|
البناء الدرامي في مجموعة: لفحات أغسطس القصصية
رشا الفوال
كاتبة
(Rasha El Fawal)
الحوار المتمدن-العدد: 8456 - 2025 / 9 / 5 - 08:44
المحور:
الادب والفن
مقدمة: على افتراض أن الدراما تشبه بيتًا متكاملًا، رأيناه بعد أن ظلت الأجيال المتعاقبة تضيف لبنة فوق لبنة؛ فالدراما تعود في أصولها اللغوية إلى: dram وهى كلمة يونانية تعني: يؤدي عملًا، وقد انتقلت من اليونانية القديمة إلى سائر اللغات الأوروبية لتصبح: drama ثم تم تعريبها وأصبحت تُنطق على النحو نفسه: دراما(1)، هذا وقد عرف: أرسطو الدراما بوصفها محاكاة لفعل إنساني، ثم اتسع مفهوم الكلمة لكي يشمل الفنون كلها، بعد أن تحولت الدراما إلى روح تسري فيها، بصرف النظر عن كونها قالبًا مسرحيًا(2)، وعليه فالبناء الدرامي من أصعب الأشكال الفنية في الكتابة، نظرًا لتعدد عناصره، وتعدد القضايا التي يتناولها، في مجموعة: لفحات أغسطس القصصية، الصادرة عام 2025م، عن دار منازل للنشر والتوزيع للكاتب: سيف بدوي، نتناول البناء الدرامي في القصص، من خلال المحاور التالية: المحور الأول: عناصر البناء الدرامي وحبكات المصير المحور الثاني: الأسلوب الدرامي وإيقاع الحكاية
المحور الأول: عناصر البناء الدرامي وحبكات المصير *********************************** تتعلق حبكات المصير بتطور الحدث، ومنها: (الحبكة العاطفية)، و(الحبكة الدفاعية(التبريرية)، و(الحبكة الميلودرامية)، هذا ويرتكز البناء الدرامي على عدة عناصر منها: العنصر الأول: الحكاية، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بميل الإنسان إلى المحاكاة، يأخذنا ذلك إلى الكيفية التي تتم بواسطتها صياغة الحبكة، من خلال الانتقاء وترتيب الأفعال المسرودة التي تجعل من الموقف حكاية؛ ففي قصة: تحية تواجهنا الحبكة الدفاعية التبريرية التي تتمحور حول ردود أفعال الشخصية المحورية_ التي تعمل في مصنع مشبك_ في سبيل حماية ذاتها، يخبرنا الراوي العليم: " لم تنم ليلتها.. تتذكر ما قاله مرارًا كلما حاولت أن توقف الأمر.. يحاصرها تهديده؛ فتتراءى صورة أخيها وقد عَلم.. دون أن يمكنها تخيل مصيرها بين يديه " إضافة إلى فكرة البطل المأساوي الذي يلقى حتفه والبطلة المأساوية التي تتحمل نتيجة الخطأ؛ فمن شروط تكوين الشخصية المأساوية الخطأ رغم علم البطل بعواقبه، معنى ذلك أن هناك علاقة بين الرغبات والأحوال العاطفية وبين السلوكيات البدنية. وفي قصة: التين وعسله تواجهنا الحبكة الميلودرامية التي تُبرز الصراع الخارجي، حيث البطل المأساوي أيضًا الذي: " يبيع البطاطا في الشتاء وفي الصيف يشوي كيزان الذرة أو يقشر التين، فتأتي عربات المرافق مسرعة والضابط يشير نحوه، والمخبرون يطوقونه تطويقًا؛ فينفلت من بين أيديهم التي ترتفع ثم تهوي بثقلها على جسده، فتطيح به في كل اتجاه " وتهدف إلى إثارة تعاطف المتلقي من خلال امتداد الصراع لشخصية البطلة التي: " جرت نحو عربة التين، وارتمت فوقها بجسدها، تبكي؛ فتمتد الأيدي المفلطحة وتندس تحت جسدها، تتحسس لحمها قبل أن تحملها وتلقي بها على الرصيف " وفي قصة: الورقة تواجهنا الحبكة العاطفية التي تُركز على العلاقات، والتي تبدأ نقطة الإنطلاق فيها من الكتابة بضمير المتكلم في الزمن الحاضر، يقول البطل: " كنت أود أن أصرخ في وجهها، في ورقة صغيرة كتبت لها: لا أريد أن أصبغ شيبي، لا أريد، ماذا سأفعل بالروح؟