أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل إبراهيم كاظم الحمداني - أفول الحلم الديمقراطي في العراق: من سراب الفجر إلى ليل الأوليغارشية الطويل















المزيد.....

أفول الحلم الديمقراطي في العراق: من سراب الفجر إلى ليل الأوليغارشية الطويل


خليل إبراهيم كاظم الحمداني

الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 00:11
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مقدمة: من رماد الفجر إلى ليل الغسق الأبدي
كان الحلم الديمقراطي في العراق فجرًا كاذبًا، سرابًا براقًا وُلد على أنقاض الاستبداد، وتوهّم الناس أنّه سيشرق ليغسل وجوههم المتعبة بضياء الحرية والكرامة. لكنّ هذا الفجر الموعود ما لبث أن تبخر، ليتحوّل إلى غسقٍ رماديٍ طويل، ثم إلى ليلٍ حالك، ترتع فيه صفقات التوافق المظلمة، وتُرفع أقنعة الشراكة الكاذبة لتكشف عن وجوهٍ كَلِحة تقتات على جسد الدولة المنهك. ما تمخّض عن رحم ما يسمى بـ"الديمقراطية التوافقية" لم يكن سوى مسخٍ مشوّه، نظام أوليغارشي بامتياز، حيث تتحصن قلة متنفذة خلف أسوار المال والسلاح والنفوذ، تتقاسم الغنائم في وضح النهار. في هذا النظام، تُختزل الدولة إلى مجرد شبكة عنكبوتية من الولاءات والزبائنية المقيتة، بينما يقف المواطن العادي، صاحب الحق الشرعي، خارج أسوار المدينة، مُهمشًا ومنسيًا: صوتهُ ضجيجٌ في فراغ، ومشاركتهُ فصلٌ بائس في مسرحية هزلية لا تُفضي إلا إلى تجديد الألم.
إن الانتخابات القادمة لا تبدو في الأفق إلا كطقسٍ آخر من طقوس إعادة إنتاج المشهد العبثي ذاته: صناديق اقتراع محاصرة بأموالٍ سياسية قذرة، وأحزابٍ تتصارع كالأفاعي في العلن، لكنها في باطن الأمر متصالحة على التهام ما تبقى من فتات الدولة. لذلك، فإن مقاطعة هذه المسرحية السوداء ليست فعل انسحابٍ أو يأس من وطنٍ جريح، بل هي صرخة رفض مدوّية، ورفضٌ قاطع أن يكون المواطن شاهد زورٍ على مأتم حلمٍ كان يُفترض أن يكون ولادة جديدة لأمةٍ تستحق الحياة.
قانون انتخابي: ثوبٌ يُحاك على مقاس الجلاد
مع كل دورة انتخابية، تُعاد حياكة قانون الانتخابات، ليس كاستجابةٍ لنداءات التطوير أو صرخات الإنصاف، بل ليُفصَّل بمكرٍ ودهاء على مقاس الطغمة القابضة على السلطة. هكذا تحوّلت هذه القوانين من أدواتٍ يُفترض أن تنظم الإرادة الشعبية وتحميها، إلى مقاصل حادة لإجهاضها وسحقها في المهد. وبدلًا من أن تكون مرآةً تعكس موازين القوى الاجتماعية والسياسية الحقيقية، أصبحت مجرد هندسةٍ قانونية ملتوية، تهدف إلى ضمان بقاء نفس الوجوه الشاحبة، ونفس المصالح المتعفنة التي أوصلت البلاد إلى حافة الهاوية. إنها لعبة كراسي موسيقية، لكن الكراسي ثابتة واللاعبون هم أنفسهم، والموسيقى لحنٌ جنائزي يُعزف على أوتار معاناة الشعب.
قانون الأحزاب: حبرٌ على ورق ونصوصٌ ميتة
وإذا كان قانون الانتخابات قد صيغ لخدمة الأسياد، فإن قانون الأحزاب السياسية يقف شاهدًا أبكم على مفارقةٍ أشد مرارة وقسوة: نصٌ قانوني مزخرف على الورق، لكنه جثة هامدة في الواقع. لا وجود لالتزامات مالية حقيقية، ولا أثر للشفافية في مصادر التمويل التي غالبًا ما تكون أنهارًا من المال الأسود تتدفق من الداخل والخارج، ولا أمل في تداولٍ داخلي للقيادة. لقد تحولت الأحزاب إلى إقطاعيات شخصية وعائلية، يملكها زعماء مؤبَّدون حوّلوا السياسة إلى إرثٍ ينتقل بالولاء لا بالكفاءة. في ظل هذه الإقطاعيات، تُختزل المشاركة السياسية في طقوس الطاعة العمياء للزعيم الأبدي، وتُسحق أي محاولة للتفكير النقدي أو المعارضة الداخلية.
غياب قوانين الحريات في مملكة الصمت
في هذا الإطار المختل والمشوه، حيث القانون أداة في يد السلطان، يغيب أي أثر لقانون حقيقي يحمي حرية الرأي والتعبير أو يضمن الحق في التظاهر السلمي. فالتظاهرات، التي هي نبض الشارع وصوت من لا صوت لهم، تُقابل إما بالرصاص والقمع الوحشي، أو تُحتوى بوعودٍ مؤجلة كاذبة سرعان ما تتبخر في الهواء، أو يُعاد تعريفها بوقاحة لتُصنَّف كـ"تهديدٍ أمني". أما الصحافة والإعلام المستقل، فيعيشان بين مطرقة التهديدات المباشرة وسندان التسييس والتبعية المالية، بحيث أصبح الكلام الحر استثناءً نادرًا وشجاعًا، لا قاعدةً يكفلها القانون.
