|
فن المسرح والسياق الاجتماعي
محمد كريم الساعدي
الحوار المتمدن-العدد: 8455 - 2025 / 9 / 4 - 23:38
المحور:
الادب والفن
تعد الواقعية في المسرح من الأساليب المسرحية عالمياً التي لها تأثير مباشر في الحركة الفنية عامة والمسرحية خاصة على نطاق واسع ، وإنّها تعد من أهم الأساليب المسرحيّة التي كان لها دور مهم في الفن المسرحي ، وجاءت هذه المدرسة المسرحية من أجل إرجاع السمات الاجتماعيّة إلى طبيعتها في المسرح بعد أن أصبح المسرح مقتصراً على الجوانب المادّية والربح التجاري الذي كان السمة البارزة للمسرح قبل الواقعيّة، لذا فإنّ الواقعيّة قد أتت بثورة في الفنّ المسرحيّ قرّبته من المجتمع أكثر من غيرها من الأعمال الفنّية المسرحيّة التي سبقتها، لذا "استحدثت هذه الحقبة في تاريخ المسرح تقسيماً جديداً لصانعي المسرح، فبينما ولد المسرح في شكل وحدة فنّية تجمع بين النصّ والعرض ...أصبح التمييز واضحاً بين رجل الأدب، ورجل المسرح، والفنّان المحترف. ولقد غرق كلّ هؤلاء في موجات النصر والثورة، ولكنّ هوة عميقة قد فصلت بين المسرح والحقيقة الاجتماعيّة، وكان من أهمّ النتائج التي أحدثتها هذه الهوّة أنّ تناقضاً واضحاً أصبح يميّز بين الإبداع المسرحيّ من ناحية، وسقوط المسرح في حمأة التجارة من ناحية أخرى، وكان طبيعيّاً أن يتحوّل هذا التناقض أصلاً: بين الرجعية والتطور أو بمعنى آخر بين التخلّف والتقدم، وكان لابدّ لذلك من ثورة في الفنّ"(1) ، حتّى تردم الهوّة التي حصلت بين المسرح والحقيقة الاجتماعيّة التي تشكّل طبيعة البناء الدرامي وهو في الحقيقة يعود إلى الناحية الاجتماعيّة الذي يسمهم في الكثير من القواعد المسرحيّة سواء أكانت في النصّ المسرحيّ أو العرض المسرحيّ، وأنّ المدرسة الواقعيّة قامت على المدرسة الطبيعيّة التي ابتدأت بها مرحلة التغيير والعودة إلى الإنسان، لكنّ المدرسة الطبيعيّة عملت على النظريّة البيئيّة التي تهتمّ بطبيعة البيئة بعيداً عن عواطف الإنسان وجوانبه الاجتماعيّة، إي إنّ "المدرسة الطبيعيّة تقوم بشكل كامل على نظريّة البيئة، ومن المسلّم به أنّ الكوائن الإنسانيّة لا يمكن أن تتجرّد من الوسيط الذي ولدت فيه، والذي تمّت تربيتها فيه، والذي يقرّر في الواقع طرائق إحساسهم، وتفكيرهم، وسلوكهم، ومعنى هذا أنّه ما من حدث دراميّ يولد من صراع بين العواطف الإنسانيّة، يمكن أن يعزل البيئة الاجتماعيّة التي ولد وتطوّر فيها، واتّجه نحو نهايته. فالمدرسة الطبيعيّة إذن لا تعطي قيمة للعاطفة الإنسانيّة في ذاتها، ولكنّها تنظر إليها في أحوالها المختلفة"(2) . إنَّ الواقعيّة عملت على خصائص أخرى تختلف عمّا ذهبت إليه الطبيعيّة في نظريّة البيئة التي تبتعد عن الإنسان بوصفه قيمة كليّة داخل المجتمع، فهي تهتمّ بالإنسان بوصفه يمثّل الجماعة وليس فرداً بعينه؛ لذلك فإنّ المشتغلين في المسرح الواقعيّ يعملون على تصوير المجتمع من غير أن يجعلوه مثاليّاً، وهنا يعرضون كلّ ما هو موضوعي على حقيقته، على الرغم من قساوة ما يقدّم، وتقديم الحياة بشكل محايد إزاء الأحداث والشخصيّات والأفعال في الدراما، لذا فإنّ الواقعيّة تقدّم التمثيل الصادق