سردية السردية

خالد السيد حسن

الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 14:00
المحور: الادارة و الاقتصاد
    

كثر الحديث في الايام القليلة الماضية عن "السردية المصرية الوطنية للتنمية الاقتصادية - السياسات الداعمة للنمو والتشغيل". وربما كان لفظ السردية هو أمر غريب نسبيا عن كثير من الباحثين والاقتصاديين الجدد، لذا فقد وجدنا أنه قد يكون من المفيد أن نتطرق بالشرح والتفصيل لمعنى السردية، تاريخها، تطورها، مميزاتها وعيوبها، أنواعها وأمثلتها، أشهر السرديات العربية. واخيرًا دور وموقع السرديات في وضع السياسات الاقتصادية والتنموية، ولماذا تهدف، ومايجب أن تحتويه، تحت مسمى "سردية السردية".
السردية هي منظومة من القصص والأفكار والتصورات التي تُبنى لتفسر الواقع أو لتشكل رؤية عنه. السردية ليست مجرد "قصة"، بل إطار يربط الأحداث والمعاني ويوجه الفهم والسلوك.
في الأدب: السردية هي طريقة عرض الحكاية (بداية–عقدة–نهاية) مع الشخصيات والأحداث.
في الفكر والسياسة: السردية تصبح أداة لصياغة الهوية الجماعية، وصياغة رؤية مستقبلية أو إقناع الناس بمسار معين.
ترجع الجذور الأولى للسرديات مع الحكايات الشفهية والأساطير (شالميثولوجيا السومرية، المصرية، اليونانية). ثم ظهرت السرديات في التراث العربي، في الشعر الجاهلي كقصص عن البطولات والأنساب، ثم في "ألف ليلة وليلة" والسير الشعبية (سيرة عنترة، سيرة بني هلال). تطور مفهوم السرد في النقد الأدبي الحديث مع ظهور الدراسات البنيوية (رولان بارت، تودوروف، جيرار جنيت) التي درست البنية والزمان والراوي. استخدمت السرديات في السياسة والفكر لوصف "الروايات الكبرى" (Grand Narratives) مثل: القومية، الاشتراكية، الليبرالية، ثم انتقلت إلى الاقتصاد والتنمية تحت اسم Narrative Economics.
وتتميز السردية بكونها طريقة لتبسيط القضايا المعقدة وتجعلها مفهومة للجمهور، وتخلق هوية جماعية وتماسكًا اجتماعيًا.، وتحفز الإلهام والحشد نحو الأهداف، وكونها قادرة على تجاوز لغة الأرقام الباردة لتصل للعاطفة.
إلا أن للسرديات أيضاً بعض العيوبً، فقد تكون مضللة أو مبالغًا فيها إذا غلب عليها البعد الدعائي، وقد تؤدي إلى إقصاء السرديات الأخرى أو تبسيط الواقع بشكل مخل، وأحيانًا تُستغل في التلاعب السياسي أو الاقتصادي.
ومن أنواع وأمثلة السرديات:
السرديات الأدبية: مثل رواية "الحرافيش" لنجيب محفوظ.
السرديات الدينية/الميثولوجية: مثل قصص الأنبياء في القرآن، أو ملحمة جلجامش.
السرديات الوطنية/القومية: مثل "سردية النكبة" الفلسطينية أو "سردية الاستقلال" في الجزائر.
السرديات التنموية/الاقتصادية: مثل "رؤية السعودية 2030" أو "الحزام والطريق" في الصين.
السرديات الثورية: مثل سردية "ثورة يوليو 1952" في مصر.
ومن أشهر السرديات العربية:
سرديات التحرر من الاستعمار (مصر، الجزائر، تونس، المغرب).
سرديات القومية العربية (الوحدة، العروبة).
سرديات المقاومة الفلسطينية (النكبة).
سرديات الحداثة والتنمية (منذ السبعينات وحتى الآن).
والسرديات الإسلامية السياسية (الحركات الإسلامية بمختلف توجهاتها).
والسؤال الذي يطرح نفسه الأن "هل يجوز أو من المفيد استخدام أسلوب السردية في وضع السياسات الاقتصادية والتنموية؟" والإجابة هي: نعم، وبشدة.
هناك الآن مجال يسمى الاقتصاد السردي (Narrative Economics) يرى أن الأفكار والقصص المنتشرة بين الناس تؤثر على قراراتهم الاقتصادية (الاستهلاك، الاستثمار، الثقة في الدولة).
في مجال التنمية، لا تعتبر السردية مجرد وثيقة، بل قصة مقنعة عن المستقبل، تشرح:
البدايات – أين نحن الآن؟ (تشخيص الوضع الحالي)
الرؤية – إلى أين نريد أن نصل؟
الأبطال – من سيقود الحكاية؟
الخطة – كيف سنصل؟ (خطط واستراتيجيات)
القيم – لماذا نفعل ذلك وما أهميته؟
الخاتمة – الحلم المشترك
وعلية فإن أي سردية تنموية/اقتصادية يجب أن تتضمن:
• رؤية مستقبلية ملهمة ومقنعة.
• تشخيص دقيق للواقع (بيانات، تحديات).
• بطل أو فاعل جماعي (لشعب، الدولة، المؤسسات).
• خطة انتقالية (توضح الخطوات).
• لغة مبسطة وجاذبة (تصل بكل سهولة إلى المواطن العادي).
• قيم عليا (مثل العدالة، الكرامة، الابتكار، الاستدامة).
• أدوات للمتابعة (كي لا تبقى قصة فارغة بل تتحول إلى سياسات قابلة للتنفيذ).
وختاما فإن السردية ليست مجرد "حكي"، بل أداة قوية لفهم العالم وتوجيهه. في الأدب تُبنى لتأثير جمالي وفكري، وفي السياسة والاقتصاد تُستخدم لبناء الثقة، والحشد، وخلق مسار واضح للمستقبل.، بشرط أن تكون مبنية على حقائق لا مجرد شعارات، وأن تُفتح الباب أمام النقد والتطوير.
د. خالد السيد حسن

#خالد_السيد_حسن (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل