أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الإحسايني - عناصر منفصمة...10















المزيد.....


عناصر منفصمة...10


محمد الإحسايني

الحوار المتمدن-العدد: 1813 - 2007 / 2 / 1 - 09:21
المحور: الادب والفن
    


رواية
10
كامبيتا ياملاذ العاشقين!

وضع نظارات كاشفة على عينيه يراقب سيقان الأشجار اليانعة من رصيف "بوتيت ليل" بمفرده. "ما عسى يكون داخل اللحاء؟" وكان يحاذر أن يطلع جعيبة على كنه البضاعة الجديدة، اختبره في المكتب:
- كم وصل من هذه السلعة؟
- كرطونة واحدة، جاء بها بنمنصور .
حذره من استعمال تلك النظارات خوف العمى: "ستنتابك دوامة، فتصاب بالعمى المفاجىء". في المرة السابقة، بعث له بنمنصور عينة من بلجيكا، ولما ذهب ليتسلمها، أعطوه إطاراً بدون زجاجات: سكت، وسكتوا، رفع موظف الجمارك عينيه نحوه: "ماذا تنتظر؟" أجاب تلقائياً: "لاشيء" وحمل معه ما تبقى من الطرد البريدي، فانصرف.
نادى على كأس ويسكي، طوى النظارات، ثم وضعها في جيب سترته، في ارتقاب سعاد، لقد استولت على تفكيره بتودد، إنها المراكشية البريئة، لكن أين ستنتهي براءتها؟
طريقتها في إلقاء النكت عفوية، متحررة، غير متزمته؛ وهي إلى ذلك، تعيش لمحات من الذكاء، وتتحين الفرص، دون أن تؤذي بطموحها أحداً من الناس، تترفع عن ذلك، حفاظاً على سمعتها في الوسط الثقافي، فقد أدركت بفطرتها، وأحياناً باستقرائها، أن الوسط الثقافي عالم غرائبي، غارق في دوامات الايديوجيا والأسماء المعروفة التي أخذ الكتاب يسردونها تباعاً كالأوراد، واحداً واحداً، في ترتيب مبتذل. يحلو لها أن تقول " ذكرني باسم من تلك الأسماء المبتذلة من كثرة تكرارها، أقل لك إنها كل شيء، سوى أن تكون كلها مبدعة". كذلك، كانت تتحدى ترتيب أوراد أسماء الأشخاص، كما يسردها سعيد. نقلاً عن الصحف. إذن من الخير أن تصمت، وأن تتفرج كشاهدة على الانحرافات، سياسية كانت، أو ثقاقية أو اجتماعية. كانت تقول لسعيد:
- ما أكثر شساعة عالم الثقافة والإبداع الذي يأبى أن ينحصر في فئة معينة من السبحات !
لكن هذا القول لم يكن يعجبه. أما عبد الحميد، فكان يسايرها بغريزته التجارية، وإن كان يسخر في خفاء، من سلوكها منذ أن قدمها له ولد بريك في حان جانيت. وكان قد حدس حرصاً في التقديم. تحدثا بعد ذلك منفردين، دون أن يشركا معهما أحداً في الحان. وكانت قد بادرته:
- كيف أخبار الولايات المتحدة؟
- أرقى بكثير من الحياة هنا !
لم يكن قد زار الولايات المتحدة قط؛ وإن كان على علم بعواصمها. ابتسمت في خفر، تخفي رغبتها، ثم شجعها الراضي على مواصلة الحديث، صمتت برهة، ثم استأنفت في حذر:
- جاءتني دعوة من المعهد العالي للسوسيولوجيا، بولاية كاليفورنيا...
ولما لم يعلق، أضافت:
- لكن هناك دائما المسافة، والإقامة في الغربة، وأشياء كثيرة...
طمأنها:
- هناك شريكاي ستيتو وبنمنصور، لهما شبه إقامة دائمة في الولايات المتحدة، لهما عملاؤهما...
ولا يعرف كيف انفلتت من لسانه كلمة "عملاء" كان ذلك قبل مقتل ستيتو في طنجة. لما ارتفعت بينهما الكلفة، سألته في صراحة:
- هل تغتصب زوجتك بالقوة؟
ضحك ولدبريك، ثم أضاف:
- إنه أديب وفقيه !
سخرت منه:
- يجب أن ننفض الغبار التاريخي عن كلمة الأدب.