للحياة الاجتماعيّة في إطار موضوعيّ بعيد عن الفرديّة أو الإغراق في الذاتيّة، وهي بذلك ترتكز على تقديم المجتمع وقضاياه، وكلّ ما يدور في هذه القضايا بشكل جماعي حتّى تكون الواقعيّة قد خالفت ما قبلها من المدارس المسرحيّة مثل الرومانسيّة والطبيعيّة، بقربها من الجانب الاجتماعيّ بإطاره الكلّي في هذا المجال(3) . أمّا في ما يخصّ العرض المسرحيّ الواقعيّ فقد قدّم (ستانسلافسكي) رؤياه الفنّية في تقديم المسرح الواقعي اعتماداً على الفهم والصورة الواقعيّتين في مجال العرض المسرحيّ من خلال (مسرح الفنّ)، لذلك فإنّ "ما أفضت إليه جهود المسرح الفنّي من نتائج تؤكّد ذلك الخروج على الطبيعة (...)، فلم يكن من مهمّات هذا المسرح أن ينقل الحياة نقلاً تكراريّاً يوحي بالبلادة الفوتوغرافيّة – بل ينبغي أن يكون نقلاً يعتمد المعالجة الفنّية التي تعتمد التنظيم والمراقبة والتي جعلت من هذا المسرح يعبّر عن نفسه بصفته (فنّي) ولمّا كان الأمر كذلك فإنّ توزيع الممثّلين على خشبة المسرح وتبسيط الحركات، وأنسنة الأبطال، والدقّة الوظيفيّة في عناصر المشهد والديكورات، كان ذلك يسهم في إنشاء تعريف للإنسان في المكان في منهج يعتمد على عناصر الصراع الاجتماعيّ"(4). هذا الصراع الذي جعل المخرج الواقعي يقترب أكثر من توظيف السمات الاجتماعيّة في العرض المسرحيّ من خلال عناصره المختلفة وأهمها (الممثّل الذي عمل عليه المخرج (ستانسلافسكي) في دعم تقنيّته الداخليّة مع نفسه والخارجيّة على جسده، وكذلك على الدور، ومن أهمّ الميزات التي عمل عليها في إنتاج ممثّل واعٍ في البناء الاجتماعيّ ما يخصّ المعايشة مع الدور من خلال تبنّي العودة إلى الحياة الاجتماعيّة من أجل تقمّص الشخصيّة التي يقدّمها استناداً إلى مرجعيّاتها داخل المجتمع نفسه؛ لأنّ الممثّل في المسرح الواقعي هو "مدرك لمهامّه الإبداعيّة (الفكريّة – الاجتماعيّة)، يسعى دائماً لتقويم تلك الظواهر الحياتيّة التي يعرضها على خشبته، ويصدر عليها حكمه الاجتماعيّ، الأخلاقيّ والسياسيّ. إنّ ممثّلي مثل هذا المسرح لابدّ لهم من ألّا يفكّروا بأفكار الشخصيّة والشعور بمشاعرها فحسب، بل لابدّ لهم من أن يفكّروا ويشعروا حيال أفكار ومشاعر الشخصيّة، أن يفكّروا حول الشخصيّة، أنّهم لا يرون مغزى فنّهم في أن يعيشوا مشاعر دورهم أمام أعين المتفرّجين، ولكنّ هذا المغزى قبل كلّ شيء في خلق الشخصيّة الفنّية التي تحمل فكرة محدّدة قادرة على كشف حقيقة موضوعيّة تهمّ الناس"(5) ، هذه الحقيقة الموضوعيّة من المجتمع الذي ينتمي إليه الممثّل والشخصيّة في بناء شكل درامي قادر على حمل المشاعر الإنسانيّة التي توظّف ما يتمّ تقديمه إلى الجمهور في إطاره الواقعيّ المأخوذ من البيئة الاجتماعيّة نفسها؛ لذا فقد عمل المخرج الواقعي على إبداع في عمل الممثّل في العرض المسرحيّ الواقعيّ كون المسرح يقدّم حقيقة موضوعيّة تهمّ الناس كجمهور مسرحيّ يطّلع عمّا يدور في حياتهم الاجتماعيّة من خلال العرض المسرحيّ، والذي عمل المخرج المسرحيّ الواقعيّ إلى إرجاع العرض المسرحيّ إلى الصيغ الاجتماعيّة، ومن بين هؤلاء المخرجين الواقعيين ستانسلافسكي الذي ردّ " المسرح إلى أصوله الإنسانيّة، وأكّد ربطه بالحياة الحقيقيّة للمجتمع الإنساني، متجاوزاً الحدود النقليّة الخارجيّة للطبيعيّة عند (أندريه أنطوان)، ولم يكن (ستان) مجرّد مخرج يريد أن يقدّم للجماهير عروضاً مسرحيّة مُرضية، بل كان أستاذاً يصوغ علم المسرح من جديد"(6) . إنّ المجتمع الذي يُعَدّ الركيزة الأساسيّة التي استهدفتها الواقعيّة في عروضها المسرحيّة من خلال تقديم أعمال لكتّابها الواقعيّين من أمثال (أنطوان تشيخوف) في (بستان الكرز) و(الشقيقات الثلاث) و(الخال فانيا)، فقد حاول المخرج الواقعيّ أن يقترب أكثر من دمج الاجتماعيّ بالمسرح حتّى يصبح المسرح الاجتماعيّ خيرَ ممثّل للواقعيّة الفنّية في نتاجاتها الدراميّة، لذلك فإنّ ما قام به ستانسلافسكي هو النزوع " إلى الواقعيّة Realism في محاولة لتصوير الحياة الاجتماعيّة من خلال منهجه المعروف بالنظام The System، فإنّه كان يؤوّلها ويفسّرها على أنّها ممثّلة للفرديّة الإنسانيّة على المستوى العالمي، أي إنّه في مقدورها دمج مداولات، وإشارات دالّة على طبقة الفرد وعلى وضعه الاجتماعيّ والتاريخي" (7) ، وهذا التطبيق هو ما يجعل السمات الاجتماعيّة في الشخصيّة الدراميّة الواقعيّة وعناصر العرض الأخرى تشتغل وفق المفهوم الاجتماعيّ في المادّة الدراميّة في العرض المسرحيّ. ومن المدارس المسرحيّة الأخرى التي كان لها اهتمام بالسمات الاجتماعيّة في العرض المسرحيّ، (الملحمية)؛ هذه المدرسة التي اهتمّت بالبعد الاجتماعيّ في كلّ من بناء العرض المسرحيّ والجمهور المتلقّي من خلال جعل المجال الاجتماعيّ فاعلاً في كسر الإيهام لدى المتلقّي في العرض المسرحيّ، لذلك فإنّ هذا المسرح قد عمل القائمون عليه على توظيف المنحى الدرامي من أجل التغيير الاجتماعيّ والوصول إلى مديات أعمق في داخل المجتمع من أجل تحفيزه وتغيير كلّ ما هو غير ملائم، إذ يرى (بريخت) في هذا المجال: "ومع ذلك فمن الضروري القول: إنّ تغلغل المسرح في الحياة الاجتماعيّة لم يكن عميقاً بالدرجة الكافية. إنّه كان، كما لاحظ النقد ذلك، بهذا القدر أو ذاك (سبتوماتولوجيا، علم الأعراض المرضيّة) معالجة سطحيّة للظواهر الاجتماعيّة، إنّه لم يتمّ الكشف عن القوانين الاجتماعيّة الحقيقيّة، بالإضافة إلى ذلك فإنّ التجارب التي أجريت في ميدان فنّ الدراما أدّت في النهاية إلى تهديم كامل تقريباً لموضوع وشخصيّة الإنسان. لقد فقد المسرح العديد من وسائل تأثيره الفنّية"(8) ، فالتأثير في إيجاد سبل حقيقيّة في التغيير الاجتماعيّ، بدلاً من سلب الجمهور وعيه في مشاهدات اندماجيّة لا تدلّل على حقيقة البحث في الجانب الاجتماعيّ، وأهمّ المشكلات التي من الممكن أن يقدّمها المسرح لحلّ هذه القضايا والمشكلات، بدلاً من تغييب تفكير المتلقّي في جوانب أخرى بعيدة عن حياته اليوميّة، لذا فقد عملت الملحميّة على التوغّل في وعي المتلقّي ومحاولة كسر إيهامه واندماجه في بعض الجوانب السلبيّة التي تبعده عن واقعه الحقيقي، إنّ الملحمية لم تأتِ باهتمامها بالجانب الاجتماعيّ بصورة مفاجئة، بل هي امتداد لما قبلها من المسارح التي تبنّت وجهة النظر هذه، ومن أبرزها المسرح السياسي (لأرفين بسكاتور) الذي عمل على تحويل "قاعة العرض إلى قاعة اجتماعات، كان المسرح بالنسبة لـ(بسكاتور) برلماناً والجمهور بمثابة هيئة تشريعيّة، لقد طرحت أمام البرلمان المشكلات الاجتماعيّة الكبرى بكلّ جلاء، هذه المشكلات التي تنتظر الحلول بإلحاح، وبدلاً من خطبة النائب حول هذه المجموعة من الظروف الاجتماعيّة الصعبة أو تلك، تطرح هنا النسخة الفنّية لهذه الظروف "(9). هذه النسخة الفنّية التي عمل عليها بسكاتور في استخلاص أهمّ المشكلات التي يجب أن تحلّ في مجال التغيير الاجتماعيّ بطريقة فنّية بديلة عن الرقابة السياسيّة في طرح الموضوعات الاجتماعيّة المختلفة التي قد لا تصل إلى أذهان المشتغلين بالحقل السياسي والاجتماعيّ معاً، فقد عمل بسكاتور على توظيف المسرح بأساليبه وتقنيّاته وعناصره من خلال العرض المسرحيّ ذي البعد السياسي والطبيعة الاجتماعيّة لإيجاد فضاء فنّي قادر على حمل الهموم الاجتماعيّة للمجتمع وأفراده الذين لم يصل صوتهم إلى الفضاء السياسيّ، وكذلك تقديم وسيلة نافعة في صدم وتحريض العاملين في هذا المجال وتفاعلهم مع القضايا الاجتماعيّة؛ لذلك قدّم المسرح السياسي هذه القضايا على "مستوى مضمون العرض المسرحيّ، فإنّ بسكاتور يعتقد أنّ المسرح السياسي يجب ألّا يكتفي بعرض الأحداث الفرديّة، بل يتخطّى ذلك إلى تحليل انعكاساته الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وإلى تقرير الوقائع التاريخيّة المتّصلة بها كافّة، بشكل ينقل الصورة الدراميّة، إلى الحدود والآفاق الملحميّة، وذلك من خلال إكساب العرض المسرحيّ الطابع القصصي الوصفيّ مع اللجوء إلى الوسائل التوضيحيّة كافّةً، (كالمعلّقات، واليفط، والبيانات، والشرائح الزجاجيّة، والأفلام التسجيليّة)"(10)، وهذه الأدوات التي يستخدمها بسكاتور في إنتاج العرض المسرحيّ يحاول فيها توظيف المجال والفضاء الدرامي في اشتباك حقيقيّ مع الظرفي السياسي والاجتماعيّ من أجل نقلها إلى ذهنيّة المتلقّي واطّلاعه بحقيقة ما يدور حوله من مشاكلات كبرى في هذه المجالات ومن أبرزها المجال الاجتماعيّ. إنّ المسرح السياسي يعمد إلى بناء مفرداته المسرحيّة بالاستناد إلى السمات الاجتماعيّة وما تقدّمه للمسرح من فهم ونتاج كاملين للمخرج والعاملين في هذا المجال؛ من تقديم ما يتوافر لهذه العروض من إمكانيّة تواصل ثقافيّة مع الجمهور المسرحيّ الناقل والحامل للسمات الاجتماعيّة المشتركة نفسها مع العرض المسرحيّ السياسي عند بسكاتور؛ لذلك فقد عارض المسارح التي لا تهتمّ بالشأن الاجتماعيّ، وتركّز على جوانب بعيدة عن الهمّ الاجتماعيّ وموضوعاته الكبيرة التي تؤثّر في حياة المجتمع، "وتعود أسباب تغليب المضامين السياسيّة في الخطاب المسرحيّ لدى (أرفين بسكاتور)، إلى معارضته القويّة للمسرح التعبيري الذي اتّجه إلى أساليب عاطفيّة تترجم أفكار الشخصيّات وخيالاتها وأحلامها ووقع العالم الخارجيّ على ذواتها، وتنحو منحى تجريديّاً وجماليّاً في استخدام الديكور والإضاءة الملوّنة والأداء التمثيلي، وهذا ما يفسّر كون الشخصيّة المسرحيّة في مسرح بسكاتور تراجعت بالحدث إلى المكانة الثانية لفائدة المضمون السياسي الذي احتلّ المركز الأوّل بهدف تعرية الواقع وتناقضاته الاجتماعيّة والثورة عليه"(11)، وهذا التراجع في المجال الدرامي على مستوى التقديم للشخصيّة الدراميّة في جوانبها الإبداعيّة راجع لكون بسكاتور قد ركّز على آليّات النقد السياسي والاجتماعيّ، أي تقديم عرض مسرحيّ يحتوي على نقل المشكلات الاجتماعيّة والسياسيّة الكبرى من خلال العرض المسرحيّ، دون أن يركّز أوّلاً على الجانب الدرامي والفنّي وإبعاد الجانب الاجتماعيّ والسياسي، بل عمل العكس في مسرحه السياسيّ، وهذا ما دعا (بريخت) الذي تأثّر بالمسرح السياسي على مستوى التبنّي الاجتماعيّ للموضوعات لأن يولي أهميّة للمجال الفنّي بتقنيّات جديدة أكثر فاعليّة فنّية ودراميّة من المسرح السياسي، لقد "مهّد بسكاتور لتجربة برتولد بريخت الغنيّة بمراحلها الثلاث: مرحلة الشباب، مرحلة المسرح التعليمي، ومرحلة المسرح الملحميّ. تتميّز اقتراحات بريخت - ولاسيّما في صيغها الملحميّة، بإعطاء الأهميّة الشديدة لفضاء الفرجة المسرحيّة بمكوّنيه السينوغرافي واللعبي (...) فالمستهدف الحقيقيّ في المسرح الملحميّ هو الجمهور الذي يجب تحريره من سلبيّته كي يستطيع امتلاك الجرأة على المناقشة والتفكير وتحصيل المعرفة"(12) ، التي كانت غائبة في المجال الاجتماعيّ لدى الجمهور المسرحيّ، إي إنّ مسارح مثل الواقعيّة والتعبيريّة وغيرها حاول بريخت أن يقدّم بديلاً عنها، وخصوصاً في المجال الخاصّ بالفضاء المسرحيّ الموجّه للجمهور، أي مجال فضاء التلقّي الذي أصبح فيه الجمهور مغيّباً عن قضاياه كافّة عندما يأتي إلى العرض المسرحيّ في ما سبق الملحميّة، ومنها القضايا الاجتماعيّة كمواضع لابدّ أن توظّف في العرض المسرحيّ؛ لذا عمل على التوغّل في الفكر الخاصّ بالتلقّي وجعله فاعلاً متحفّزاً بدلاً من الاندماج والإيهام بالعرض المسرحيّ؛ لذا فإنّ "بريخت كان أبرز المعارضين لواقعيّة (ستانسلافسكي) وايهاميته بوصفها خداعاً للمتفرّج، وعلى اعتبار أنّ الإيهام الكامل بالواقع مستحيل إذ إنّ المتفرّج لا يمكن أن ينسى أنّه في مسرح ويشاهد عرضاً مسرحيّاً، وليس شريحة من الحياة، وإذ يندمج للحظات مع الأحداث أو يتعاطف مع البطل في موقف ما فإنّ الاندماج والتعاطف لا يستمرّان طويلاً، كان بريخت يريد فصل المتفرّج عن الأحداث التي تقع على الخشبة لكي ينظر إليها نظرة مراقب وناقد ويحكم على ما فيها من تناقضات، مع ذلك فهو يلغي الجدار الرابع ويفتح فضاء المسرح على فضاء الصالة"(13)، الخاصّة بالجمهور وهنا يأتي بريخت بفلسفة الانفتاح بين العرض المسرحيّ والجانب الاجتماعيّ، أي بين خطاب العرض المسرحيّ وفضاء التلقّي الذي من الممكن أن يكون مفكّراً وناقداً، وبالتالي مشاركاً واعياً في تشكيل صورة العرض المسرحيّ، ويُعَد المتلقّي هو مَن يحقق معنى العرض المسرحيّ فإن كان دوره سلبيّاً سيكون المعنى المتحقَّق سلبيّاً دون أيّة إضافات معرفيّة واعية من المتلقّي، وإن كان المتلقّي واعياً لما يقدَّم سيكون مشاركاً فاعلاً في تشكيل المعنى لهذا العرض المسرحيّ. عمل بريخت على توظيف عدّة تقنيّات في الوصول إلى المبتغى الاجتماعيّ العميق الذي حاول أن يصل إليه ومن هذه