أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي جاسم ياسين - سفر أيوب: ملحمة المعاناة والبحث مدخل تاريخي وفلسفي















المزيد.....

سفر أيوب: ملحمة المعاناة والبحث مدخل تاريخي وفلسفي


علي جاسم ياسين

الحوار المتمدن-العدد: 8452 - 2025 / 9 / 1 - 18:38
المحور: الادب والفن
    


يعد سفر أيوب من أعظم ما أنتجه التراث الإنساني، بوصفه واحداً من أعمق النصوص التي تركتها الحضارات القديمة. إنه كتاب الحكمة الذي خرج من الشرق الأدنى، وصار جزءاً من الذاكرة العالمية. ومن يقرأه اليوم لا يقرأ مجرد قصة رجل ابتُلي، بل يواجه نصاً يلامس الأسئلة الكبرى التي ظلّت تلاحق الفلاسفة والأنبياء والشعراء: لماذا الشر؟ كيف يتجلّى العدل الإلهي؟ وهل للحياة معنى في ظل الألم؟
أيوب هنا ليس تمثالاً للصبر، بل رمز الإنسان الذي وجد نفسه أمام حياة منتهكة، قُوِّضت فجأة، فانفتحت روحه على الصرخة والاحتجاج والسؤال. وهذا ما يجعل النص أقرب إلى وثيقة فلسفية وجودية تتجاوز زمنها.
أيوب: الإنسان المنتهك في مواجهة المجهول
في بداية السفر نرى أيوب كان في تمام الخير: أبناء، مال، صحة، مكانة اجتماعية. لكن في لحظة يتحوّل المشهد: أبناؤه يموتون، يخسر ثروته، يضعفه المرض بشدة، وكرامته تحت نظرات الشفقة والاتهام.
أيوب لا يتخفى وراء الصمت. يرفع صوته قائلاً: “ليتني لم أولد”، ويصرخ: “لماذا تعطى الحياة لمكدود النفس؟” هذه العبارات ليست ضعفاً، بل قوة كبرى؛ فهي اعتراف بإنسانية لا تخاف مواجهة الله بالسؤال.
الحوارات: صراع التأويل
الأصحاب الثلاثة الذين جاؤوا ليعزوا أيوب تحوّلوا إلى خصومه. يصرون على أن ما حلّ به ليس إلا جزءاً من تجربة الإنسان.
لكن أيوب يرفض هذا الخطاب، ويصر على براءته: “ضميري لا يوبخني.”
بهذا يضع السفر قارئه أمام سؤال مهم: هل الألم دائماً عقاب؟ أم أن في المعاناة أسرار تتجاوز المنطق المحدود؟
إن قوة السفر تكمن هنا: إنه لا يُخفي التوتر بين التفسير الديني التقليدي وبين التجربة الفردية. النص يشرعن السؤال في حضرة الإيمان، ويجعل من الاعتراض نفسه طريقاً إلى معرفة أعمق.
التدخل الإلهي: حكمة الغياب والحضور
حين يتكلم الله في ختام السفر، لا يمنح أيوب ما كان ينتظر: تفسيراً مباشراً لمأساته. بل يواجهه بعظمة الكون: بالعواصف والبحار والنجوم والكائنات المدهشة التي لا يعرفها الإنسان. الرسالة واضحة: العالم ليس محدوداً، وحكمة الله أكبر من أن تُقاس بمعايير محدودة.
أمام هذا الخطاب، ينهار أيوب مكتشفاً أن المعاناة ليست لغزاً يُحلّ، بل طريق يقود إلى إدراك عظمة ما يتجاوزنا. ثم تعود إليه النعم مضاعفة، لا كتعويض مادي فقط، بل كإعلان عن تحول التجربة إلى حكمة داخلية.
أهم المقاطع ودلالاتها
• صرخة أيوب الأولى: “ليت الذي قال للوليد أنثى لم يوجد” → تجسد لحظة رفض الوجود نفسه، إنها أقصى اليأس، لكنها أيضاً إعلان أن الإنسان يملك حق التساؤل عن جدوى حياته.
• حواره مع أصحابه: “أنتم معزون متعبون” → يكشف أن الكلمات المعتادة تزيد الألم ولا تشفيه، في إشارة إلى محدودية التفسيرات التقليدية.
• احتجاجه على الله: “أريد أن أتكلم مع القدير وأحاججه” → إعلان جريء بأن العلاقة مع الله ليست خضوعاً أعمى، بل حوار قائم على الثقة بأن الله يسمع حتى اعتراض الإنسان.
• خطاب الله من العاصفة: “أين كنت حين أسست الأرض؟” → لا يقصد توبيخاً، بل فتحاً لأفق جديد يذكّر الإنسان بحدوده، ويدعوه إلى التواضع أمام سرّ الوجود.
البعد الأدبي والجمالي
من الناحية الأدبية، يُعد سفر أيوب نصاً شعرياً فريداً. الصور الكونية التي تملا النص، والرموز (كالتنين لوياثان والكائن بهيموث)، تجعل النص أقرب إلى ملحمة شعرية منه إلى حكاية تقليدية. هنا نرى الشعر في خدمة الفلسفة، حيث تتحول الطبيعة إلى مرآة للأسئلة الكبرى.
إذا قارنا السفر بالتراجيديات الإغريقية، نجد أنه يلتقي معها في تصوير الإنسان المقهور أمام قوى أعظم منه، لكنه يختلف عنها بعمق الرؤية الروحية. فأوديب في مأساته يواجه قدرًا أعمى، أما أيوب فيواجه إلهاً حاضراً، غامضاً، لكنه ليس بلا معنى.
وفي الأدب العربي، نجد صدى هذه الروح في قصائد المتنبي وهو يواجه الدهر، أو في أشعار المعري حين يصرخ من قسوة الوجود. لكن سفر أيوب يبقى متميزاً بتماهيه بين التراجيديا والأمل، بين الانكسار والنهوض.
مقارنات أدبية: صرخة أيوب وصوت الإنسانية
تتجلى عظمة أيوب ليس فقط في مأساته الفردية، بل في كونه صدى لصراخ الإنسان عبر التاريخ. المقارنة الأدبية تظهر أوجه التشابه والاختلاف بين صرخة أيوب وشخصيات بارزة في الأدب العالمي:
• أوديب في التراجيدية الإغريقية، حين اكتشف أنه قتل أباه وتزوج أمه، يصرخ ويعاقب نفسه، مجسداً صراع الإنسان مع قدره. أوديب يشبه أيوب في مواجهة المصير، لكن أيوب يختلف بأنه يرفع صوته طالبًا الحوار مع الله، بينما أوديب يخضع لتقلبات القدر بلا جدال مباشر.
• بروميثيوس في الأسطورة اليونانية، المصلوب على الصخرة لأنه سرق النار للبشر، يصرخ متحديًا الآلهة على الظلم الكوني. هنا يلتقي أيوب معه في الجرأة على مخاطبة القوى العليا، لكنه يتفوق عليه في بعده الروحي، إذ يجعل صرخته حوارًا مع الإله، وليس تحديًا فرديًا فقط.
• المعري في شعره، حين قال: “هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”، يعبر عن احتجاج الإنسان على عبثية الحياة. أيوب والمعري يلتقيان في وصف الألم والشكوى، لكن أيوب يترك الباب مفتوحًا للرجاء والتجدد، بينما المعري يميل إلى التشاؤم والانكسار المطلق.
مقارنات: أيوب والأدب الحديث والمعاصر