تنبه إلى أنها لم تكن تعنيه بالذات قدر ما كانت تعني سعيدا الذي توفق إلى طبع كتب تهريجية حول المثقفين تارة، وحول النساء تارة أخرى.
كتب سعيد تهاجم المثقفين المحسوبين على اليسار، واليمين المحسوب على اليمين ذاته، سواء بسواء. وقد كاد الراضي ينجدب معه لولا تساؤل سعاد:
- هل لنا ديموقراطية يمين، وسط، يسار؟
ولما لم يجبها أحد؛ أنشأت تقول: "مهزلة ! حينما نهاجم كل المثقفين. بشكل كرنفالي بمزيج من عينات مختلفة من أساليب عهود الانحطاط. أيدها، دون أن يحرك ذلك شعرة من عبد الحميد، لأن الاستنباط يفقد طعمه من خلال ضروب السلوك المختلفة:
- هل اللحى هي عنوان الفكر الثاقب؛ فمتى كان التيس يبدو مفكراً، ومن الطراز الأول؟
تذكرت أن سعيداً يترك لحيته مسترسلة قليلاً، يمتص غليونه في رشاقة مصطنعة، يذرع أهم شوارع المدينة في نخوة بمفرده متأبطاً كتبه، وهي عادة، آخر موجة تقذف بها أي دار نشر فرنسية.
إنها على أي حال، ثورة داخلية، بركان يستيقظ، لكنه ضل طريقه البيولوجي، فخمد في سطور !
رصيف "بوتيت ليل" يعج بالباعة المتجولين، والمتسولين. عبد الحميد يهرب إلى هناك ليدفن أحزانه، ويترقب الكثير مما تأتي به الحياة.
ولكم كان صوت يهتف بداخله صاخباً أبداً :"ممر كامبيتا، يا ملاذ العاشقين ! كم تعانقوا في رحابك ! وفي ظلال الظهيرة "قلوب وأبدان ! ".
هناك كان ينتظر رابحة. وتحضر في الموعد المحدد، يدفعها الفضول، فأخذت ترنو إلى متحابين أوروبيين. ولما ضايقتهما، أعطاها العشيق تينة، ثم مسح على وجنتيها وشعرها النائم. انسابت في عفوية تقشر التينة، وعندما رأته قبالتها، قذفته بها في انتصار أنثوي. كان وجهه لا يزال ملطخاً، ثم راحت تعاتبه:"يا ولد الهم، أنا هنا مصباح !"
حاول أن يتسلل إلى قلبها في بارك ليوتي، وكانت نفسها كئيبة:
نهضت يومذاك من مقعدها فجأة، وبتضايق:
- كلانا مسؤولان فلنتقاسم المسؤولية ! حسبي ذلك لينبع قدري بين أهل الدرب.
- حديثك حلو ! ... اقصري، بحق أمك، سوف أطير بلا جناحين.
ونهض يسير بجانبها. إن الكتابات العربية تعجبه. سارا معا جهة تمثال المارشال، كانت تكره الجنود، ولباسهم، استردت منه يدها بعنف، حولت وجهها عن التمثال، ثم اعتراها حماس مشوب بالثقة: "أي دلالة لوقوفنا تحت ظل المارشال؟"
كذب على نفسه، وكذب عليها: "أثارتني قصة هذا المارشال المجسد في النحاس الصديء، فذبت مع المعدن، في الكتابات العربية المنقوشة والرسوم."
ولما عيل صبرها همست إليه:
- ها أنذا أبسط أمامك الحب، اقرأ ما شئت، وأجهد نفسك ألا تنسى !
شد على راحتها بيد رضية في إلحاح؛ وهو لا يدري ماذا يصنع، همس إليها:
-أصغي إلي جيداً: الحب يأتي طوعاً بلا تكلف ولا إجهاد.
امتزجت يوم ذاك أحاسيسهما: خيال شابة تدرك أبعاد الحب، تجتاحها ريح من التمرد على الأوضاع والتقاليد... لكنها لا تتقدم خطوة واحدة بغير شاب قوي العزيمة، يأخذ بيدها، يستشعر الرجولة، والنماء، والتفتح.
وكان يسري على نفسه، أنه مجبر على ارتياد الآفاق، وأنه ذاهب إلى فاس للقاء علماء أجلاء يأخذ عنهم، يتلمس الذخيرة من مصادرها. اليوم، يتحسر على أمسه الضائع. ولما جاء النادل السوسي، بكأس الويسكي، سأله:
- هل لا بد أن تحضر سعاد؟
انحنى إبراهيم نصف انحناءة، ثم أجاب في أدب:
-لابد أن تحضر.