التقنيّات قضيّة الشخصيّات التي ينبغي أن تكون في إطار هذا العمق الاجتماعيّ وفي كسر الإيهام، أي إنّ بريخت عمل على إيجاد شخصيّات مختلفة عن الشخصيّة التقليديّة في العرض المسرحيّ كما في الواقعيّة أو التعبيريّة أو غيرها من المدارس المسرحيّة الأخرى فهو يرى أنّ "الشخصيّات لا ينبغي لها أن تكون منهكة في الحدث، إذ إنّه يلجأ إلى التعريف بالشخصيّات وعلاقاتها ببعضها وبالأحداث تعريفاً مباشراً، ولا يتستّر في الحوار والوقائع، فالشخصيّة يمكن أن تقدّم نفسها إلى الجمهور. وغالباً ما يتنبّأ (الكورس) بالأحداث، أو ربّما يحكم عليها أو يزوّد المتفرج بحقائق غير معروفة لديه، كما أنّ الموسيقى والأغاني عناصر تستقلّ بذاتها، فهي لا تتحرّك باتّجاه الكلمات، إنّما بالاتّجاه المناقض تماماً لتخلق بذلك علاقة جدليّة معها، لافتة انتباه المتفرّج إلى الاحتمالات المختلفة التي يجب أن يفكّر فيها" (14) ، من أجل الوصول إلى العمق الاجتماعيّ الذي دعا إليه بريخت في قضيّة الهدف من المسرح، ولاسيّما في بعده الاجتماعيّ والفكري الذي وجد من أجله. وعمل بريخت على توظيف تقنيّة جديدة تسهم في كسر الإيهام الذي أصبح السمة البارزة في الأساليب المسرحيّة السابقة التي أبعدت المتفرّج عن طبيعته التي أوجدها المسرح الإغريقي من قبل، وهي المشاركة الفاعلة في الطقوس الدينيّة والاجتماعيّة أثناء العرض المسرحيّ الذي نشأ من رحم هذه الطقوس، لذا فقد عمل بريخت على إيجاد تقنيّة كسر الإيهام من خلال التغريب الذي يحمل في داخله سمة اجتماعيّة تسهم في رفد العرض المسرحيّ بذلك، وجعل هذه التقنيّة تجعل المتلقّي متسائلاً ومتنكّراً في رفض بعض الأمور الاجتماعيّة التي جعلته إنساناً غير ذي معنى بإنسانيّته؛ لذلك فإنّ التغريب هو من يؤكّد على كسر الإيهام في جانبيه الاجتماعيّ من جهة والدرامي من جهة أخرى المتمثّل بالإيهام والاندماج في العرض المسرحيّ، لذا فإنّ التغريب "هو وسيلة لتحرير الجمهور من الرواسب الاجتماعيّة، والحدّ من تأثيرها عليه لحظة مشاهدة العرض لينشغل بالتساؤلات المثيرة للنظر والتشكيك في كلّ ما يحيط به، نظرة متشكّكة ونقديّة؛ لذلك حرص بريخت على إبقاء مسافة بين الممثّل والجمهور تفادياً لاندماج هذا الأخير في الأولى، وإبقاء مسافة بين الممثّل والشخصيّة التي يمثلها حتّى لا يقع توحّد بينهما، لأنّ المسرح مسرح وليس الحياة ذاتها، ممّا يعني أنّ وظيفة العرض الملحمي لا تنتهي عند حدود ونهاية العرض"(15). ومن التقنيّات الأخرى التي عمل بريخت على توظيفها في العرض المسرحيّ الملحميّ من أجل الوصول إلى سمات اجتماعيّة ذات بعد وعمق فكريّ يسهم في إرجاع الجانب الاجتماعيّ إلى المسرح والعرض المسرحيّ بطريقة تختلف عن المسارح الأخرى، عمل بريخت على توظيف (الجست) ووضع جسد الممثّل في مجال الحركة والإيماءة على المسرح، "إنّ مجال الأوضاع التي تتّخذها الشخصيّات مع بعضها البعض يسمّى (المجال الإيمائي)، حيث أنّ وضع جسم الممثّل، وطريقة النطق وتعبيرات الوجه، كلّها تتحدّد من خلال موقف الشخصيّات بعضها مع بعض (...)