين علمانيتين بسيادة كاملة لكل منهما. هو الأصعب لأن السلطة الفلسطينية ترهلت وتحولت من طرف فاعل في العلاقات الدولية، إلى طرف حيادي بل كاد يصبح مراقباً. كأنها تخلت عن إنجازات كبرى حققتها منظمة التحرير بجمعها شتات الشعب وشتات التنظيمات تحت رايتها بفضل حكمة الزعيم ياسر عرفات ومبادراته الخلاقة، وبالحصول على اعتراف عربي ودولي بها كممثل شرعي لشعبها وعلى مقعد بين الأمم، وعلى دولة فلسطينية ولو منقوصة السيادة، إلى مستجْدٍ مقعداً بين المفاوضين على مصير غزة والدولة والقضية الفلسطينية. يتطلب ذلك تضحيات فدائية غير انتحارية، منها ألا يكون غياب حماس عن الحكومة انتقاصاً لدورها وأن يعاد تشكيل السلطة بما يضمن تعزيز وحدة الشعب والدولة وراء القضية.
6-12-2023 حروب الممانعة؟
في تعريف الممانعة، أنها النهج الذي اعتمده النظام السوري وحلفاؤه اللبنانيون والعرب، وهي تعني تأجيل أي حل أو تسوية للصراع العربي الإسرائيلي، بانتظار تغيير مرتجى في موازين القوى. بعبارة أخرى هو تأجيل استسلام الأنظمة وعدم اعترافها بعجزها البنيوي عن المواجهة، وعدم تخليها عن السلطة. إيران مستثناة من هذا النهج لأن لها مشروعاً آخر ذا أهداف مختلفة تماماً عن أهداف مشروع الممانعة، وإن التقيا على ممارسة الاستبداد السلطوي، وعلى أن العدو هو دوماً عدو خارجي. حلول النظام الإيراني بدل السوري في قيادة جبهة الممانعة لا يغير في تعريف هذا النهج، لأن المشروعين يلتقيان على إرجاء المعركة الحاسمة، الأول بانتظار ظهور المهدي والثاني بانتظار التوازن الستراتيجي المستحيل، ولذلك حرص كل منهما على إبقاء أعمال المقاومة، خلال حرب غزة راهناً أو ضد الاحتلال في جنوب لبنان سابقاً، في إطار المناوشة أو من باب إشغال العدو، انسجاماً مع سياستهما الانتظارية. هذا وحده يفسر انزعاج النظام السوري من تحرير لبنان ثم تلاعبه بقضية مزارع شبعا. قرار محور الممانعة عدم الانجرار إلى السجالات حول حرب غزة له إيجابياته، من بينها التركيز على دعم الشعب الفلسطيني وقضيته؛ وله سلبياته، ومن بينها تمسكه بشعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وهو شعار استبدادي، وعدم الإصغاء للآراء النقدية والاكتفاء بالتفاعل بين قوى الممانعة في اليمن والضفة والعراق. عقدت قوى المحور لقاءات، وتشكلت لجان داخلية، وتولت "مراكز التفكير والدراسات" مهمة تقويم المعركة استخلصت فيها أن العدو "لم يحقق إنجازات مهمة في غزة" و"لم يستطع الرد على مصادر النيران في لبنان"، وأن"حزب الله خرج أقوى شعبياً وسياسياً"، ولذلك فهو "لن يقبل بمعادلات ما قبل غزة". يضاف إلى ذلك كلام كثير عن إذلال الجيش الإسرائيلي، وهذا صحيح، وعن تحطيم صورته وهذا فيه ذر رماد في العيون، أو فيه، بحسب جهاد الزين، تخدير للعقول كمفعول الأفيون، ذلك أن حسابات الربح والخسارة وموازين القوى تحتاج إلى معايير مختلفة أساسها العلم لا الحماسة. كان على الدارسين والمفكرين من أهل المحور إشراك الحزب الحزب الشيوعي في عملية التقويم، لأنه وإن كان يقيم على أطراف جبهة الممانعة لا في داخلها، فهو ذو باع طويل في خوض المعارك ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، وكان يمكن أن يستفاد من تجربته الغنية في التحليل. في تقرير لجنته