عائد ماجد
كاتب
(Aaid Majid)
الحوار المتمدن-العدد: 8482 - 2025 / 10 / 1 - 12:03
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نظرة واحدة منا على التاريخ الغربي كافية بنا لمعرفة أهمية الفلسفة المثالية، فقد كان لها التأثير المهم منذ فجر الفلسفة حتى امتد تأثيرها إلى العصور الحديثة، وربما سيمتد إلى ما هو أبعد؛ فإن للفلسفة المثالية ما لها من تأثير على الفكر الإنساني والفلسفي بشكل عام. وحتى إن للفظ “المثالية” أهمية في التاريخ الفلسفي، ولعبت الدور المهم فيه في أكثر من محور واتجاه.
والفلسفة المثالية بمفهومها العام هي التيار أو الاتجاه الفلسفي الذي يرى أن الواقع الحقيقي هو الواقع العقلي والفكري، ولا يمكن للمادة أن تأتي بمعزل عن الواقع العقلي؛ فهو الواقع المثالي الذي اكتسب هذا الاسم من فلسفة أفلاطون. ومع اختلاف الاتجاهات المثالية، فإنها تتحد في عدة مفاهيم، بل وأساسها هو أسبقية العقل على المادية، باختلاف الأفكار والتيارات حول هذا المفهوم. لكن كل الاتجاهات المثالية ترى أسبقية العقل على المادة، وأنه الأساس الأول للوجود، والمادة إما أن تكون مشتقة منه أو لا وجود مستقل لها خارجه؛ فهو المكون الأول. وفي نظر المثاليين، الحواس المادية متغيرة وغير ثابتة، فلا يمكن الاعتماد عليها كمصدر معرفة أو مصدر بحث عن الحقيقة، فيكون الفكر أسبق من الشيء. وبعض الكُتاب في الشأن الفلسفي اتخذوا اتجاهًا محددًا فوصفوا كل الاتجاهات الفلسفية التي تنطوي على الشك، أو تنطوي على إيمان بمبدأ غيبي، أو تنطوي على محاولة لإبعاد جانب من الأشياء الموضوعية عن المعرفة الإنسانية، بأنها اتجاهات مثالية، كالروحانية والعقلانية والتجريبية والنقدية كما قالوا، فهي اتجاهات مثالية. (راجع: صـ5 من “ما هي المادية”).
ومن الأمور الواضحة الجلية لكل طالب فلسفة أن الفلسفة المثالية وجدناها عند أفلاطون في “المُثُل الأفلاطونية”، لكن إذا قرأنا فلسفة ما قبل سقراط يمكننا ملاحظة الشطحات المثالية في تلك الفلسفات، رغم أنها كانت تميل إلى المادية، لكن هذا لا يمنع وجودها. على سبيل المثال، مبدأ الوحدة خلف التنوع عند هيراقليطس أو عند طاليس، وكذلك وجود العالم غير المحسوس عند فيثاغورس، وحتى عند سقراط في الجدل العقلي. لكن هذه لم تكن إلا شطحات لا يمكن تكوين الفلسفة المثالية من خلالها. ولكي نفهم الفلسفة المثالية علينا فهم بدايتها، وبأي شكل بدأت.
ونحن نعرف بداية الفلسفة من بادئها الأول وهو أفلاطون، حيث لاحظنا المثالية عنده في نظريته عن الإنسان والعقل والعلم، التي عُرفت بـ”المُثُل الأفلاطونية”، أي أن أفلاطون – إذا أردنا أن نصنّفه – فهو فيلسوف مثالي. لكن لم تكن كلمة “مثالية” هي ذاتها التي تملك ذات الدلالة اليوم، فهذا غير ممكن؛ فهي لم تكن تعني التخلي عن الإدراكات الحسية، فإن أفلاطون لم يتخلَّ عن هذه الإدراكات، بل أقر بأن الإدراكات العقلية هي التي يمكننا من خلالها إدراك جوهر وحقيقة الأشياء العامة، أي أنها أعلى من الإدراكات الحسية، لكنه لم يتخلَّ عن الإدراكات الحسية ولم يُجرّدها من حقائقها الموضوعية؛ فهو أعطى العقل والواقع الحسي حقَّه، مع تفضيله للعقل، بدون أن يُجرّد الواقع الحسي من حقيقته الموضوعية. وهذا واضح في المُثُل الأفلاطونية. وكلمة “المثالي” لا تعني “عديم العيب” كما في الاستعمالات اليومية؛ فإن المُثُل – إن أردت وصفها – على سبيل المثال: نحن نعرف الخيول ونعرف أنها مختلفة وغير متشابهة، لكن رغم ذلك نحن نعرف انطباعًا واحدًا ومفهومًا واحدًا عن كل الخيول، وهذا هو “المُثُل”، وهو أعلى من كل الأشكال الأخرى الموجودة، وهو موجود في عالم لا يمكننا الإحساس به بحواسنا المادية. فإن أردنا تعريف أفلاطون، فهو المؤسس الأول لهذه الفلسفة، وامتد تأثيره – امتداد المثالية ذاتها – إلى قرون بعده، سواء في أفلوطين أو فلاسفة العصور الوسطى مثل القديس أوغسطين، حتى المثاليين الجدد ككانط وهيغل وديكارت وبركلي.