، فالمسرح الملحميّ قام بدور كبير تجاه أداء الممثّل كونه حاملَ علاقة مسرحيّة، تحدّه من ناحية علاقة رمزيّة تجعله شفّافاً، وتؤكّد من ناحية ثانية أهميّة حضوره المادّي والاجتماعيّ، فهناك عنصران يتنافسان داخل حركة المتفرّج الفاعلة، هما التفكير من جهة ومن جهة ثانية كلّ ما ينتج عن جسد الممثّل ليبثّ الإحساس عند المتفرّج"(16)، وهو هنا يتقاسم وفق هذه التقنيّة الرؤية الاجتماعيّة الخاصّة بالممثّل وجسده من جهة والمتفرّج المتلقّي المتفاعل والحسّاس بهذه التقنيّة الموظَّفة في العرض المسرحيّ من جهة أخرى، لذا فإنّ بريخت أراد من هذه التقنيّات المختلفة (البعد الثالث للشخصيّة، والتغريب، والجست) خلق مسرح ملحميّ مغاير لما سبقه، ومن هذه التقنيّات الأخرى التي حاول بريخت أن يوظّفها في عمليّة بناء النصّ والعرض المسرحيّين من مشاهد منفصلة وليست متّصلة، أي إنّه استخدم "تقنيّة البناء الملحمي من مشاهد منفصلة، وأغانٍ، قطع الحدث، والتركيز على الأرضيّة الاجتماعيّة التي يتحرّك فيها الحدث وخلافه، وفي الوقت نفسه حاول التركيز على ملامح الشخصيّة التي يعرضها على خشبة المسرح"(17)، حتّى يصل بها إلى السمة الاجتماعيّة التي يوظّفها المسرح الملحميّ في العرض المسرحيّ الذي دعا إليه بريخت من أجل تحقيق الحدود الاجتماعيّة والفكريّة للمسرح ومناقشته لقضايا الإنسان دون إغراقه في المحاكاة والاندماج والإيهام التي تذهب بإمكانيّة المتفرج الفكريّة والعقليّة لطرح التساؤلات ومناقشة القضايا وأهمّها الاجتماعيّة، كون الإنسان كائناً اجتماعيّاً والمسرح لا ينفصل عن هذه السمة للعرض المسرحيّ. الهوامش 1. سعد أردش، المخرج في المسرح المعاصر، (الكويت: عالم المعرفة، 1979) ص38. 2. المصدر نفسه : ص39، ص40. 3. جبار عودة العبيدي: د. صلاح مهدي القصب، مدخل في الدراما وتدرجها التاريخي، (صنعاء، دار الفتح للنشر والتوزيع، 1992) ، ص83، ص85. 4. أ. د يوسف رشيد، الإنشاء المسرحيّ وعناصره (بغداد: من إصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربيّة، 2012) ص31. 5. بوريس زاخافا، إعداد الممثّل، ترجمة: توفيق المؤمن (القاهرة: مكتبة مدبولي، 1998) ص40. 6. سعد أردش. المصدر نفسه، ص56. 7. دكتور مدحت الكاشف: المسرح والإنسان، (القاهرة، الهيئة العربيّة العامة للكتاب، 2008) ،ص22. 8. برتولد بريخت، نظريّة المسرح الملحمي، ترجمة: د. جميل نصيف (بيروت: عالم المعرفة، ب، ت) ص11، ص112. 9. برتولد بريخت، المصدر السابق، ص113، ص114. 10. سعد أردش، المصدر نفسه، ص140، ص141. 11. د. عبد الرحمن بن إبراهيم، الحداثة والتجريب في المسرح (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2014) ص149. 12. سعيد الناجي، التجريب في المسرح (الشارقة: دائرة الثقافة والإعلام، 2009) ص37. 13. سامي عبد الحميد، نحو مسرح حي (بغداد: دار الشؤون الثقافيّة العامة، 2006) ص41. 14. رياض موسى سكران، مسرحه المسرح (غداد: دار الشؤون الثقافيّة العامة، 2001) ص49. 15. د. عبد الرحمن بن إبراهيم، المصدر نفسه: ص151. 16. رياض موسى سكران، المصدر نفسه، ص50، ص51. 17. الدكتور أحمد سخسوخ، اتجاهات في المسرح الأوربي المعاصر (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007) ص109.