المركزية عن أحداث غزة منسوب أعلى من الواقعية حول ما تحقق في حرب غزة وما لم يتحقق. هو يلتقي معهم في إدانة التخاذل العربي، لكنه يشير إلى تخاذل إسلامي لا يرغب الممانعون في الإشارة إليه، ويعتمد معاييرهم ذاتها لتحديد حجم الانتصار، فيرى أن الهدنة وتبادل الأسرى وإرغام العدو على التفاوض مع المقاومة ملامح من هذا الانتصار. لكن مشروعه للدولة من أدبياته القديمة. كيف سيترجم حزب الله رفضه معادلات ما قبل غزة وخروجه من المناوشات الأولى "أقوى سياسياً وشعبياً"، مع أن مؤيديه باتوا محصورين داخل جزء من الطائفة الشيعية؟ من معادلاته القديمة إقناعه الجنوبيين بأن له الفضل عليهم في إقامتهم، بعد حرب تموز، آمنين مطمئنين في بيوتهم وحقولهم وحمايتهم من أي عدوان إسرائيلي، فماذا سيكون جوابه، بعد غزة، على سؤال تهجيرهم وإعادة تهجيرهم وعن إتلاف محاصيلهم وإحراق غاباتهم؟ الممانعون لا يقرون بانتهاكهم السيادة الوطنية من الداخل، ولذلك يرغبون باستبدال رئاسة الجمهورية بقمة روحية. أسهل الطرق للإجهاز على ما تبقى من الدولة. أليس كذلك؟
16-12-2023 بعد اليسارية والقومية ما مصير أحزاب الإسلام السياسي؟
هل كانت حماس تتوقّع ردّة الفعل الهمجية على عمليتها في غلاف غزة؟ هل هدفت إلى استدراج الجيش الإسرائيلي لتثبت أن حروب الجيوش ليست كحروب الشوارع، وأن خسائره ستجبر العدو على تقديم تنازلات رفض تقديمها في الماضي؟ أم أنّ الهدف المضمر هو حجز مقعد لها على طاولة المفاوضات؟ وإن سئلت عن الثمن، فجوابها، «فما نيل المطالب بالتمني». سؤال افتراضي مشابه عن مقاومة مشاريع الأحزاب القومية واليسارية المتعلّقة بالوحدة العربية والإشتراكية. الأحزاب تبرئ نفسها ومجتمعاتها من المسؤولية وترميها على عدوّ خارجي متمثل دوماً بالإستعمار والغرب الرأسمالي والصهيونية. الأحزاب العربية على تعددها واختلافاتها وخلافاتها لم تطرح على نفسها مثل هذه الأسئلة، ولا استجابت لشرط بديهي في علم السياسة: إعرف عدوّك. النتيجة أخطاء في التشخيص وخط رماية غير مستقيم وغير ثابت. ألم تكن الحروب فيما بينها أكثر شراسة وعنفاً من حروبها ضدّ العدوّ الخارجي؟ من لا يعرف هذه الحقيقة بإمكانه الاستعانة بكتاب شارل رزق، «اللحظة القومية العربية» (موضوع مقالة لاحقة)، أو المقارنة بين الأثمان التي دفعها الشعب الفلسطيني في مواجهة العدو الصهيوني أو التي دفعته شعوب الجمهوريات الوراثية في مواجهة أنظمتها، النظام البراميلي نموذجاً. الإنسان عدوّ ما يجهل. أحزابنا لا تهمّها التفاصيل. تقتصر معارفها على أن إسرائيل عدوّ وأنها ربيبة الاستعمار. تجهل مثلاً أنّ هذا العدوّ المغتصب صار خلال أقل من قرن أكبر «مصدّر للتكنولوجيا العالية إلى 130 دولة في العالم وأن هذا القطاع بات يمثل في العام 2023 نسبة كبيرة من القوّة العاملة الإسرائيلية ونسبة ضخمة من المساهمة في الناتج القومي الإسرائيلي»(جهاد الزين- النهار). في المقابل، لا يعني أحزاب الأمة أنّ ما تخصصه الحكومات العربية للبحث العلمي لا يتجاوز خمسة بالألف من مجموع موازناتها، وأنّ نسبة الأميّة في لبنان بمعنى «فكّ الحرف»، وأين منها السودان واليمن، بلغت ما بعد الحرب الأهلية أكثر من عشرين بالمئة، فيما يُعد أمّياً في اليابان من لا يحوز شهادة جامعية أو في