حتى اتخذت المثالية شكلاً مختلفًا عن شكلها القديم في مُثُل أفلاطون إلى مفهوم مختلف بشكل كبير، فجاءت المثالية بمفهومها الحديث لتزعزع الحقيقة الموضوعية للواقع الحسي. ولا يمكننا المرور على هذا بدون المرور على الممثل الأساسي لهذا الاتجاه، وهو بركلي، الذي يمثل أمام المثالية الحديثة – بتعبير العديد من كتّاب الفلسفة – وجوهر المثالية عند بركلي يتلخص بقوله المشهور: “الوجود هو ما يُدرك”. إن الفيلسوف الإيرلندي جورج بركلي يمثل نقطة التحول الراديكالية في تاريخ الفلسفة المثالية، من المثالية الميتافيزيقية إلى المثالية المطلقة عند هيغل؛ إذ أعلن بركلي هنا نفي وجود المادة ككيان مستقل بذاته. وهذا التحول الراديكالي – بكل تأكيد – كان بسبب تأثر بركلي بالمناخ الفلسفي آنذاك، خاصة الفلسفة التجريبية للفيلسوف جون لوك، الذي فرض وجود مادة مستقلة قائمة بذاتها، وندركها من خلال الحواس، وهذا ما يؤدي إلى الشك والإلحاد. ومن هنا، وبعد تأثره بالمثاليين من قبله، قدّم بركلي البديل الفلسفي الذي يرفض وجود المادة بشكل مستقل، وهذا ما عُرف بالمثالية الذاتية. وكل هذه المثالية ترتكز على المبدأ الذي قدمه بركلي بقوله: “الوجود هو ما يُدرك”، أي أن كل شيء موجود يتوقف على إدراكه من قبل عقل ما؛ لا وجود لشيء بشكل مستقل، بل في عقولنا كأفكار وإدراكات؛ فكل ما نراه ونسمعه ونحس به هي إدراكات عقلية داخل وعينا.
فعلى سبيل المثال، الكرسي الذي تجلس عليه في غرفة معينة، فإن وجوده ليس شيئًا ماديًا قائمًا بذاته، بل هو مجموعة من الإدراكات: لونه، ملمسه، شكله، صلابته؛ كل تلك إدراكات عقلية، ولا توجد بشكل مادي إلا بعد إدراكها. فأخرج من الغرفة التي فيها الكرسي، هل سيبقى الكرسي موجودًا؟ نعم، لكن فقط لأن الله يدركه.
في فلسفة بركلي، رأى بركلي أن المادة ووجودها بشكل مستقل أمر غير مُقرَّر فلسفيًا؛ فنحن لا ندرك سوى الصفات، مثل الأصوات والروائح والأشكال والألوان، وما إلى ذلك، وما هي إلا إدراكات عقلية داخل عقولنا فقط، فلا يمكن لنا أن ندعي وجود جوهر مادي، ولا يمكننا إدراكه أصلًا.
وإلى هنا يمكننا القول بأن الفلسفة المثالية كان لها التأثير البالغ، منذ عهد أفلاطون إلى العصور الوسطى عند أوغسطين، إلى بركلي، ومن تلاه من الفلاسفة المثاليين، فأسست لنظرية معرفة، وأسست لفلسفة كاملة تُعد من أهم الفلسفات في التاريخ الفلسفي، حتى وصلت إلى مرحلة أن طالب الفلسفة المبتدئ يُصاب بالذهول عندما يعلم أن المثالية والفلسفة ليسا لفظين متقابلين. فإن أراد هذا الطالب تقديم خدمة لنفسه ويحافظ على مساره الفلسفي، فلن يفعل إلا بعد أن يقرأ المثالية قراءة جيدة تليق بحجم تأثيرها.
#عائد_ماجد (هاشتاغ)
Aaid_Majid#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