#محمد_كريم_الساعدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاتفاق والاختلاف بين مسرح الشارع وعروض المسرح التقليدي المق
...
-
فلسطين والمسرح رؤية في خطابات ما بعد الاستعمار
-
آراء غربية في التفوق الحضاري على الآخر
-
أصدار جديد كتاب (الهوامش في لعبة ما بعد الحداثة) للأستاذ الد
...
-
نص مسرحية (صانع الأشياء الأصم) الوهم في صناعة عالم جديد نص م
...
-
الاحتفالات الكولونيالية وتأثير عروض الشارع في المخرجين الغرب
...
-
الاستشراق والمعرفة وتشويه الآخر / نقد ما بعد كولونيالي
-
العرب ومسرح الشارع/ رؤية نقدية في مسرح الشارع / الجزء الرابع
-
جماليات البناء الأنطولوجي للشكل الفني
-
اليونان والرومان والحقبة المسيحية ومسرح الشارع رؤية نقدية في
...
-
مسرح الشارع وتحديد المسار الاصطلاحي ... رؤية نقدية في مسرح ا
...
-
رؤية نقدية في مسرح الشارع الجزء الأول : تساؤلات في أصل فكرة
...
-
إشكالية الأفق الثقافي العراقي
-
مسارات في الأنطولوجيا ومتغيراتها التصورية
-
القصديتان (الدينية والفلسفية) وثنائيات المنظومة الغربية
-
جريمة حرق القرآن الكريم وتشويه صورة الآخر المسلم هي من مرتكز
...
-
أرسطو وعالم الأشياء الواقعية
-
الواقعية التعبيرية في المعرض السنوي لفنانين ميسان
-
تصورات الوجود في الفلسفة ما قبل السقراطية
-
الغائية التاريخية للهوية الجمالية في الفكر الإغريقي
المزيد.....
-
بطل فيلم -صوت هند رجب- يحكي ردود الفعل الغربية
-
وزير الثقافة الفلسطيني السابق أنور أبو عيشة: لا حل غير الاعت
...
-
خدعوك فقالوا: الهوس بالعمل طريقك الوحيد للنجاح
-
بـ24 دقيقة من التصفيق الحار.. -صوت هند رجب- لمخرجة تونسية يه
...
-
تصفيق حار استمر لـ 14 دقيقة بعد انتهاء عرض فيلم -صوت هند رجب
...
-
-ينعاد عليكم- فيلم عن الكذب في مجتمع تبدو فيه الحقيقة وجهة ن
...
-
رشحته تونس للأوسكار.. فيلم -صوت هند رجب- يخطف القلوب في مهرج
...
-
تصفيق 22 دقيقة لفيلم يجسد مأساة غزة.. -صوت هند رجب- يهزّ فين
...
-
-اليوم صرتُ أبي- للأردني محمد العزام.. حين تتحوّل الأبوة إلى
...
-
للصلاة.. الفنان المعتزل أدهم نابلسي في معرض دمشق الدولي
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|