، لماذا لم تفكري فيما يصبغ روحي، أطبقت يدها على الورقة ومضت "، مما يعزز التوتر الدرامي ويخلق اتصالًا عميقًا مع المتلقي مرورًا من الرغبة في قولها: " أرجوك، لن يكلفك هذا شيئًا " إلى الفعل في قوله: " كلما ضاقت المسافة بيننا، تغيرت ملامحها، كانت عيناها تنظران لأعلى تحدقان في رأسي "، تماشيًا مع ما تم ذكره فالحبكة هى مجموع التنسيقات التي تحولت من خلالها الأحداث إلى حكايات. العنصر الثاني: الصراع الدرامي الذي يكون بين قوتين، تحاول فيه إحداهما كسر إرادة القوة الأخرى؛ مثال لذلك في قصة: تلك الأيام التي يتلخص الصراع الدرامي فيها بين عنصر الغواية: أبله سناء، وبين نقاط ضعف البطل المراهق، حيث الخبرة الجنسية الأولى، يخبرنا الراوي العليم قائلًا: " أبله سناء تخلع جلبابها؛ فيشرق جسدها بلمعة التعرق الشتوي، وتمد يدها نحوه فينتفض واقفًا " وما يتبع ذلك الصراع من عقاب الأم، ثم غياب رمز الغواية. وفي قصة: الغرين يواجهنا الصراع بين الحياة والموت، وبين العجز والإيمان، بين الماضي البهي والحاضر المنكوب. شخصية: الإمام ليست مجرد شاهدًة على الدمار، بل هى جزء من هذا الدمار؛ ووضع اليدين خلف الظهر، تدل على الانضباط العاجز والتأمل الحزين، يوحي ذلك بأن اللغة الدينية أو القوة الرمزية لرجل الدين لم تعد كافية لمواجهة( الغرين) كقوة قَدَرية غير قابلة للتفاوض أو التضرّع، وجملة: " النخلات الشاخصة الوحيدة مثله "، جعلت الإمام نفسه عنصرًا من عناصر الطبيعة المتروكة، ذلك أن الصراع الدرامي هنا ليس من وظيفته الوصول إلى الحقيقة إنما يحتم علينا طرح التساؤل الآتي: هل الإيمان يمنح القوة، أم أنه يُختبر حين لا يبقى من حولك أحد؟ . العنصر الثالث: تمثيل الصراع بوضع نهاية ما، هذا التمثيل يستدعي المشاهد القريبة جدًا من الشخصيات المحورية، والشخصيات الثانوية، وفي ذلك الاقتراب ضرورة فنية أساسية في البناء الدرامي، مثال لذلك قصة: قميص أصفر شفاف التي تحدثنا عن حالتين للعاطفة: في الحالة الأولى تسلك شخصية: الباشمهندس حمدي وفقًا لمشاعرها، وفي الثانية ترصد لنا التعارض بين الذات الداخلية والذات الخارجية، مع ملاحظة أن الأفعال الجسدية مثل( أقدامه التي تجري/ وتتخبط/ ويده تضغط/ ثم سقط مغشيًا عليه) هى الوسائل الأساسية لتمثيل الصراع وقد أضيفت إليها أفكاره الشخصية. وفي قصة: العازف يخبرنا الراوي العليم عن البطل المأساوي الذي أقدم على الانتحار بالفعل، بعد عدة محاولات فاشلة، مما أدى إلى تراكم هائل من الإحباط والإحساس باللاجدوى " لم يبق سوى أمر أخير ليضمن ألا تفسد حفله أى مفسدة مما اعتادها وحفظها ولم يُفلت منها ولو لمرة واحدة، لكنه الليلة كان قد قرر أن يوقف هذا الهراء اللزج ". فإذا قمنا بتحليل الدافع التصاعدي لوجدنا نقطة الحسم في عبارة: " لم يبق سوى أمر أخير" هذه العبارة توحي بأن كل شيء قد تم ترتيبه بدقة، ولم يتبقَ سوى إنهاء الحياة بمشهد النهاية، استخدام كلمة: "حفله" فيه نوع من الرؤية الساخرة لفكرة الموت. وربما نوع من التمجيد لفعل الانتحار، كأنه يريد أن يستعيد سيطرته على المشهد، وأن يجعل موته احتفالًا