أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الإحسايني - عناصر منفصمة...12















المزيد.....

عناصر منفصمة...12


محمد الإحسايني

الحوار المتمدن-العدد: 1824 - 2007 / 2 / 12 - 05:15
المحور: الادب والفن
    


كثافة من الذكريات الغامضة
جو الحان يوحي بالغموض، لقد شرب ولد بريك أكثر من اللازم، مراراً كان يدخل دورة المياه.هاجت الحانة وماجت . تقعقعت الكؤوس
جانيت لا تنفك تصدر أوامرها إلى عبد الله.
تسلل مشيكة على رؤوس الأصابع: قدمان حافيتان، شعر أشعث. ليس غبياً. يأتي فقط، في الفترات التي يلج فيها حميد الحان.
هتف:
- مسيو حميد: هل من جديد؟
نفس السؤال الذي يطرحه على جانيت، يوم كانت صفارات الإنذار تملأ أجواء المدينة، وتتلاشى أصواتها؛ وهو مشغول بإزالة الطلاء أو العمى الكاذب: يضع سائلاً على رموشه، يحك جبهته جيداً، تسقط قشرتا العينين الموهمتين بالعمى، يغسل وجهه؛ فينتهي الأمر.
في تلك الأثناء، يكون الطنبور قد استراح من الإيقاعات. والكلب؟ - ما أكثر الكلاب التي عاشرته ! – يكون هو الآخر، قد أخرج لسانه، متدلياً حتى أعلى قائمتيه.
ويستدير إلى الدولاب، فيسرع في خلع ملابسه المرقعة، يستبدلها بثياب أوروبية؛ ونسيم الأصيل يختلط بدخان سيجارته.
... وبتعالي صوت جانيت من الحمام:
- بول: احذر أن تفتح النوافذ !
فيسرع يغلق نافذة الغربي، حاملاً معه منشفة يلف بها جسداً غلبت عليه سمرة فاتنة. وكانت تبدو في أوج الروعة إذا هي كشفت عن الجزء الأعلى من بطنها.
غنى عن الأجفان في الدرب مراراً للعرب العاطفيين الباحثين عن لذات عابرة. أما أجفان جانيت فهي أحد من صوارم الهند.
وتدنو من الكلب، تفتعل مداعبته. تأمر الدربالي:
- هات سيجارة تونسية، أبعد عني السجائر التركية.
يمد إليها متعمداً السجائر التركية، تعنفه:
- أنت تغيطني
يبتسم في وداعة الأبرياء:
- العفو ! أريدك تعيشين معي حلاوة الشرق.
حركت كتفيها في سخرية:
- أتظن؟... أسرع وهات ما طلبت...
- كفاك غيظاً: أين وضعت سجائرك؟
- العلبة في رافعة نهدي !
هناك، يرقد مارد الشهوة.
وإذ يمد يده إلى صدرها، تومىء إليه في خلاعة.يأتيها؛ وصوت الإعجاب يرن في أذنيه: "الله عليك يا دربالي، يا مولوع !"
تلقاه حميد بابتسامته المعهودة، مد يده مصافحاً إياه في تأثر:
- اعتبرني يا مشيكة أخاك.
استند مشيكة يتابع حركاته، صاح :
- لابأس من الاتكاء على الحاجز، صديقي سيدفع ثمن اتكاءاتي.
هزئ به ولد بريك رافعاً كتفيه. وسألت جانيت عبد الحميد؛ وعلامات التضايق لم تفارق وجهها:
- ماذا يشرب؟
قال مشيكة، وقد شعر بالحماية:
- هل أنا جديد على الحان؟ أترى مسيو حميد كيف تعاملني؟
شجعه:
- أطلب ما شئت...
تردد، ثم نطق في حبور:
- كونياك !
ضحك رواد الحان سخرية "آش خاصك العريان، الخاتم آمولاي"
كان يدخل معها أيام عزه في سلسلة من الاستنطاقات بدون جدوى طبعاً:
- أما من نبأ عن العدو؟
- وصلوا إلى آنفا.
- فليصلوا إلى موغادور !
ثم تثور في وجهه بكل حنق:
- أي خبر تلتمس من يهودية.
في الواقع، كانت طائفتها في الملاح تحتاط من الألمان، و تتحفظ حتى من ذكرهم؛ فلا تمتلك هي، سوى أن تبكي.
- زبائن؟ ماذا؟ كيف تسمح لي بالوقوف في ناصية الشوارع؟ إنك تهينني !