لم تتوقف صرخة أيوب عند حدود الزمن القديم، بل امتدت لتصل إلى أدب العصر الحديث والغربي، حيث واجه الإنسان معضلات وجودية مماثلة. فالأدباء والفلاسفة المعاصرون استمدوا من معاناة أيوب فكرة الإنسان في مواجهة الألم والعبثية:
• ألبير كامو في روايته أسطورة سيزيف، يصور الإنسان وهو يواجه عبثية الحياة دون إجابات نهائية. هنا نرى انعكاسًا لصوت أيوب: كلاهما يصرخ أمام الظلم والمحن، لكن أيوب يبحث عن معنى إلهي وراء الألم، بينما كامو يسلط الضوء على تجربة الإنسان في مواجهة عبثية الوجود بلا إلهاً منظوراً.
• فرانز كافكا في أعماله مثل المحاكمة والقلعة، يرسم الإنسان محاصرًا بقوانين لا يفهمها، وضغوطاً غير مرئية، ويعجز عن الحصول على إجابة. أيوب يلتقي بكافكا في تصوير الشعور بالعجز أمام قوى أكبر، لكنه في النهاية يجد صلة بالإله ومصدر الرجاء، فيما يظل عالم كافكا بلا منفذ ولا عزاء.
• دوستويفسكي في الإخوة كارامازوف، حين يناقش صراع الإيمان بالشرّ والمعاناة، يستحضر صدى أيوب في شخصية الأب زوسيما وجرأته في التساؤل عن عدالة الله. هنا يظهر التشابه في مواجهة الأسئلة الكبرى، والاختلاف في صياغة التجربة: أيوب مباشر في صراخه وحواره مع الله، أما دوستويفسكي فيرسم تعقيدات النفس الإنسانية ضمن شبكة علاقات متشابكة.
• في الأدب العربي الحديث، نجد صدى أيوب في أشعار المعاصرين الذين كتبوا عن الألم النفسي والوجودي، مثل نزار قباني وتوفيق الحكيم، حيث تتجسد صرخات الإنسان في مواجهة الفقد والغياب، لكنها تصاغ ضمن سياقات اجتماعية وسياسية، بينما أيوب يظل رمزًا عالميًا للمعاناة الفردية راسخة في علاقة الإنسان بالإله.
هذه المقارنات تظهر أن سفر أيوب لم يكن نصًا زمنياً محدوداً، بل هو نموذج خالد لتجربة الإنسان مع الألم، الأسئلة الكبرى، والبحث عن معنى الحياة. إنه يربط النصوص القديمة بالحديثة، ويوحّد بين الشعر والفلسفة، بين الشرق والغرب، ليصبح أيوب شخصية إنسانية عالمية، تتجاوز الزمان والمكان.