بإرادته، لا خضوعًا لقدره. هنا يظهر تمثيل الصراع المتكرر مع الموت المؤجل، ومحاولته الدائمة للنجاة من النجاة نفسها. واتضح الدافع التصاعدي للشخصية التي لا تتغير في معتقداتها، إلا أن ما تريده يتغير نتيجة الأحداث من خلال: الوعي التام بتجارب الانتحار السابقة أولًا، والإرادة المضادة للفشل السابق ثانيًا، والرغبة في السيطرة الكاملة على مشهد النهاية ثالثًا. مع ملاحظة أن الانتحار هنا ليس رغبة في الغياب بقدر ما هو رغبة يائسة في حسم الفوضى الداخلية واستعادة السيطرة. اتضح تمثيل الصراع أيضًا من خلال تصوير تغييرات الشخصية؛ فهناك شخصيات لا تتغير أبدًا؛ (تبقى رغبتها كما هى، رغم تطور الدافع) مثال لذلك شخصية: محمد العتمة العطار في قصة: تحية، وهناك شخصيات تتغير ويتغير دافعها، مثال لذلك شخصية المرأة في قصة: أعرفها وهناك شخصيات تتغير على الرغم من عدم تغير الدافع، مثل شخصية الطفل في قصة: تلك الأيام، وهناك شخصيات تبقى على حالها دون أن تتطور، مثل شخصية البطل في قصة: لفحات أغسطس، مع ملاحظة أن الشخصيات الثابتة ذات الهدف الثابت، تشعر بأكثر من عاطفة في وقت واحد، مثل الشخصيات المسطحة في قصة: حورية العنصر الرابع: الأداء العلني من خلال الحوار الحوار هو أحد الفوارق الأساسية بين العمل الدرامي وبين الفنون الأخرى، في قصة: العزال لاحظنا الحوار الدرامي الذي وصل إلى القمة الفنية حينما تحرر من الفكرة الجدلية، اعتمادًا على المفردات الحركية مثل: " وقفت أمامه؛ ففهم ونزل عن الكنبة بتنحني لتوها تفرد كسوتها/ وما أن انتهت من تسوية الكسوة، أشارت إليه، وهو لم يكذب خبرًا؛ فقفز وعاد إلى جلسته " فأفعال الامتثال والطاعة من قبل: مسعد تحمل الدلالة النفسية والاجتماعية، وربما الاعتراف بالخطأ أو الإحساس بالذنب. وأفعال الانحناء وإعادة الترتيب والتنظيم من قبل المرأة بمثابة إعلان غير مباشر عن رغبتها في إعادة ترتيب هذا المشهد/هذا البيت/هذه العلاقة. وإذا افترضنا أن الهوامش السردية شكلًا من أشكال الحوارات التي يجريها الرواي مع المتلقي أولًا ومع ذاته ثانيًا؛ سنجد انها عن: العبّور والمخانة في قصة: الليلة عيد، وعن: المطارح والناقصة في قصة: أياد رحيمة، فالهوامش السردية تعتبر طريقة لإشراك الملتقي في بناء المعنى، وغالبًا ما تكون حاملة لمونولوجات داخلية، وتُستخدم للهروب من الخطاب السلطوي المباشر للكاتب، ويمكننا النظر إليها كأداة: لتفكيك مركزية الحكاية. ومحاولة خلق حوار بين زمن الحدث الفعلي وزمن الذاكرة. العنصر الخامس: الحدث الدرامي غاية الدراما هى الحدث(3)، وإذا تحدثنا عن الصفة الزمنية للحدث الدرامي؛ لوجدنا أن الطابع الزمني هو العامل المشترك للتجربة الإنسانية؛ فكل ما نحكيه يحدث في الزمن، ويستغرق زمنًا ويجري زمنيًا، وما يحدث في الزمن يمكن ان يُحكى(4). برع الكاتب في انتخاب حدثًا محددًا في كل قصة من قصص المجموعة، يتطور إلى شىء آخر وأفعال أخرى؛ فالحدث الدرامي هو الحركة الداخلية للأفعال، ثم المحصلة النهائية لهذه الحركة في آخر الحكاية، معنى ذلك أن الحكاية هى الإطار الذي يقدم لنا الكاتب عن طريقه الحدث الدرامي، فإذا نظرنا إلى تطورات الحدث الدرامي، لوجدناها في مفهوم: أرسطو لابد أن تتسم بالحتمية، بمعنى أن