كان يعتقد حتى تلك اللحظة أنه يمتلكها. ويذهب به غروره إلى حد الاعتقاد أنه معشوق النساء في الدرب وأنه غاويهن، وحتى نساء أصدقائه الضباط الفرنسيين...ثم يتراجع أمام سلطانها عن غروره:
- تعتقدين جيداً، أنني لا أثق بامرأة أخرى غيرك؟
- كف عن الهوى. لم يدخل جيبي سنتيم واحد منذ أسبوع.
- لماذا؟
- خلت المقاهي، أقفرت الطرق من الجنود.
وكان يتجاهل التعبئة الشاملة، جهاراً وفي الخفاء. هو أيضا جندوه كضابط للاستعلامات.
- كأسا أخرى.
صاح مشيكة.
وقال عبد الحميد ؛ وقد قطع حديثه مع ولد بريك:
- لك يا مشيكة أن تحتسي كل براميل الحان ! أسرعت تضع الكأس، دون أن تأبه لوجوده. تناول من كأسه، وسرح في تفكير عميق: كل الناس في العالم، لهم أصدقاء، انتصر الحلفاء، أخذ اليهود فلسطين. أما أنت؛ فقد خسرت جانيت. مزقت أوراقك، رفضت العودة إلى فرنسا حيث كنت تعيش حياة معقدة؛ طردوك من معهد الفنون الجميلة بباريس. دراسة مضطربة للغة العربية في الجزائر. لما أنزلوك في الدار البيضاء، في مهمة رسمية، صادفتها بإحدى الحانات وسط المدينة؛ وقد تحولت الحانة الآن إلى متجر.
والواقع أنها اتخذته خدناً، يوم عز الرجال، ثم وجد نوعاً من الاستقرار في حضنها، حتى إنه لم يستطع أن يتحكم في غروره مزهواً برجولته. حينذاك قرر الإقامة في المغرب: مدح وأطرب، وقام في الوقت ذاته، بمهام رسمية متعددة؛ وبنجاح. ومع ذلك كان يشعر بالنقص عند اختلائه بها، كانت تقول له: "لو كنت تحيني، لصرت جندياً، ولو في مؤخرة الجيش ! "
وبهذه المعادلة، راهنت على مستقبله العاطفي: (الحب، التوحد في الآخر... ولكن الموت في ساحة الوغى، هو كذلك تضحية من أجل المحبوب؛ ففناؤك هناك، فناء فوق العادة !)
ولعل ذلك هو ما قد خطر على باله حينما تحدث إلى أهل الدرب ذات يوم بعد انتهائه من عزف إحدى الموشحات التي يغنيها على انفراد، ثم يتبعه جمهور الحلقة، بترقيق الصوت. "إذا استمرت الحال هكذا، فلن أمكث معكم إلا قليلاً !"
اكتنف الحزن قلبه، وانتاب الحاضرين في الحلقة قلق أليم على فراقه المحتمل، فران على الجميع صمت مخيف...
سأله متفرج:
- أية أخبار جديدة عن الحرب، فأنت دائم التجوال في المقاهي والحانات الأوربية؟
ودون أن يبدو عليه أي تفاجؤ بالسؤال، أجاب:
- المقاهي فارغة. صاحبكم الدربالي، أوشك على الإفلاس ! وألح عليه متفرج آخر:
- أما سمعت عن أرمن رمل؟
ويستفسر البهجة عبثاً:
- ومن أرمن الرومي هذا؟
... ويضع الطنبور على الأرض، ثم يقوس حاجبيه من خلال نظاراته، يستمع إلى بقية التفاصيل. وعندما لا تعجبه التعاليق يرفع الطنبور، فيزداد كلبه التصاقاً به. ثم يخاطب المتحلقين:
- الحرب خدعة يا أولاد !
وعندما سمع أن الألمان اخترعوا القنبلة الطائرة، وصواريخ ف 2(72)، وان الحلفاء، توصلوا إلى القنبلة الذرية، نهض يتبعه كلبه، وقد تضجر: "هل بالإمكان الجمع بين المرأة والسياسة؟"
هم أن يغادر الحان، إذ كان بكأسه بقية من الكونياك، فاتفق مع نفسه ألا يغادر إلا بعد أن يأتي عليه.
كان عبد الحميد يحادث ولد بريك في مسائل ارتباط الرجل بالمرأة، وأيهما يضحي بشبابه من أجل الآخر.
أما هو، فكان المتحلقون حول حلقته، يقعدونه متطلعين إليه:
- يا شيخنا، إياك والضجر، فجنودنا، سيحمون أوروبا !
وتنفتح أساريره مع ظل مأساوي، يحسبه الناظرون ناجماً عن عماه، فيبدى مخاوفه:
