|
جدلية الفن والواقع: بين المحاكاة والإبداع
غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8473 - 2025 / 9 / 22 - 10:53
المحور:
قضايا ثقافية
الإشكالية الفلسفية تُعَد العلاقة بين الفن والواقع واحدة من أقدم وأعمق الإشكاليات الفلسفية التي شغلت الفلاسفة والمفكرين عبر العصور. يتجسد هذا التساؤل في جدلية محورية: هل يقتصر دور الفن على كونه وسيلة لتوثيق الواقع القائم، أم أنه يتجاوز ذلك ليصبح أداة قوية وفعالة لاكتشاف واقع جديد أو حتى خلقه؟ هذه الإشكالية ليست مجرد تساؤل نظري، بل هي جوهر فلسفة الفن وعلم الجمال، إذ تلامس وظيفة الفن في الحياة الإنسانية وقدرته على تشكيل الإدراك البشري وتوجيه الوعي الجمعي. لتقديم إجابة متكاملة لهذه الجدلية، لا بد من تفكيك مفهوم "الواقع" نفسه، الذي لا يُعد كيانًا ثابتًا ومُحدّدًا. فمنظور الفلسفة المعاصرة يرى أن الواقع هو مفهوم معقد وغامض، ليس مجرد ما نراه أو نلمسه، بل هو "صيرورة" وتغير مستمر. هذه الطبيعة المتغيرة تجعل من المستحيل توثيقه بشكل سلبي ومحايد، وتفتح المجال أمام الفن ليتفاعل معه بطرق تتجاوز مجرد التسجيل. إن الفن ليس مرآة تعكس الواقع فحسب، بل هو مرآة منحنية تشوهه لكي تكشف عن حقائقه الخفية، وفي الوقت ذاته، هو مطرقة تشكل وعي المتلقي لخلق واقع جديد في إدراكه. الفن كمرآة للواقع: الجذور الفلسفية: أفلاطون وأرسطو تُعد نظرية المحاكاة (Mimesis) التي وضعها الفلاسفة اليونانيون أول محاولة منهجية لفهم علاقة الفن بالواقع. وعلى الرغم من أن المصطلح كان موحدًا، إلا أن فهم كل من أفلاطون وأرسطو له كان متباينًا بشكل جذري، مما وضع حجر الأساس للجدل الفلسفي الذي استمر لقرون. أفلاطون: الفن كمحاكاة مشوهة كان أفلاطون أول من طرح فكرة الفن كمحاكاة، معتبرًا إياها إحدى أولى النظريات الفلسفية للفن. انطلاقًا من فلسفته المثالية، التي ترى أن العالم الحقيقي هو "عالم المُثل" الكاملة والخالدة، وأن العالم المادي الذي نعيش فيه هو مجرد تقليد ناقص لهذه المُثل، اعتبر أفلاطون الفن تقليدًا لهذا التقليد. وعليه، يصبح الفن بعيدًا عن الحقيقة المطلقة بمقدار ثلاث درجات، مما يجعله عملًا مبتذلًا وقليل القيمة في نظره. لم يقتصر رفض أفلاطون للفن على قيمته المعرفية المتدنية فحسب، بل امتد ليشمل وظيفته الأخلاقية. ففي كتابه "الجمهورية"، قام بطرد الشعراء من مدينته الفاضلة، مرجعًا ذلك إلى أن الفن يثير العواطف والانفعالات البشرية بدلًا من أن يربي العقل على التفكير المنطقي. في هذا السياق، كان الفن بالنسبة لأفلاطون أداة لإلهاء الإنسان عن السعي وراء الحقيقة المطلقة، ووسيلة لتحريض مشاعره بدلًا من تهذيبها. أرسطو: المحاكاة كإبداع وتطهير على النقيض تمامًا، جاء تلميذه أرسطو ليقدم منظورًا جديدًا لمفهوم المحاكاة، حوّله من فعل سلبي إلى عملية إيجابية ومبدعة. لقد رأى أرسطو أن الفن ليس مجرد نقل حرفي للواقع، بل هو "إبداع وابتكار". الفنان، من وجهة نظره، لا يكتفي بنقل "ما هو كائن بالفعل"، بل يذهب أبعد من ذلك لينقل "ما يجب أن يكون عليه