نظر النادل إلى ساعته، ثم قال:
- العقربان لم يشيرا إلى الساعة بعد.
ثم انسحب في أدب النادلين.
في بوتيت ليل يجعله الانتظار عبداً لخيالات بشعة، ينحني لها، تسيره أنى شاءت: "الويسكي يفوح برائحة دم البق؛ فاكتفى بالنظر إلى الثليجيات الراسبة.
تنغمس اللحظات في الكأس لتنصهر بإيقاعاتها في أودية من ذهب تجرى صوب العالم الجديد؛ كولورادو، عالم الكوبوي، والمال، والنساء، والديمقراطية، والعدالة !
" ترى، لو اكتشف عباس بأدهمه هذا العالم، أفيسيره مهموزاً سابحاً به فوق أمواج المحيط، بدلاً من التريث الخالي الذي حشره فيه الدرب قسراً، وبدون مناقشة؟"
ثم تنبعث من قعر الكأس أعين حيتان ضخمة، عرائس ساحرة، أو أسماك قرش، على الأقل، تبحث عن ضحايا، فيلقمها بيده سبائك الذهب، فتهبط إلى العمق:"ماذا تريد سعاد ؟ إنها أشقى مخلوق على وجه الأرض."هذا ما يخيل إليه، ولكن كثيراً ما ينطلي عليه شقاؤها بالظرافة، والتفكه باللهجة المراكشية الصميمة.
سعى ولد بريك عبثاً أن يثنيها عن السفر إلى الولايات المتحدة. وبالرغم مما أبداه هو، من الترحيب بالفكرة، فإنه موقن أن النوع الذي تنتمي إليه من الإناث لن يعود صالحاً لأي استعمال مجرد أن يعبر بحر الظلمات. لما تكاشفا أو بالأحرى، عندما تود هي، الحديث باللهجة التي ترضيها، تتساءل:"لماذا ارتفع الكراء والخضر، وكل المواد بعد استرجاع مزارع المعمرين؟" وهو، ألم يخرج عن أعراف قومه، وارتمى تحت ظلال تمثال المارشال النحاسي، فأصبح ضالا بين قبعات الضباط وبزاتهم العسكرية؟ ماذا أجداه تعلم الفرنسية؟ لا شيء، سوى أنه بصق على أماني قومه في جهالة جهلاء. وكلما أحسنوا إليه، أساء لهم.
كانت تسجل بعض الظاهرات الاجتماعية في روزنامة خاصة، مرفقة بملاحظات قصيرة، ورموز رياضية، لا قبل له بها.
بيد أنها كانت تتأسف، لأنها لم تتطلع على نظريات وآراء دانيال ليرتر من منبعها الأصلي. وتتذرع بأنها ستؤلف كتاباً علمياً يدرس كيفية تخفيف التناقضات الاجتماعية، ثم إن الطالب المجد في نظرها هو الذي لا يكتفي بالشهادات الجامعية المحلية. أثنى ولد بريك يوماً على شركات تفريخ الدجاج في حان جانيت، فأبدت اشمئزازها (هل علمتم كيف يذبح دجاج الماكنات؟).
ذابت الثليجيات في الكأس، رشف منها رشفات، ثم توقف، "سألقمها سبائك الذهب، حتى تهبط إلى قعر المحيط لن أدعها تفلت."
وكانت تبدو له: قامة تعكس رشاقة ما في ضفتي البحر الأبيض المتوسط، إنها مزيج من جمال البربر، وبراعة الأندلس، وسحر الشرق. "سيقولون: إنها منحدرة من جبل أوكايمدن، أو من إيوركن، أو توبكال." ثم يتخيلها كاشفة عن هويتها الحقيقية: "ستتعرى فتقول لك: لستُ من ذينك وحسب..."
لاحت له تشق طريقها إلى الرصيف، والابتسامة لا تفارق محياها. بادرها:
- هل أنت بخير، أيتها العزيزة؟
- الكل على أحسن ما يرام
استولت على كرسي قبالته. ولمح هو، من شرفة الرصيف، نور النيون ينعكس على زجاج بوتيت ليل:" ماذا بقي في نهاية فصل خريفي سوى ورد يذبل على مزاهر هذا المطعم؟" بل كان يتلمسه قبل يومين، فوجده من البلاستيك.