- هذه الحرب يا سادة، فوق شجاعة الشجعان. فلو دارت رحاها في الدرب، لن تترك الأخضر ولا اليابس !
هتفوا جميعاً:
- بعداً لها من شر !
أما كبور، فكان لا يفتأ يردد:
- مات الدرب قبل اليوم، فلنحتفل بموته من جديد !
" احتفل أنت كذلك، بموت حبك القديم – الجديد، كل يوم يموت، أنت تأبى أن تصدق".
وتجرع في صمت البقية الباقية من كأسه، فكأنما شيء ما ينادي في أعماقه، في طلب كأس جديدة، لكن صوت عبد الحميد سبقه "كأساً أخرى لمشيكة !"
كيف تنسى جانيت أحداث الأمس؟ مازالت كلمات الضابط الألماني تجلجل في أذنها: تتوالى الطرقات على الباب تلتصق جانيت بالحائط؛ اصفر وجهه، ثم أسرع يرمي بمجموعة من الأوراق السرية في إناء القمامة. وضع عليها قشور الخضار، ثم هرع إلى الباب، يتساءل بصوت عربي مرفوع، فيه تكلف، ومن ورائه كلبه ينبح باستمرار:
- من بالباب؟
سمع صوتاً بالألمانية، يصدر من الأعلى إلى الأدنى:
- هيا افتح الباب سريعاً !
دخل جنديان بعجرفة، يصحبهما ضابط ثالث، وترجمان عربي، بلباس أهل طبرق. واجه الكلب الضيوف المقتحمين بنباح شديد. أخذت جانيت تحاول إسكاته وبالرغم من أنه قد أزال العمى الكاذب عن وجهه، إلا أنه بقي مرتدياً اللباس المغربي.
تجرمن الضابط الألماني جرمنة تظاهر بول بعدم فهمهما. بينما قد صوب سلاحه الناري إلى صدره، وصدر جانيت التي جحظت عيناها من الفزع. اصطكت ركبتاها، فيما راح الضابط يلقي نظرة عامة على الشقة التي كانت شبه فارغة من حيث أثاثها المتآكل. ولما عاد، حادث ترجمانه بصوت غير مسموع، وما لبث هذا أن تكلم بعربية فصيحة:
- الضابط الألماني يسأل عن أقرب مدفعية فرنسية من هذا المركز؟
رد بعربية أفصح:
- بيني وبين الفرنسيين عداء قديم: إني سائل أرتزق بالغناء، أمدح أعيان قومي تكسباً يا أخا العرب، لا حباً في سواد عيونهم.
أعاد الترجمان ما قال على الضابط الألماني، ثم همس إليه. ضحك الضابط، ثم أطلق صفيراً على خطورة الموقف. تقدم نحوه في ارتياب، فحصه جيداً. سأله عن هويته، على لسان الترجمان:
- من أنت؟ ومن هذه السيدة التي معك؟
- أنا مغربي، وهذه زوجتي !
أعاد الترجمان قوله على الضابط، ثم استداروا على أعقابهم.
ارتمت جانيت يوم ذاك على صدره، فضمها إليه. لعلها أول مرة تشعر فيها بحاجة شديدة إليه.



#محمد_الإحسايني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نصف كرة في خصلة شعر
- خمرة العشاق
- عناصر منفصمة..11
- الإنسان والبحر
- عناصر منفصمة...10
- عناصر منفصمة...9
- عناصر منفصمة...8
- عناصر منفصمة...7
- عناصر منفصمة...5
- عناصر منفصمة...4
- عناصر منفصمة...3
- عناصر منفصمة...2
- عناصر منفصمة
- مفاكه
- إحساس
- الأرامل
- كل واحد وخرافته
- شارل بودلير...العامّة
- فينوس والمجنون
- إشراقات بعد الطوفان... آرتور رامبو


المزيد.....




- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية
- فنان مصري مشهور ينفعل على شخص في عزاء شيرين سيف النصر
- أفلام فلسطينية ومصرية ولبنانية تنافس في -نصف شهر المخرجين- ب ...
- -يونيسكو-ضيفة شرف المعرض  الدولي للنشر والكتاب بالرباط


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الإحسايني - عناصر منفصمة...12