الأمر." يُعَد هذا التحول الجذري في المفهوم نقطةً محورية. فالفنان عند أرسطو "يستدرك على الطبيعة" ويكمل ما يعتريها من نقص، مما يجعل الفن وسيلة لدفع الواقع إلى الأمام والارتقاء به. كما أن الفن، وخاصة فن المأساة (التراجيديا)، له وظيفة أخلاقية مهمة تتمثل في "تطهير النفس" (Catharsis) من الانفعالات السلبية مثل الخوف والشفقة. هذا الإدراك لقدرة الفن على تهذيب المشاعر والارتقاء بالإنسان يمثل تقدمًا كبيرًا في الفكر الجمالي اليوناني. وبذلك، يدمج أرسطو بين مفهوم التوثيق (المحاكاة) والإبداع، مؤكدًا أن الأول ليس إلا شكلًا من أشكال الثاني. تجسيد المحاكاة في المدارس الفنية في العصور اللاحقة، تجسدت نظرية المحاكاة في مدارس فنية مختلفة، أبرزها المدرسة الواقعية والفن الوثائقي. ورغم أن هذه المدارس سعت لتوثيق الواقع بحذافيره، إلا أنها أثارت جدلًا حول ما إذا كان النقل الكامل للواقع ممكنًا أو مرغوبًا. الواقعية: توثيق الحياة الاجتماعية تُعد المدرسة الواقعية في الفن التشكيلي، التي ازدهرت في منتصف القرن التاسع عشر، أبرز تجسيد لمبدأ المحاكاة في العصر الحديث. كان هدفها تصوير الحياة اليومية بدقة متناهية، مع التركيز على الجوانب السلبية والمهمشة في المجتمع مثل الفقر والظلم والتمييز. لقد رفض فنانو الواقعية استخدام الأساطير أو الخيال، واعتمدوا على الواقع الاجتماعي كمادة أساسية لأعمالهم. من الأمثلة البارزة على ذلك، لوحات "جان فرانسوا ميليه" التي وثقت معاناة الفلاحين، ولوحة "غوستاف كوربيه" "كسارو الحجارة" التي سلطت الضوء على حياة العمال. الفن الوثائقي: شهادة على الواقع أم خلق لرؤية؟ يهدف الفن الوثائقي، سواء في التصوير الفوتوغرافي أو السينما، إلى نقل الواقع كما هو، بهدف إثارة الوعي بالقضايا الاجتماعية والإنسانية. من خلال عرض قصص واقعية، يسعى هذا الفن لتحفيز الحوار والنقاش، وتشجيع الجمهور على التفكير النقدي واتخاذ موقف تجاه ما يواجهون من تحديات. ولكن، على الرغم من ادعائه الموضوعية، يظل الفن الوثائقي بعيدًا عن الحياد التام. إن عملية إنتاج العمل الوثائقي تتضمن سلسلة من الخيارات الذاتية التي يقوم بها الفنان، بدءًا من اختيار الموضوع، مرورًا بزوايا التصوير، ووصولًا إلى عملية المونتاج واختيار المؤثرات الصوتية. كل هذه الاختيارات تحوّل العملَ من مجرد تسجيل سلبي إلى إعادة صياغة للواقع من خلال رؤية فنية محددة. هذه الرؤية تخلق واقعًا جديدًا في وعي المتلقي، وهذا الواقع قد يختلف عن الواقع الذي كان المخرج شاهدًا عليه. على هذا النحو، يتهاوى الجدال القائل بأن الفن الواقعي هو مجرد نسخ للواقع. ففنانون ونقاد مثل عبد الله أبو عسلي وهنري صايغ يجادلون بأن حضور الفنان في المكان وزمان الحدث يمنح العمل حيوية وعمقًا يفتقر إليهما التصوير الجامد. إن الفن الواقعي ليس مجرد نقل، بل هو عملية إبداعية قائمة على التوثيق، حيث يتم تصفية الواقع من خلال حس الفنان لتقديم "مشهد حي" يلامس المشاعر ويثير الأسئلة. الفن كخلق لواقع جديد: التعبيرية والخيال الفلسفة الرومانسية والمثالية