حتى الشمس، لم تعد تثير انتباه الناس عند الشروق والغروب، تنسحب عنهم مثل لص، وتتسلل، دون أن تخلف شعوراً بالاطمئنان، نبهته:
- فيم أنت شارد؟
- هل سمعت، أو قرأت، قصة الأخوة المغررين، الذين حاولوا اكتشاف أمريكا؟
جمعت انتباهها:
- بربك، هل هذه الحكاية صحيحة؟
حاول أن يزيح عنه مسؤولية القطع برأي صحيح:
- ذكرها صاحب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق .
- أي آفاق للماضي؟
ثم أطرقت سارحة في أفكارها: " يبدو أن عبد الحميد يعيش لحظات مهووسة. إن تألقه، وحسن هندامه، يثيرانني، فلو لم أكن مرتبطة إنسانيا بالراضي، لارتميت بين أحضانه، لأدخل إلى عالمه، سأدعه يفعل بي ما يشاء، إنني لم أستطع إخفاء إعجابي به، أمام ولد بريك، فهو، غير بخيل بالدرجة التي تخيف النساء، دلائل الشيخوخة في وجهه، تريك وقاراً ومهابة ! ودائماً، ليس من واحدة، إلا وتشعر أنها فقدت جزءاً من عطف الأبوة: لست معقدة، فهو أفضل بكثير من مئات الرجال المخنثين الطواويس. بذلته الحليبية، وصلعته التي لم تنبت بها غير شعيرات معدودات، صهباوات، ترسخان الثقة به، والاعتزاز بمودته".
في المرات السابقة لم تتمكن من الجلوس إليه في اطمئنان، فالظروف تحتم عليها أن تتبادل معه كلمات سريعة، فقد أثارها حديثة في حان جانيت، وهو يرد على خصومه المحتقرين له. حقاً، هناك من الرجال، من لايزال يحتفظ بأسنانه، وبعادات الشباب.
عندما غادر الحان يترنح، دارت وشوشات، في تلك السنوات الأخيرة، وقيل إنه لاذ بمنصب الترجمان، وبالمقابل، فقد مشيكة قدرته على التركيز في العمل بسبب حبه لجانيت.
من الصعوبة عليها أن تصدق ذلك، " فهو، نبيل محترم ! " في نظرها، تتبعته بنفسها مراراً، وهو جالس إلى الشراب. وكانت تتساءل: " هل كان يشتاط؟" ثم تجيب نفسها: "ربما، إذا كان سلوك الأشخاص يفسر بالاعتقاد بالعصمة" فقد كان لا يضبط ألفاظه جيداً، وكان يمزج بين أهوائه والقضايا العامة التي تشغل بال المواطنين. إنه مزيج من أنانية، وتشبث بالفضيلة. أي فضيلة؟ الصحف تتحدث عن فضيحته مع زوجة سائقه. وهنا يكمن التناقض في شخصية الرجل. ومهما يكن؛ فهناك من يختلفون في تقديره، وهي واحدة من هؤلاء. "إنني، أيتها الحائرة، لا أدري من أي زاوية أبا شر الحكم عليه." وربما يكون الصواب بجانبها، فغيره من المسؤولين الكبار، غارقون في الفساد، والتلاعب بالمال، والعقار والامتيازات، والمحاكمات الخاصة تجري بين فترة وأخرى... ثم تطوى الملفات طيّاً وتؤجل تأجيلاً.
كانت تسمعه يهذي فترات العربدة بعبارات تدعو إلى الاحتفال بالطبيعة، وتقديس الفضيلة، وأنه ينبغي أن تسير شؤون الناس على أحسن مثال. وإلا؛ توقفت كلها، ولو في ذلك هلاك العالم !
كثير من زملائها تحدثوا عن غلاء المنتجات الزراعية بعد استرداد المزارع من المعمرين، إلا هو. كان يثني على موقف المزارعين، لأن المثال، في نظره، يقتضي القوة لا الضعف.
وعندما يتضامن الزملاء لصالح الطبقة الفقيرة، لتغليب آرائهم – وهي بينهم- على رأيه، لأنه كان معانداً، يقترح عليهم صوم يوم واحد كل أسبوع عن المزروعات لفائدة الزائدة الدودية، وتخفيفاً للاستهلاك. وقيل له:" كفانا صوم رمضان... أنت أدرى بحكم من يصوم الدهر" فكان يجيب ببساطة، وبكل برودة:"في رمضان لا يصوم الناس إلا بالنهار !".إن في موقفه لحيرة. هل يملك روحاً فكرية تؤهله للدفاع عن الحقيقة، ولو كانت حقيقة مثالية؟ جاء إبراهيم، همست إليه:
- "سيرو" بالنعناع.