علوم الكومبيوتر. هي تعرف أنّ إسرائيل صنيعة الغرب، فلماذا تستغرب إذن وتستهجن وتستفظع وتستنكر اصطفافه إلى جانب صنيعته. لا يكفيها جهلها، فهي توظّفه في تضليل الرأي العام وتعبئ جمهورها ضدّ الغرب حكّاماً وشعوباً، مع العلم أنّ القضية لم تجد من يتضامن معها إلا في عواصم الغرب. أحزاب الأمة قرأت تاريخ الغرب إما بعين سوفياتية أو بعين عثمانية، وقرأت تاريخ الأمة بعين اليسار القومي وبعين اليمين الإسلامي فتداخلت صور الماضي على شبكة الوعي. بسبب قراءتها المغلوطة أخفقت في صياغة مشروع للمستقبل وأخرجت أوطان الأمة من التاريخ (خروج العرب من التاريخ عنوان كتاب للمفكر المصري فوزي منصور). الاستعمار احتلّ الكرة الأرضية ليعمّم التجربة الرأسمالية عن طريق العنف. ولئن كان قد بدل شكل سيطرته بعد الحرب العالمية الثانية، فلأنه توسّل عنفاً أشد فتكاً مقنّعاً بالمصالح الاقتصادية. لكن هذا الغرب الرأسمالي حاول أيضاً أن يُعمّم على البشرية تجربته في الانتقال السياسي من أنظمة الاستبداد القروسطية إلى الديموقراطية. جهل أحزابنا الحقيقة الأولى جعلها تستغرب ردّة فعل الأنظمة الرأسمالية على عملية «حماس» البطولية، وتفشل في التعامل مع الغرب كصديق أو في مواجهته كعدو. وجهلها الثانية جعلها ترى الديموقراطية نتاجاً غربياً فرفضتها ولفظتها «كأنها الدواء المرّ» مثلما كانت الشوارع تلفظ خطوات الشاعر محمد الماغوط. ربما باتت ولادة أحزاب متسلّحة بالمعرفة شرطاً لنهوض الأمة وتحرّرها من الاستبداد الذاتي وشفائها من مرض الأمية السياسية.
#محمد_علي_مقلد (هاشتاغ)
Mokaled_Mohamad_Ali#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زنادقة في البرلمان
-
وسام في غير أوانه
-
الطريق إلى الدولة
-
لماذا توقفت عن الكتابة في جريدة المدن
-
الرئيس بري يتذاكى أم يلعب بالنار؟
-
المسكوت عنه في الغارة على الدوحة
-
نهاية الحروب والسلاح للصدأ
-
في نقد خطاب سمير جعجع
-
ما سها عن بال الخطاب
-
مسيحيو الشرق
-
حوار عقيم مع الشيخ نعيم
-
الثنائي: فات عهد المماطلة
-
ممثلو الثنائي المساكين
-
العهد والحكومة ينتهكان الدستور
-
هل تطالبوننا باستئناف الحرب الأهلية؟
-
كلنا مع الدولة. نقاش في المنهج
-
المنهج الطائفي في كتابة تاريخ لبنان
-
البلديات اللبنانية: فاز الاستبداد الحزبي
-
التلميح المشبوه يفسد الود
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
المزيد.....
-
تركيا: رئيس الاستخبارات يشارك في مفاوضات شرم الشيخ الأربعاء
...
-
محللون: الموقف الإقليمي يدفع ترامب إلى تبني أهداف تخالف خطط
...
-
-مسار الأحداث- يناقش تطورات مفاوضات شرم الشيخ لوقف الحرب في
...
-
فيديو: ترامب يمازح كارني بشأن -اندماج- كندا وأميركا
-
فيديو يوثق نجاة رئيس الإكوادور من محاولة اغتيال
-
خليل الحية يوضح ما تهدف إليه -حماس- في مفاوضات شرم الشيخ
-
أكثر من 100 ألف نازح في شمال موزمبيق وتصاعد أعمال العنف يقاف
...
-
عامان على بدء حرب السابع من أكتوبر، والفلسطينيون والإسرائيلي
...
-
ترامب ينصح غريتا بزيارة طبيب .. فترد ساخرة : -سجلك مبهر-!
-
صحيفة روسية: أميركا تقترب من باكستان وسط برود العلاقات مع ال
...
المزيد.....
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|