الأثر الفلسفي والتاريخي

ترك سفر أيوب أثراً عميقاً في الفلسفة الغربية. أوغسطين رآه نصاً عن سرّ الإرادة الإلهية. توما الأكويني جعله نموذجاً لمحدودية العقل أمام حكمة الله. أما كيركغارد فقد اعتبره النص الأكثر جرأة في تسجيل توتر العلاقة بين الإنسان والله. وكافكا وجد فيه صورة لقلق الإنسان الحديث، بينما ألبير كامو قرأه كملحمة عبثية تلتقي مع أسطورة سيزيف.
وفي التراث الإسلامي، يظهر أيوب رمزاً للصبر والاحتمال، لكن القرآن الكريم اختصر قصته في آيات موجزة، ركّزت على جوهر التجربة: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت رحيم}.

خاتمة معاصرة
يبقى سفر أيوب مرجعاً خالدًا لتجربة الإنسان مع الألم والابتلاء، ومرآة تعكس أسئلة الوجود الكبرى التي يواجهها كل إنسان في حياته اليومية. إنه نص يعلّمنا أن الصراع مع الألم ليس ضعفاً، بل تجربة نحو إدراك أعظم من النفس والكون، وأن البحث عن معنى في المعاناة هو ما يجعل الإنسان متواصل. في عالم اليوم، حيث تواجه البشرية تحديات متنوعة من فقدان وأزمات، يبقى صوت أيوب حيًّا، يحثنا على التساؤل، الصبر، والمواجهة الشجاعة لكل ما يتجاوز إدراكنا، مع الحفاظ على الأمل والإيمان بقدرة الحياة على التجدد.



#علي_جاسم_ياسين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رمزية الفقر والسلطة في قصيدة بهاء جمعة “المعطف”
- فتوى لإعادة تدوير الفساد والخراب
- التفكير المستمر.. طريقنا إلى الحقيقة
- التاريخ يعيد خطأه: الانحياز إلى الأشخاص
- العقل تحت الإقامة الجبرية منذ القرن الرابع الهجري
- نوجد أولًا… ثم نختار من نكون
- الإنسان يولد غير مكتمل


المزيد.....




- شعوذة.. طموح.. حب.. موسيقى وإثارة.. 9 أفلام تعرض في سبتمبر
- قصة ملك ليبيا محمد إدريس السنوسي الذي أطاح به القذافي
- كيف أصبح مشروب شوكولاتة للأطفال رمزا للاستعمار الفرنسي؟
- المخرج الأميركي جارموش مستاء من تمويل صندوق على صلة بإسرائيل ...
- قطر تعزز حماية الملكية الفكرية لجذب الاستثمارات النوعية
- فيلم -ساحر الكرملين-.. الممثل البريطاني جود تدرّب على رياضة ...
- إبراهيم زولي يقدّم -ما وراء الأغلفة-: ثلاثون عملاً خالداً يع ...
- النسخة الروسية من رواية -الشوك والقرنفل- تصف السنوار بـ-جنرا ...
- حين استمعت إلى همهمات الصخور
- تكريم انتشال التميمي بمنحه جائزة - لاهاي- للسينما


المزيد.....

- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي جاسم ياسين - سفر أيوب: ملحمة المعاناة والبحث مدخل تاريخي وفلسفي