خطوات تطوره لا يمكن الرجوع فيها؛ ربما لذلك تعددت أنماط الحدث فهناك: 1_الحدث البسيط الذي يتطور بالاستمرارية دون انقلاب وتعرف، وهو الحدث الذي يعتمد في بنائه على حكاية كما في قصة: تحية، وقصة: التين وعسله، وقصة: الورقة، وقصة: الليلة عيد 2_الحدث المركب الذي يتضمن الانقلاب أو الاكتشاف أو الإثنين معًا، وهو الذي يعتمد في بنائه على حكاية رئيسية تغذيها حكاية فرعية كما في قصة: أمشاط من العظم، وقصة: العزال، وقصة: أعرفها، أو انفعال كامن في قصة: العازف، وقصة: تلك الأيام ، مع ملاحظة أن الانقلاب والاكتشاف هما النتيجة الطبيعية لتطور الشخصية عبر الثقة ثم الخطأ ثم التعرف ثم المعاناة(5). ففي قصة: أعرفها الحدث التلقائي اشتمل على الصُدفة، وفي قصة: الليلة عيد، وقصة: التين وعسله عنصر المفاجأة اتضحت ضرورته في تصعيد الصراع الدرامي بين(النحن) و(الأنا) معنى ذلك أنه بدون الصراع الدرامي لا قيمة للحدث. ولأن الفعل السردي ليس نهاية إلا بمقدار ما يختم مجرى أفعال أو يفك عقدة أو يعوض التحول بالتعرف، جاءت النهاية لتصفية الحسابات في قصة: تحية حيث قتل الآخر، فالخطيئة المسئولة عن معاناة الإنسان وآلامه، ولا يمكن أن يعود السلام النفسي إلا باستئصال العنصر المؤلم وفي قصة: العازف حيث قتل النفس للتخلص من الفوضى الداخلية، وفي قصة: العزال حيث الانتقام من عائلة الزوج باضرام النيران. هذا وقد تعددت أنساق بناء الحدث في قصص المجموعة؛ فإذا كان النسق هو النظام البنائي للأحداث، حيث يتم ترتيبها وفق تتابع زمني سببي(6)؛ فإذا خالف المبنى المتن الأصلي للحكاية مبتعدًا عن التتابع المنطقي كما هو في قصص المجموعة الحالية؛ تظهر الأحداث وفق نسقين التضمين أو التناوب أو كليهما معًا، لنجد أن: نسق التناوب: يتم فيه كسر التتابع المنطقي في بناء الحدث، ونسق التضمين الذي يتلخص في أن يُضمن الكاتب في القصة حكاية أخرى من خارج محيط البناء السردي، لكنها مرتبطة بموضوعه. يضاف إلى ذلك المونتاج الزماني الذي يقوم على تجميع صور مستقلة في صورة مركبة من خلال تثبيت المكان وتحرك الشخصية، مثال لذلك قصة: حورية، وقصة: لفحات أغسطس، وقصة: العازف، وقصة: تلك الأيام، والمونتاج المكاني الذي يقوم على تجميع الصور المستقلة في كل مركب عبر تثبيت عنصر الزمن وتحرك الشخصية وتنقلها مكانيًا، مثال لذلك قصة: العزال، وقصة: الورقة، وقصة: الغرين، وقصة: الليلة عيد وهنا تنشأ المفارقة الدرامية. العنصر السادس: بنية المفارقة المفارقة نوعان: نوع لفظي ونوع يكمن في الحدث ذاته، والمفارقة في صلب الحدث الدرامي تتمثل في لحظة الانقلاب، مثال لذلك في قصة: الطابق الخامس، حيث يقول بطل الحكاية المحامي للسيدة مبتورة القدم: " زادني سؤالها حيرة، كيف أخبرها، انا لا أجرؤ، لكنها أعادت السؤال برجاء لا يخلو من الضجر، فقلت: الخامس! فهزت رأسها باستسلام، وحملت الجذع الثقيل على ساقها الوحيدة متحركة نحو الباب، وقبل أن تختفي رفعت صوتي: الطابق الخامس، البناية المجاورة " والمفارقة اللفظية تبدأ بتلاقي أطراف الصراع وتنتهي بتأكيد انفصالهما؛ معنى ذلك أن الصراع الدرامي لم يحدث نتيجة الصدفة؛ مثال لذلك قصة: الورقة التي بدأ فيها الصراع بين عاطفة وفكرة، كنتيجة حتمية لمعطيات الحكاية.
