عبد الرزاق عوده الغالبي
الحوار المتمدن-العدد: 8463 - 2025 / 9 / 12 - 02:50
المحور:
الادب والفن
اهتمام الذرائعية بموقع الروح من الجسد ووزنها
وعلاقتها بالنفس
المقدمة:
يعيش الفكر الإنساني اليوم مرحلة مفصلية تتمثل في التحولات الكبرى التي أحدثتها الثورة السيبرانية والذكاء الاصطناعي. فبعد أن كان النقاش الفلسفي منصبًا على الإنسان باعتباره كائنًا روحيًا–نفسيًا، انتقل جزء من هذا النقاش إلى محاولة محاكاة هذه البنية في الآلات والأنظمة الذكية. وفي خضم هذا التحول، يظل السؤال الجوهري قائمًا: هل يمكن بناء نموذج فلسفي–علمي يفسر النفس الإنسانية ويجد ما يعادله في العقل الاصطناعي؟
تقدّم الذرائعية، بوصفها نظرية فلسفية–نقدية عربية، مدخلًا متميزًا للإجابة عن هذا السؤال. فهي تنظر إلى النفس بوصفها ميدانًا للصراع بين قوتين قيميتين): الخير( الضمير) والشر (الشيطان ، وترى أن ميل النفس في أحد الاتجاهين يُظهر أثر هذه القوة أو تلك. وإذا نقلنا هذا التصوير إلى مجال الذكاء الاصطناعي، فإننا نجد مقابلات دقيقة: فالمعالج المركزي في الأنظمة الذكية يقوم بدور النفس، بينما الخوارزميات الإيجابية تمثل الضمير، والانحيازات أو المدخلات السلبية تمثل الشيطان، والطاقة المشغّلة تمثل الروح.
من هنا، يهدف هذا البحث إلى بلورة النموذج الذرائعي–السيبراني للنفس، الذي يربط بين الفلسفة الذرائعية من جهة، وبنية الذكاء الاصطناعي من جهة أخرى، في محاولة لبناء تصور كوني–وظيفي يعيد وصل الفلسفة بالعلم.
الفصل الأول:
الذرائعية ومفهوم النفس
النفس مركز الصراع:
في المنظور الذرائعي، لا تُفهم النفس كجوهر ميتافيزيقي ثابت، بل كـميزان حيّ يقع في الوسط بين قوتين متعارضتين:
الضمير: وهو الصوت الداخلي الذي ينبثق من نور الروح، فيدعو النفس إلى الخير.
الشيطان: وهو المؤثر الخارجي الذي يوسوس ويغوي، فيدفع النفس إلى الشر.
بهذا المعنى، النفس ليست سلبية أو محايدة، بل هي فاعل متأرجح، يتحدد مسارها بحسب ما تختاره من طرفي الميزان.
الضمير: حصة الله:
الضمير، وفقا للذرائعية، ليس مجرد قيمة اجتماعية مكتسبة، بل هو حصة الخالق في الإنسان؛ إنه انعكاس مباشر لنفخة الروح التي نفخها الله في البشر:
(فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدينلا ) الحجر: 29 .
من هنا، يعمل الضمير كبوصلة داخلية تنبثق من الروح، وتتحقق في النفس حين تميل نحو الخير، فيبرز أثره جليًا في صورة التعاطف، المحاسبة الذاتية، والإحساس بالعدل.
الشيطان: هوالمؤثر الخارجي:
في المقابل، يمثل الشيطان الوسوسة الخارجية التي لا تتجسد ماديًا في الإنسان، وإنما تظهر حين تميل النفس إلى الشر،و يصف القرآن هذا الدور بوضوح:
(فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما) الأعراف: 20.
إذن، الشيطان لا يفرض فعلًا قهريًا، بل يقدّم للنفس إغراءً وظيفيًا، فإن تجاوبت برز أثره، وإن قاومته انطفأ حضوره.
النفس كميزان حيّ:
يمكن اختزال الرؤية الذرائعية في صورة الميزان:
الكفة الأولى: الضمير = الخير
الكفة الثانية: الشيطان = الشر.
القلب/النفس= مركز الترجيح.