زعماء الظل والوجوه الباهتة
المفارقة الأكثر فجاجة في هذا المشهد السوريالي، أن رؤساء الكتل السياسية، أولئك الزعماء المؤبَّدون الذين يمسكون بخيوط اللعبة، لا يخوضون غمار الانتخابات بأنفسهم. يقفون شامخين خارج حلبة الصراع الشكلي، يترأسون الكتل من قصورهم المحصنة، يوزعون المقاعد كأنها عطايا، ويتحكمون بمسارات البرلمان والحكومة من وراء ستارٍ كثيف من السرية والمؤامرات. أما "النواب المنتخبون"، فليسوا في حقيقة الأمر سوى بيادق على رقعة شطرنج الكبار، أدواتٌ صماء لا تملك من أمرها شيئًا سوى تمرير ما يُملى عليها، ورفع الأيدي والموافقة على قراراتٍ لم تشارك في صنعها.
الانهيار الشامل: وطن يحتضر
وبينما تستمر هذه المسرحية السياسية الهزلية على خشبة الوطن، ينهار الواقع المعيشي للمواطن بشكلٍ مأساوي. النظام الصحي يتراجع إلى مستويات كارثية، حيث المستشفيات مقابر لمن لا يملك ثمن العلاج في الخارج. والتعليم، الذي كان يومًا منارة الشرق، يتحول إلى عبءٍ ثقيل على كاهل العائلات بدلًا من أن يكون سلمًا لمستقبل أبنائها. أما الخدمات الأساسية – من ماءٍ شحيح، وكهرباء غائبة، وطرق محفرة – فقد باتت كوابيس يومية لا تنتهي. يعيش المواطن العراقي في أتون أزماتٍ مركبة، بينما تعيش النخب السياسية الفاسدة في أبراجها العاجية المحصنة، معزولة تمامًا عن أنين شعبها.
اقتصاد الريع وتجارة الولاءات
يكمن جذر الداء في بنية الاقتصاد العراقي، فهو اقتصاد ريعي هش يعتمد بشكل شبه كلي على عائدات النفط. هذه البنية المشوهة حولت الدولة من منظمٍ للتنمية إلى مجرد مُعيل أو موزع للغنائم. وارتبطت العلاقة بين المواطن والدولة بحبل سري مالي، يعتمد على قدرة السلطة على توزيع الرواتب والمنافع، لا على أساس ترسيخ الحقوق والمواطنة. ومن هنا، وُلدت الزبائنية السياسية بأبشع صورها، حيث أصبحت الوظائف والمشاريع أوراق مساومة بيد الأحزاب تشتري بها الولاءات وتضمن بها الأصوات.
سيادة منقوصة وتدخلات خارجية
لا يمكن فهم المشهد العراقي بمعزلٍ عن شبكة التأثيرات الخارجية. فالقوى الإقليمية والدولية لا تزال تتعامل مع العراق كساحة نفوذ ومسرح لتصفية الحسابات. هذه التدخلات المستمرة عززت منطق التوافقات الهشة بين القوى المحلية، حيث يسعى كل طرف لحماية حصته بالتحالف مع داعم خارجي. وهكذا، تحولت السيادة الوطنية إلى ملفٍ قابل للتفاوض والمساومة في الغرف المغلقة، وغابت القدرة على صياغة عقد اجتماعي داخلي مستقل.
جدار انعدام الثقة
إن أخطر ما أفرزته سنوات الديمقراطية الشكلية هو التآكل الكامل للثقة بين المواطن ومؤسسات دولته. لم يعد المواطن يرى في صندوق الاقتراع أداةً للتغيير، بل مجرد ديكور في مسرحية متكررة. كانت الانتفاضات الشعبية تعبيرًا صارخًا عن هذا الانفصال العميق، لكن النظام السياسي تعامل معها إما بالقمع الدموي أو بالاحتواء الشكلي. والنتيجة كانت اتساع فجوة الثقة حتى أصبحت هوة سحيقة، وباتت المشاركة السياسية عبئًا نفسيًا على المواطن، لا أفقًا للخلاص.
الدستور المعطل والمواطنة المشوهة
الدستور، الذي كان يُفترض أن يكون الحصن المنيع للديمقراطية، تحوّل إلى وثيقة مؤجلة التنفيذ. نصوص الحريات والفصل بين السلطات بقيت حبرًا على ورق. وبرعت الأوليغارشية في تطويع النصوص وتعطيلها، لتصبح الديمقراطية مجرد واجهة دستورية تخفي خلفها هيكلًا استبداديًا. وفي ظل هذا، تحولت المواطنة إلى هوية هشة ومجزأة، يُعاد تعريفها وفقًا للانتماء الطائفي أو الحزبي، لا على أساس الانتماء لوطن واحد.
خاتمة: هل يولد الأمل من رماد الحلم؟
ما يعيشه العراق اليوم ليس مجرد أزمة عابرة، بل هو مشهد أفول حلمٍ ديمقراطي أُجهض عمدًا. الأوليغارشية التي تتقن لعبة المحاصصة والفساد لم تترك من الديمقراطية سوى قشرة خاوية. ومع ذلك، فإن الاعتراف بهذا الإفلاس ليس دعوة للاستسلام، بل هو الخطوة الأولى نحو إعادة التفكير: كيف يمكن تحويل المقاطعة من موقف فردي إلى مشروع جماعي لإعادة تعريف السياسة؟ وهل يستطيع العراقيون يومًا أن يستعيدوا الحلم الذي أُطفئ نوره قبل أن يكتمل؟ سؤالٌ مرير، وإجابته لم تُكتب بعد.