طأطأ النادل رأسه، سألها؛ وهي لا تزال ساهمة، بينما هو لا يزال منجذباً نحو جيدها الفرعوني:
- أي اتجاه ستتابعين في علم الاجتماع، إذا وصلت إلى كاليفورنيا؟
- حقا، هناك عدة اتجاهات يمكن للطالب الباحث الاطلاع عليها.
وكأنها تحس أنه لا يزال يطلب تفاسير أخرى:
- إذا خيرت، سيتجه اهتمامي إلى المنطق الداخلي للمسألة السياسية.
ثم أضافت:
- على أي حال، أفضل استعمال الأسلوب العلمي حتى ولو فيه رتابة. لكننا كثيرا ما ننخدع بالمنطق الخارجي.
ضحكت عن حسن نية "كيف ستكون رحلة طالبة مثلي إلى الولايات المتحدة؟ إنها لمغامرة. اكثر من ذلك، وقت اشتداد البرد، سأرتدي معطفاً نسائياً من الفرو !"
وتصورت نفسها، فتاة تلبس قبعة، وعندما تلج المكتبة العامة، تضعها على المشجب كما وضعت الألبسة المراكشية في الصندوق الخشبي ذي التعاريج من الأرابيسك العجائبي، وتخيلت أنهم سيسألونها عن أوكايمدن، وآيت أورير، وتاحناوت وإيمنتانوت. والتزمت مع نفسها، أن تحكي لهم عن كل شيء، عن الحياة العجيبة، سيسألونها عن الشمس، والنجوم، والحناء، والحمّام، واللوز، والهارجان، والسناجيب، وأحواش و أحيدوس، و العيطة، وهلم جراً...
لم تفطن إلى الكأس الموضوعة أمامها، إلا بعد أن نبهها عبد الحميد إلى ذلك.
استفاقت من أحلامها وقالت له:
- إن للوطن لتمثلاً يفيض بالذكريات الحلوة في شعورنا.فكيف بنا إذا تباعدت الديار؟
كان جوابه جواب من يستبقيها:
- إذن من الخير ألا نغترب.
وكمن استفاق من حلم جميل فاته حديث رائع:
- ماذا قلت؟ لابد من الخروج من القوقعات الحالية.
وتذكر يوم اشتداد هياج غلاة الفرنسيين على المواطنين: جاءه مسيو فورنيه، على عجل إلى قصر البلدية، وقال له بصراحة لم يعهدها فيه: "من الأحسن، مسيو حميد، أن تهيئ نفسك لسفرة طويلة، إن جميع الأوراق جاهزة."
وكان آخر صيف عاشه مع آخر نبضات منظمة الوجود الفرنسي، ولم يكن يتوق إلى المنفى، والغربة، فكان رده:"أرجو تسوية وضعية مساعدكم إدارياً، لا تنظروا إلي بعد اليوم كشخص فوق العادة."
بادرته:
- أتظن أن سفري، سيجيء مثل سفر الإخوة المغررين؟
- لن تكوني- مهما بلغت- ملمة بالحياة هناك.
فاجأها السؤال؛ فسألته:
- لماذا؟
هي غير حياة السطور، سيما وأن لك اتجاهاً أكاديمياً.
ثم نهض، فتبعته، لم ينس أن يضع ورقة مالية من فئة خمسة دراهم زيادة على ثمن ما شرب، وكان ينفح بها إبراهيم النادل كلما ارتاد بوتيت ليل.
انسابت في شارع 11 يناير ممشوقة القوام، غير ممتلئة، وسارت وإياه في نفس الاتجاه مترجليْن. خيل إليه أن كل شعرة من جسدها، تصرخ بنداء الشبق. تساءل: "هل هو جسد بربري، أندلسي، شرقي؟" وأخذت أفكاره تأخذ إيقاع خطواتها:" ألا يمكن أن تسقط هذه المخلوقة متورطة أثناء ما تسميه البحث الممنهج؟"
وكان يتحاشى قبل، الاستغراق في التركيز على جسدها، يتألم، ولا أحد يحس بآلامه، سألته فيما إذا كان يرغب في أن توصله بسيارتها إلى الأحباس، أجابها، كاذباً، أنه يفضل المشي على قدميه في نزهة بساحة الأمم المتحدة. أحست ببعض الضيق، حتى تمنت لو أنها اقتربت من شخصيته التي تزداد غموضاً، ثم كيف ستكون أيامها الأولى في الولايات المتحدة ؟ هو، ليس مسؤولاً عن سعادة الآخرين، وإن كان يطرح تساؤلات. مالت إليه:
- أستاذ، افتح لي قلبك.