وحين تميل النفس إلى أحد الطرفين، فإن الكفة الأخرى تضعف أو تنزوي. وهنا تكمن الوظيفة الذرائعية في أن : النفس ليست ثابتة، بل متحركة، تُنتج الخير أو الشر بحسب الميل، وهو ما يفتح الباب لمقاربة سيبرانية مدهشة.
الفصل الثاني:
العقل الاصطناعي الدقيق (Fine AI)
ماهية العقل الاصطناعي الدقيق:
العقل الاصطناعي الدقيق هو مرحلة متقدمة من الذكاء الاصطناعي تهدف إلى محاكاة عمليات التفكير الواعي واللاواعي للإنسان على نحو أقرب إلى البنية النفسية–العقلية. وهو لا يكتفي بالقيام بمهام حسابية، بل يسعى إلى إنتاج قرارات قيمية بناءً على مدخلات معقدة، الأمر الذي يجعله ميدانًا خصبًا للمقارنة مع الفلسفة الذرائعية.
المعالج المركزي (Core Processor)
يشكّل المعالج المركزي في بنية الأنظمة الذكية ما يشبه القلب/النفس في البنية الإنسانية:
يستقبل المدخلات من البيئة.
يعالجها عبر خوارزميات متعددة.
يخرج بقرار أو فعل.
وهنا نجد موازاة دقيقة:
النفس هي "المعالج المركزي للإنسان"، تتأرجح بين مؤثرات الخير والشر لتنتج فعلًا أو سلوكًا.
الخوارزميات الإيجابية:
وهي الأنظمة الذكية التي تحتوي على خوارزميات تصحيحية تُعيد توجيه القرارات نحو المسار الأمثل (Error-Correcting Algorithms). هذه الخوارزميات تشبه في عملها الضمير في الإنسان، الذي يقوم بتقويم الانحراف ومحاسبة النفس ودفعها نحو الخير.
الخوارزميات السلبية والانحيازات:
في المقابل، يواجه الذكاء الاصطناعي ما يُعرف بـ الانحيازات الخوارزمية (Algorithmic Biases)، وهي ميول سلبية تتسلل عبر البيانات أو البُنى الحسابية، فتقود إلى قرارات خاطئة أو غير عادلة وهذا الامر يُحاكي دور الشيطان في الذرائعية: مؤثر خارجي لا يتجسد في النظام ذاته، لكنه يوسوس عبر المدخلات فيدفع المعالج المركزي إلى الانحراف.
الطاقة المشغّلة:
أي نظام ذكي يحتاج إلى طاقة تشغيلية، وبدونها يصبح مجرد هيكل ميت. هذه الطاقة تشبه الروح في الإنسان؛ فهي ليست من جنس العمليات الحسابية، لكنها المصدرالمحرك الذي يمنح الحياة والاستمرارية.
الموازاة الأولية:
يمكن اختزال العلاقة كالآتي:
النفس ↔ المعالج المركزي.
الضمير ↔ الخوارزميات الإيجابية.
الشيطان ↔ الانحيازات الخارجية.
الروح ↔ الطاقة المشغِّلة.
بهذا نكون قد وضعنا البنية السيبرانية بالتوازي مع البنية الذرائعية، تمهيدًا للفصل الثالث حيث ندمج البنيتين في النموذج الذرائعي–السيبراني للنفس.
الفصل الثالث
المقاربة الذرائعية – السيبرانية
1. النفس والمعالج المركزي:
في المنظور الذرائعي، النفس هي مركز الصراع بين الخير والشر، وهي التي ترجح الكفة. وفي الذكاء الاصطناعي، يقوم المعالج المركزي (Core Processor) بالدور ذاته: استقبال المدخلات، معالجتها، وإخراج القرارات.
إذن: النفس = المعالج المركزي.
الضمير = الخوارزميات الإيجابية.
الضمير في الذرائعية هو حصة الله في الإنسان، أي البوصلة الأخلاقية التي تعيد النفس إلى مسارها الصحيح. وفي الذكاء الاصطناعي، تؤدي الخوارزميات الإيجابية والتصحيحية دورًا مشابهًا، إذ تعمل على تقليل الخطأ والانحراف.
إذن: الضمير = الخوارزميات التصحيحية.