المحور الثاني: الأسلوب الدرامي وإيقاع الحكاية ******************************* لا شك أن القص الصائب المعبر عن روح المجتمع مهما تغيرت ملامحه الخارجية، يسيطر فيه الإيقاع بمستوياته المتعددة، ولأن إيقاع الحكاية يعني درجة سرعة أحداثها؛ يمكننا من خلال الجدول التالي رصد مستويات الإيقاع في قصص المجموعة القصةالمستوى الإيقاعي العبارة الدالة تحية تسريع السرد" حين رأته آخر مرة منذ أسبوعين " التين وعسله تسريع السرد " لم يدُم الحال طويلًا " أمشاط من العظم التباطوء السردي " نصف ساعة وهو صامت، ينظر لي بعينيه الصغيرتين " لفحات أغسطس الاختصار " انقضت ساعة العصر وهو جالس على طرف السرير بلا حركة " العازف الوقفة السردية " أطفأ الموقد، ثم حمل الفنجان بكل ما تعلمه من حرص على مدى نصف قرن " حورية المشهدية " قال قائل من بين الزحام: ما حد يطلع يا جدعان يشوف في إيه! رد عليه آخر: نطلع ازاى، دا صوت ستات فتدخل ثالث مفتيًا بانه من العقل ان نطلب من الحاجة تحية الطواهية أن تصعد لترى الأمر "
تلك الأيام الحذف " مثلما مضت مضى الشتاء وشتاءات متوالية، انقضت سنوات لم يكف فيها عن التسلل إلى شقتها والوقوف أمام بابها المغلق" مع ملاحظة أن محاولة فهم الإيقاع تتطلب مقارنة زمنين هما: زمن الحكاية كما تجري في الحياة، وزمن قصها الذي يستغرقه النص، مع ضرورة الانتباه إلى مصائر الشخصيات وتحولات الحدث؛ فالحذف في قصة: تلك الأيام يدل على عدم ذكر أحداث يُفترض أنها لابد أن تقع، لكن الراوي لم يشير إليها، والاختصار في قصة: لفحات أغسطس من أجل اختزال أحداث كثيرة في سطور قليلة، والمشهدية في قصة: حورية يتعادل فيها زمن الحكاية وزمن القص، وتتجلى القطع الحوارية، التي لابد أن يتم تناولها باعتبارها نموذجًا لتطابق الزمنين. والتباطوء السردي في قصة: أمشاط من العظم يتمثل في وصف خواطر الشخصيات النفسية ولمحاتها الذهنية ووصف الأماكن أيضًا، والتوقف من خلال الوصف . وتسريع السرد في قصة: تحية وقصة: التين وعسله الذي يعمد الكاتب من خلاله إلى اختزال سلسلة من الأحداث، يُفترض أنها استغرقت سنوات أو أشهر أو ساعات؛ فتتحول نصيًا إلى صفحات أو بعض كلمات(7). وفي سياق تناولنا للأسلوب الدرامي، اعتمد الكاتب أيضًا على أسلوب السرد المباشر القائم على مكون الوصف، وأسلوب تيار الوعى للكشف عن دوافع الشخصيات وانفعالاتها، إضافة إلى تصوير العالم الداخلي لها، وتصويرها من جوانبها المتعددة؛ ولأن الكاتب انتخب عدة محاور فيما يتصل بالشخصيات: أولها: العمر، وثانيها: الجنس، وثالثها: الوظيفة الاجتماعية المخلخلة للمهمشين، جاءت نهاية كل قصة مع اختلاف الدوافع كمحاكاة سردية للخيبات واستسلام الإنسان لقدره(8)، مع ملاحظة أن أهمية الشخصية ترجع إلى دورها في تمثيل الحدث، بل إن الشخصية هى المسئولة عن وقوع الحدث الدرامي بطريقة محددة، تبعًا لخصوصية دوافعها(9)، ومن خلال هذا الأسلوب_ أى تيار الوعي_ تم توظيف الهوامش السردية، وأسلوب الدراما الذهنية حرصًا على التقديم الموضوعي للحياة الذهنية للشخصيات.