#خليل_إبراهيم_كاظم_الحمداني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تذكرة إلى جنيف: حين تنتصر الدبلوماسية وتبكي العدالة في بغداد ...
- حقوق الطفل في العراق: بين النصوص المعلَّقة والواقع الموجِع… ...
- عندما يحتج السفّاح على صوت الضحية- الانسحاب من عضوية مجلس حق ...
- عائلتي تربح-: عندما يصبح تسطيح العقول مرآة بائسة للشاشة العر ...
- سقوط نظام صدام وتدوير ثقافته ‏ جمهورية التعذيب: العراق وثغرا ...
- الحماية الاقتصادية والقيم السائلة قراءة في أثر سياسات ترامب ...
- العدالة في مواجهة السياسة: تداعيات الانسحاب المجري المحتمل م ...
- كراهية النساء من الجذور إلى المواجهة: استكشاف شامل للسياقات، ...
- حقوق الإنسان كنتاج تاريخي دور الدولة القومية في صياغة مفاهيم ...
- -الجلادون الجدد: كيف يصنع اللااكتراث مجتمعاتٍ مريضة؟-
- الخوف من الحرية: بين التاريخ والفلسفة وعلم النفس والأدب
- التنافر المعرفي وتبرير انتهاكات حقوق الإنسان: صراع القيم وبر ...
- الانحيازات المعرفية وتأثيرها على القبول المجتمعي لانتهاكات ح ...
- الخيانة المقننة: كيف تستخدم الحكومات قوانين العمالة للأجنبي ...
- تعيين مستشار للمفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق : أزمة ...
- السيداو و التوصية 40: هل تجرؤ الحكومات على إعادة تشكيل -خرائ ...
- العراق في مواجهة التقييم الدولي توصيات الاستعراض الدوري الشا ...
- عشقٌ مشروط، ووداعٌ محسوب: أمريكا ومجلس حقوق الإنسان
- العراق في الاستعراض الدوري الشامل تحت الأضواء مجددًا.. اختبا ...
- -أن تكون مثقفًا في بلاد تحاول أن لا تموت على مهل-


المزيد.....




- سوريا: حمص تنفي فصل الجنسين في المدارس.. وتغيرات بالمناهج تُ ...
- بري يرد على واشنطن: الجيش اللبناني لن يكون حرس حدود لإسرائيل ...
- عشرات الشهداء بغزة والاحتلال يقصف محطة أكسجين مستشفى القدس
- غضب في لبنان من تصريحات المبعوث الأميركي
- نائب أميركي يحذر من خطر -سوء تفاهم- عسكري مع الصين
- مساع أميركية لتجديد الوساطة القطرية بشأن غزة
- ترامب يبدأ اجتماعا مع قادة عرب ومسلمين بشأن غزة
- أين وصلت توغلات الجيش الإسرائيلي بمدينة غزة؟
- ماكرون: منح ترامب نوبل السلام ممكن في حالة واحدة فقط
- ملك الأردن: خطاب إسرائيل حول الأقصى سيُشعل حربًا دينية تتجاو ...


المزيد.....

- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل إبراهيم كاظم الحمداني - أفول الحلم الديمقراطي في العراق: من سراب الفجر إلى ليل الأوليغارشية الطويل