الألمانية يمثل القرن الثامن عشر نقطة تحول كبرى في الفكر الفلسفي والفني، حيث بدأت الفلسفة الرومانسية والمثالية الألمانية تبتعد عن قواعد العقلانية الصارمة التي سادت في عصر التنوير. لقد كان هذا التحول بمثابة رد فعل على النظرة العلمية المتحجرة التي بدأت تهيمن على الحياة، والثورة الصناعية التي أضفت طابعًا نمطيًا ومملًا على الوجود الإنساني. انتقل التركيز الفلسفي والفني من العالم الخارجي إلى "العواطف الشخصية والخيال" و"الذاتية". حيث دعا الفلاسفة الرومانسيون إلى إطلاق العنان للإبداع الفردي واستكشاف الروحانية البشرية. وفي هذا السياق، قدم إيمانويل كانط رؤية جديدة تمامًا، مؤكدًا على أن قيمة الفن تكمن في صفاته الشكلية لا في محتواه المادي. كما ميز بين الخلق والتقليد، واعتبر أن الإبداع الحقيقي هو نتاج "العبقرية" التي تتجاوز مجرد النسخ. فيما ذهب سيغموند فرويد إلى أن الإبداع ينشأ من "اللاوعي" وأن الخيال هو أحد محركات هذه العملية. لقد أدى هذا التحول الفكري إلى تغيير جوهر وظيفة الفن، فبدلًا من أن يكون أداة لتسجيل ما هو خارجي، أصبح وسيلة للتعبير عما هو داخلي. هذا المنظور الجديد مهد الطريق لظهور جميع المدارس الفنية الحديثة والمعاصرة التي تجاوزت حدود الواقع المباشر، وأكدت أن الواقع ليس فقط ما نراه، بل هو أيضًا ما نشعر به وما نحلم به. الواقع والإدراك في الفلسفة المعاصرة: جماليات التلقي وتأويل الفن مع ظهور نظرية "جماليات التلقي" في منتصف القرن العشرين، حدث تحول جذري في فهم العملية الفنية. تجاوزت هذه النظرية التركيز التقليدي على الفنان أو العمل الفني بحد ذاته، ووضعت "المتلقي" في مركز العملية الإبداعية". يؤكد رواد هذه النظرية أن العمل الفني لا يكتمل إلا بوجود المتلقي الذي يتفاعل معه ويشارك في بناء المعنى. ليست القراءة أو المشاهدة عملية سلبية، بل هي "فعل تحاور وجدل" بين النص والمتلقي. فالمتلقي يأتي بخبراته وثقافته ووعيه ليملأ الفجوات التي يتركها الفنان في العمل، مما ينتج "نصًا إبداعيًا جديدًا مغايرًا للنص الأول". وهذا يثبت أن الجدلية بين التوثيق والإبداع لا تحدث فقط بين الفنان والعمل، بل تكتمل في عقل المتلقي. فعندما يوثق الفنان جانبًا من الواقع، يتفاعل المتلقي مع هذا التوثيق ويستخدمه كأساس لخلق واقع جديد في وعيه، قد يختلف تمامًا عن الواقع الذي قصده الفنان. الفن كتحويل للعلاقة مع الواقع بناءً على ما سبق، فإن الفن لا يوثق الواقع فحسب، بل يجعله قابلًا للتأمل والتغيير. هو جسر بين الواقع الملموس والوعي البشري، يعمل على تحفيز الأفراد على رؤية المشكلات المشتركة والعمل على حلها. فالفنون التشكيلية، على سبيل المثال، يمكن أن "تثير النقاشات وتخلق جدلًا" حول قضايا حساسة مثل الفقر والتمييز، مما يدفع المجتمع للتفكير في طرق حلها. إن الفن يغير رؤيتنا للأشياء، مما يجعله أداة قوية لتغيير الأفكار الاجتماعية. إنه لا يكتفي بعرض الواقع، بل يجعله موضوعًا للفهم والتفاعل، مما يؤكد أن وظيفته تتجاوز مجرد التسجيل لتصل إلى مستوى التأثير والتحويل. الفن كجسر