خاتمة: ****** _ في مجموعة: لفحات أغسطس القصصية بداية كل قصة بمثابة تمهيد تحفيزي لتهيئة المتلقي نفسيًا، وبدون تمثيل الصراع يُعد الحدث السردي مجرد خبر، إلا أن تكامل الحدث يعتمد على تلاحمه التام مع الشخصيات؛ لأن الشخصية هى العنصر الأول القائم بعبء تمثيل الصراع وانهائه بالطريقة التي ينتخبها الكاتب وفقًا لدوافعها_أى الشخصية_ وواقعها الحياتي. _ ارتكز الكاتب على بنية المفارقة من خلال: أولًا: تقديم موقف غير منطقي في صورة منطقية في قصة: الليلة عيد ثانيًا: القدرة على خلق حالة من التوتر في قصة: التين وعسله، وقصة: لفحات أغسطس، وقصة: العازف ثالثًا: إحياء الماضي من خلال الحوار في قصة: أعرفها، وقصة: أمشاط من العظم _ الهوامش السردية ليست خروجًا عن الحكاية، بل خيوطًا تتفرع منها، كأن النص يحتاج أن يتكلم عن نفسه أو عن ظله أو عن أعماقه — عبر هذه الخيوط. _ المجموعة من المحكيات ذات النزوع إلى الحدث، وتجميع الشخصيات المهمشة المبعثرة، معنى ذلك أن الحدث في القصص مكون سردي درامي يسهم في تطور الحكاية؛ وحبكات المصير هى الوسيط بين الحدث والحكاية، من خلال تشخيص التجارب الزمنية المضطربة أولًا، وإعادة الوصف الاستعاري للواقع من زاوية رؤية الشخصيات المحورية. مع ملاحظة أن الكاتب عندما يوازي بين دور الراوي العليم في معظم القصص، ويرصد وجهات نظر الشخصيات؛ فإنه يصبح أكثر حداثة. _ الشخصيات المتغيرة ذات الدوافع التصاعدية، مثلت الصراع ومنحته صفة الدرامية تارة والإيحاء والتأثير من خلال الديالوجات مع الآخر، وجذب انتباه المتلقي للمونولوج الدرامي تارة أخرى. _ لأن العبارات التي لا تُضيف شيئًا سوى إظهار أبعاد الشخصية أو تطور الحدث تعتبر عبارات ميتة، ارتكز الكاتب على العواطف المضللة(الأقنعة الاجتماعية) من خلال: ردود الأفعال الجسدية في قصة: التين وعسله، والأفكار في قصة: العازف، وقصة: أمشاط من العظم، وتبدل المشاهد مع تبدل العواطف في قصة: أعرفها، وتصوير الارتباك العاطفي في قصة: تلك الأيام، والشخصية المتغيرة مع دافع واحد نتيجة الحدث الذي يؤدي منطقيًا إلى تغير رد فعل الشخصية في قصة: لفحات أغسطس، والعرض التفسيري للشخصيات المركبة في قصة: تحية، وإبراز الرغبات المتضاربة والميول المشوشة في قصة: حورية، وإبراز المشهد الواحد بعواطف مختلطة في قصة: أياد رحيمة، والتوازيات الدرامية في قصة: الغرين، والمقاطع التفسيرية من خلال القصة الخلفية مباشرة في قصة: قميص أصفر شفاف، وتصوير الانفعال المباشر في قصة: الطابق الخامس. _ واجهتنا دلالة التحولات المجتمعية من خلال أدوات الكاتب الفنية: تقديم أحداث متعددة المستويات أولًا، والتفاصيل الموجزة التي تُلمح إلى الماضي ثانيًا، والفلاش باك الذي ساهم في تصوير دوافع الشخصيات من خلال: تفكير الشخصية المحورية في هدفها، والتلاعب بالدافع وتغيير الشخصية، وحديث الشخصية عن هدفها مع الآخرين. _ استخدم الكاتب تقنيات معالجة الحدث الدرامي من خلال: 1_ تحويل المواقف المعتادة البسيطة إلى أحداث مؤثرة من خلال الدراما الذهنية، وتوظيف زاوية رؤية الشخصية المحورية 2_الاعتماد على الإيقاع السردي بتعدد مستوياته 3_استخدام تقنية الدعم الدرامي للحدث كتقنية مساعدة لدعم أسلوب تيار الوعي، ومن أشكالها المونولوج، التحليل الداخلي، المناجاة. 4_تغذية المواقف اليومية البسيطة بعدد كبير من الأفكار الدرامية التي تعبر عن تأزم العوالم الداخلية للشخصيات.