اندهش، بالرغم من أنه كان ينتظر منها سؤالاً ما. تصنع التواضع، وتحسر ؛ ولسان حاله يقول:" ليسفي الإمكان أبدع مما كان!"أما هي فقد استنجدت بنصحه:

- من الأفضل أن تركز على الحاضر، أعني هل هناك من يمهد لإقامتي في الولايات المتحدة؟
تنبه سريعاً إلى أن أموره معها تسير من حسن لإلى أحسن؛ فتدارك:
- من قال العكس؟
قطعا مسافة كبيرة، حتى شارع الراشدي، أحست هي بالتعب، فاستدارا آئبين، وظلت مغتبطة بجوابه، ثم سألته:
- يجب أن نباشر العمل من الآن، فليس أمامنا إلا خمسة عشر يوماً.
- أقترح أن تتم الرحلة مع بنمنصور، ولن يكون ذلك، إلا في طنجة.
ساحة فيردان مقفرة. عبد الواحد السملالي الذي كلفه بالقيام بجرد عام لآل الواشم، انقطعت أخباره، ما يزيد عن سنة، تأكد له ذلك، على صفحات الجرائد، انتابه هاجس حول مهمته:" ترى، ماذا فعل الله به؟"
مازالت نوستالجيا أسرته الغابرة في الأزمان همه اليومي، بعد أن هيمنت عليه ذكرى والده الراحل، وطرْده من الأسرة والدرب، ومن أذهان العامة، لم يبق له من الأسرة، إلا أثاث الدار المكتراة من مديرية الأحباس، من فقهاء مثله، ومازال مشيكة بدوره، يطوف على المقاهي، بصحبة كلب. ولكم تساءل مع نفسه قبل أن يسقط في وحل السلطات الحاكمة:"أصحيح أن الصدق من صفات الدربالي؟"
واتجه نحو البريد المركزي، يلوم نفسه:" مشيكة، لا تلمني إذا رجعت إلى الماضي !"
تضاربت الأقوال في شأن الدربالي، قالوا: إنه منحدر من أكرم السلالات العربية في الأندلس، وقال آخرون: بل هو جزائري من نبلاء وهران، لا وقت للمراجعة.
أما هو؛ فكان يتفاءل به، وفوق ذلك، لم يستطع أن ينبذ الماضي، لأن الواقع الحاضر، مليء بالخذلان، سيما وهو يغادر مركز السلطة، وأنه عاش حتى شاهد بأم عينيه، سقوط الحماية:" أنت، جزء من شبابي، لكن قومي عفا الله عنهم، لا يعلمون".
ومما تتفق عليه الأقوال في شأن الدربالي، أنه دائم التنقلات بين أطراف المغرب، يمدح الباشوات و القواد، وأعيان القوم ووجهاءهم. "اعذرني يا دربالي !"، وكأنما خاف على نفسه من نسيان الماضي.وكأنما خاف من أن يلقى المصير الذي لقيه الدربالي، فناجاه مناجاة الأحبة:" عدلت عن الأسفار، طاب لك العيش في المدينة، تتجول بين مقاهيها، وفي أحيائها، تتناول كل لحن سمعته أذناك ! ها أنت، تلفظك المدينة، منبوذاً مثل البعير المجرب ! "
فتحت سعاد باب السيارة الأيمن الأمامي، صعد، ثم صعدت هي، واتجهت السيارة صوب المدينة الجديدة



#محمد_الإحسايني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عناصر منفصمة...9
- عناصر منفصمة...8
- عناصر منفصمة...7
- عناصر منفصمة...5
- عناصر منفصمة...4
- عناصر منفصمة...3
- عناصر منفصمة...2
- عناصر منفصمة
- مفاكه
- إحساس
- الأرامل
- كل واحد وخرافته
- شارل بودلير...العامّة
- فينوس والمجنون
- إشراقات بعد الطوفان... آرتور رامبو
- ثقافة الحوار والاحتلاف
- فلوبير عشية محاكمته
- إعادة الاعتبار لشارل بودلير
- البنيوية التكوينية وإشكالية تخارج الإبداع- 1
- القارورة...لشارل بودلير


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الإحسايني - عناصر منفصمة...10