بين التوثيق والإبداع لم يعد الجدل بين الفن كتوثيق والآخر كإبداع قائمًا على ثنائية متعارضة. بل إن النظرة الأكثر عمقًا ترى أن الفن يمارس الوظيفتين في آن واحد، ويستخدم إحداهما كقاعدة للقيام بالأخرى. كما يؤكد الفكر الفلسفي على أن الخيال ليس كيانًا هلاميًا منفصلًا عن الواقع، بل هو "يتأسس بالضرورة وبالفعل على أشياء نعيشها في الواقع". إن ما يخلقه الخيال هو "فكرة تعبر عن شعور مضمر". وهذا يعني أن الفن، حتى عندما يبدو بعيدًا عن الواقع، فإنه في حقيقته يقوم بعملية توثيق لواقع داخلي أو نفسي، يستخدمه كمنطلق لعملية الخلق. إن وظيفة الفن الجوهرية، بغض النظر عن المدرسة التي ينتمي إليها، هي "الكشف". فالفن يوثق الواقع الظاهري ليكشف عن حقائق كامنة تحته، أو يوثق الواقع الباطني ليكشف عن نظام خفي في الفوضى الظاهرة. بهذا الفهم، يصبح الفن جسرًا بين الواقع الظاهري والواقع الباطني، وبين الحقيقة المادية والحقيقة الإدراكية. هو يوثق أحدهما ليكشف عن الآخر، مما يجعل التوثيق والإبداع وجهين لعملية واحدة: كشف الحقيقة الكامنة في الوجود.
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النزعة البدائية والانا المثالية في تشكيل الهوية: مقاربة فلسف
...
-
التضارب الأخلاقي في عصر التكنولوجيا: مقاربة فلسفية
-
الكسل الفلسفي معضلة وجودية
-
المسألة الهومرية: من الذاكرة الحية إلى سلطة النص
-
معضلة الشر والحرب فلسفيا
-
صولون: فيلسوف، وسياسي، وشاعر يوناني قديم
-
جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة عند الفارابي
-
من الهيمنة الى الاستبداد: تفكيك فلسفي للاستبداد في الشرق الأ
...
-
سقراط... الفيلسوف الذي لم يكتب كلمة
-
أفكار أنكساغوراس* عن العقل والاخلاق
-
الفَلْسَفَةُ حُبٌّ يُقَيِّد، وَطُموحٌ يَلْتَهِمِ القَلْب
-
الفلسفة بين ثقافة القهوة وقهوة الثقافة
-
العقلانية والوعي المفرط... مقبرة السعادة
-
ديوجينس* المعاصر
-
العقل المسيطر* والعقل المحض
-
الموت والحضور الباهت
-
اخلاقيات الكذب استثمار في السياسة
-
ملامح الحقبة الامبريالية في الشرق الأوسط
-
عدم الكمال الفلسفي* والتشتت الأيديولوجي في الشرق الأوسط
-
الوجودية الرقمية والتشظي الفلسفي
المزيد.....
-
-السلام لن يكون بالقتل والتهجير-.. ضاحي خلفان يعلق على اعترا
...
-
الإمارات.. شرطة دبي تعلن القبض على-عصابة إجرامية- وتكشف ما ف
...
-
-لدي ذكريات طيبة مع ترامب-.. زعيم كوريا الشمالية يضع شرطًا ل
...
-
3 قتلى وإصابتان في غارات روسية على زابوروجيا
-
تداعيات الهجوم السيبراني مستمرة: مطار بروكسل يطلب إلغاء نصف
...
-
بعد 108 سنوات من وعد بلفور.. بريطانيا تعترف رسميا بدولة فلسط
...
-
إيران تؤكد استعدادها لمواجهة التهديدات الخارجية برد -يفوق ال
...
-
كيف أصبح توزيع المساعدات في غزة مسرحا لحرب صليبية جديدة؟
-
واشنطن بوست: طالبان تفرض نفسها دوليا لهذه الأسباب
-
مغردون: لماذا انقسم الغرب في الاعتراف بدولة فلسطين؟
المزيد.....
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
المزيد.....
|