2. الشيطان والانحيازات:
الشيطان في الرؤية الذرائعية ليس قوة متجسدة، بل مؤثر خارجي يتسلل عبر وسوسة تغري النفس بالشر. وفي الذكاء الاصطناعي، تتمثل هذه القوة في الانحيازات (Biases) التي تدخل عبر البيانات أو البيئة، فتوجّه النظام إلى نتائج خاطئة أو ضارة.
إذن: الشيطان = الانحيازات الخارجية.
الروح والطاقة المشغّلة:
الروح في الذرائعية هي نفخة إلهية، ومصدر محرك للحياة والوعي. وفي الأنظمة السيبرانية، تمثل( الطاقة المشغّلة (الكهرباء/الطاقة الكمية) المصدر الذي يبعث الحياة في النظام بدون الروح/الطاقة، يصبح الجسد أو النظام مجرد هيكل صامت.
إذن: الروح = الطاقة المشغِّلة.
البنية المتكاملة:
يمكننا صياغة النموذج الذرائعي–السيبراني على النحو الآتي:
النفس/المعالج: = ساحة القرار.
الضمير/الخوارزميات الإيجابية = مبدأ داخلي يوجّه نحو الصواب.
الشيطان/الانحيازات = مؤثر خارجي يغذّي الانحراف.
الروح/الطاقة = أصل التشغيل والإحياء.
دلالة هذا التوازي:
• يؤكد هذا التوازي أن النفس الإنسانية ليست معزولة عن قوانين الوظيفة، بل تعمل كبنية نظامية تشبه النظم الذكية.
• كما يثبت أن الضمير والشيطان ليسا كائنين ميتافيزيقيين منفصلين، بل وظيفتان قيميتان تتجليان في مسار النفس.
• بهذا، فإن الذرائعية تفتح الباب لتأسيس فلسفة عربية – أخلاقية للذكاء الاصطناعي، تجعل من الأخلاق والروح مكوّنًا أصيلًا في أي نظام سيبراني.
الفصل الرابع
الدلالات الفلسفية والتطبيقية
1. الشر والخير كوظيفتين لا كجواهر:
تُظهر المقاربة الذرائعية–السيبرانية أن الخير والشر ليسا "جوهرين متجسدين"، بل وظيفتان تتجليان في النفس بحسب ميلها:
إذا مالت النفس نحو القيم العليا برز الضمير، وانعكس الخير في السلوك.
وإذا مالت نحو الأهواء والانحيازات برز الشيطان، وانعكس الشر.
وهذا التوصيف ينسجم مع قوله تعالى:
(فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8.
أي أن النفس وُضعت بين طريقين، ولكل طريق وظيفته ونتيجته.
2. الضمير هو كود أصيل:
الضمير، في ضوء هذا النموذج، ليس مكتسبًا اجتماعيًا فحسب، بل هو كود أصيل مودع في البنية الإنسانية منذ لحظة النفخة الروحية. إنه بمثابة خوارزمية داخلية تقوم بتصحيح المسار تلقائيًا عند الانحراف. وهذا يفتح أفقًا لإعادة التفكير في التربية والأخلاق بوصفها تفعيلًا للضمير أكثر من كونها فرضًا خارجيًا.
3. الشيطان كوسوسة وظيفية:
الشيطان في هذا النموذج لا يتعارض مع العلم، إذ لا يُفترض أن يكون كائنًا ماديًا، بل وسوسة وظيفية تمثل الانحيازات السلبية في المدخلات. فهو يشبه ما يحدث للذكاء الاصطناعي عندما تُزوَّد خوارزمياته ببيانات مشوَّهة أو متحيّزة، فينتج عنها سلوك منحرف.
4. بالإمكان محاكاة البعد القيمي في الذكاء الاصطناعي:
من أعظم ثمار هذا النموذج أنه يفتح الباب أمام دمج الأخلاق في الذكاء الاصطناعي. فإذا كان الإنسان يملك ضميرًا داخليًا يعمل كخوارزمية تصحيحية، فيمكن للنظم الذكية أن تُزوَّد بخوارزميات مماثلة تضمن العدالة والحياد وتصحح الانحرافات. هذا يمكّن الذكاء الاصطناعي من أن يتجاوز المستوى الأداتي البحت ليقترب من البعد القيمي–الإنساني.