الهوامش والمراجع: *************** 1_ إبراهيم حمادة، معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، مادة(دراما)، دار المعارف، القاهرة، 1985م، صــ113 2_ نبيل راغب، فنون الأدب العالمي،الشركة المصرية العالمية للنشر(لونجمان)، القاهرة، 1996م، صــ89 3_ أرسطو، كتاب الشعر، ترجمة: جون وارنجتون، مكتبة أفري، نيويورك، 1969م، ص 13 4_ بول ريكور، من النص إلى الفعل(أبحاث التأويل)، ترجمة: محمد برادة، وحسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة، ط1، 2001م، ص 8 5_ William K. Wimsatt& Cleanth Brooks, Classical Criticism A short History, P. 45 6_ أ.م. فوستر، أركان القصة، ترجمة: كمال عياد، مراجعة: حسن محمود، تقديم: ماهر فريد، تحرير: محمد عناني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 2001م، ص 50 7_ جيرار جينيت، خطاب الحكاية(بحث في المنهج)، ترجمة: محمد معتصم وآخرون، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997م، ص 107 8_ صلاح فضل، أساليب السرد في الرواية العربية، دار سعاد الصباح، الكويت، 1992م، ص 11 9_ رشاد رشدي، فن القصة القصيرة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط2، 1964م، ص 29
#رشا_الفوال (هاشتاغ)
Rasha_El_Fawal#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القضايا المجتمعية وأشكال الحدث في مجموعة: مقتل بخيتة القصاصة
-
التنوير المؤصّل وفلسفة الأنسنة قراءة في الخطاب الفكري للشيخ:
...
-
الخريطة الإدراكية للإسلاموفوبيا وسُبل المجابهة قراءة في رسال
...
-
انكسار المعنى ولا يقينية العالم في : حكايات على سبيل الثرثرة
-
التسول وإعادة انتاج ثقافة الفقر قراءة سيكوسوسيولوجية
-
النرجسية الجنسية ووهم الفردانية في رواية: برسكال للكاتب أحمد
...
-
الوعى بالزمن بين هاجس الموت وهذيان الواقع في ديوان الترابيون
...
-
الوعى بالزمن بين هاجس الموت وهذيان الواقع في ديوان/ الترابيو
...
-
سيرة القلق وسؤال الحرية في ديوان/ على استحياء: الكود الرابع
...
-
دلالات الخوف ومفردات الشك في ديوان-لابس مزيكا- للشاعر/ جمال
...
-
فُصام النَص وعلاقته بالذاكرة العاملة في مجموعة الرابع عشر من
...
-
تأويل الحُلم عبر الذاكرة في رواية كيميا
المزيد.....
-
فيديو.. 24 دقيقة تصفيق لفيلم -صوت هند رجب- في مهرجان فينيسيا
...
-
فيلم -صوت هند رجب- يهز مهرجان فينيسيا
-
بطل فيلم -صوت هند رجب- يحكي ردود الفعل الغربية
-
وزير الثقافة الفلسطيني السابق أنور أبو عيشة: لا حل غير الاعت
...
-
خدعوك فقالوا: الهوس بالعمل طريقك الوحيد للنجاح
-
بـ24 دقيقة من التصفيق الحار.. -صوت هند رجب- لمخرجة تونسية يه
...
-
تصفيق حار استمر لـ 14 دقيقة بعد انتهاء عرض فيلم -صوت هند رجب
...
-
-ينعاد عليكم- فيلم عن الكذب في مجتمع تبدو فيه الحقيقة وجهة ن
...
-
رشحته تونس للأوسكار.. فيلم -صوت هند رجب- يخطف القلوب في مهرج
...
-
تصفيق 22 دقيقة لفيلم يجسد مأساة غزة.. -صوت هند رجب- يهزّ فين
...
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|