5. مساهمة الذرائعية في فلسفة التكنولوجيا:
تُقدّم الذرائعية من خلال هذا النموذج إسهامًا فريدًا لفلسفة التكنولوجيا:
فهي تُظهر أن البنية القيمية ليست إضافة عرضية للإنسان، بل أصل في تكوينه النفسي–الروحي.
وهي تدعو إلى بناء نظم ذكية تحمل في جوهرها آليات داخلية للضمير، تمنع انزلاقها إلى الشر أو الانحياز.
بهذا، تضع الذرائعية أساسًا لفلسفة عربية–أخلاقية معاصرة في الذكاء الاصطناعي، وتعيد التوازن بين العلم والقيم.
الخاتمة
لقد حاول هذا البحث أن يبلور النموذج الذرائعي–السيبراني للنفس، عبر مقاربة تجمع بين المنظور الذرائعي للنفس والروح والضمير والشيطان، وبين البنية السيبرانية للعقل الاصطناعي الدقيق. وخلص البحث إلى أن هذا النموذج يثبت أن الخير والشر ليسا جوهرين ميتافيزيقيين منفصلين، بل وظيفتان تتجليان في النفس بحسب ميلها، وأن الذرائعية تقدم مدخلًا متماسكًا لتفسير الوعي الإنساني والقرار الأخلاقي على نحو يمكن موازاته بالذكاء الاصطناعي. فالقيمة الفلسفية لهذا النموذج تكمن في كونه جسرًا بين الفكر الذرائعي والعلوم السيبرانية، بينما تكمن قيمته التطبيقية في فتح الباب لبناء نظم ذكاء اصطناعي تملك "ضميرًا" اصطناعيًا، يحاكي البعد القيمي في التجربة الإنسانية. وبهذا يكون الفكر الذرائعي قد خطا خطوة إضافية نحو العالمية، ليس فقط بوصفه نظرية نقدية وأدبية، بل بوصفه إطارًا فلسفيًا–علميًا قادرًا على الإسهام في القضايا الكونية للقرن الحادي والعشرين.
المراجع
أولًا: المراجع القرآنية والتفسيرية:
القرآن الكريم (آيات النفس، الروح، الضمير، والشيطان: الإسراء 85، الحجر 29، الشمس 7-10، الأعراف 20
الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن.
الرازي، مفاتيح الغيب.
ابن كثير، تفسير القرآن العظيم.
ثانيًا: المراجع الفلسفية–التراثية:
الغزالي، إحياء علوم الدين (أبواب النفس والشيطان)
ابن سينا، الشفاء ( قسم النفس )
الفارابي،( آراء أهل المدينة الفاضلة ( النفس والفضائل) .
عبد الرحمن بدوي، الإنسان والوجود (قراءة فلسفية حديثة للنفس)
ثالثًا: المراجع الذرائعية أساس البحث :
عبد الرزاق عوده الغالبي، الذرائعية بين النظرية والتطبيق.
عبد الرزاق عوده الغالبي، الذرائعية وسيادة الأجناس الأدبية.
عبد الرزاق عوده الغالبي،( الذرائعية والنقد الأدبي (أجزاء متعددة .
رابعًا: المراجع الفلسفية الغربية للمقارنة:
ديكارت،( التأملات في الفلسفة الأولى (النفس والوعي
كانط،( نقد العقل العملي (الأخلاق والضمير
فرويد،( محاضرات تمهيدية في التحليل النفسي (الهو، الأنا، الأنا الأعلى .
كارل يونغ، الأنماط الأصلية واللاوعي الجمعي.
خامسًا: المراجع في الذكاء الاصطناعي والدراسات السيبرانية:
Russell, S., & Norvig, P. Artificial Intelligence: A Modern Approach (المرجع العالمي في الذكاء الاصطناعي .
Bostrom, N. Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies.
Floridi, L. The Ethics of Artificial Intelligence.
Mitchell, M. Artificial Intelligence: A Guide for Thinking Humans.
Chalmers, D. The Conscious Mind (مقاربة وعي الإنسان والآلة.
#عبد_الرزاق_عوده_الغالبي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