مؤيد الحسيني العابد
أكاديمي وكاتب وباحث
(Moayad Alabed)
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 16:24
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تنويه عن الحلقة السابقة:
ورد تسلسل المنهج الرياضي في الفلسفة عند ديكارت بالشكل غير الصحيح بفعل الترجمة من المصدر الاصلي لما يتعلق بهذا التسلسل، للموضوع اعلاه. والصحيح يكون:
"وقد استخدم المنهج الرياضي في الفلسفة: البرهان → التركيب → التحليل → الشكّ. واعتبر أن الوضوح والتمييز في الأفكار (كما في الرياضيات) هو معيار الحقيقة"، الى اخره من المقال السابق.
اقول هنا: من خلال الحلقات السابقة توصلنا الى ان ديكارت وسبينوزا لم يكونا غير مؤمنين بوجود حياة اخرى بالمعنى المجمل. حيث ركّز الاثنان من خلال الرياضيات على فقرات مهمة ذكرناها هي: "ان ديكارت لم يتحدث بشكل مباشر عن الحياة بعد الموت لكنه آمن بخلود النفس أو العقل. ولم يصف الجنة والنار كما في التصورات الدينية بل ترك الامر للتأمل الديني". وقلنا "عند الاطلاع على العديد من المصادر المتعلقة بالعلاقة بين الرياضيات والتأملات الدينية تعود بنتيجة مهمة وهي ان النماذج الرياضية والمعادلات الرياضية يمكن ان تستخدم بشكل جيد في مجال وضع صيغ او طابع معين مقبول على ما يخص المعتقد الديني، ومنها يما يتعلق بوجود الحياة الآخرة" ومن خلال قول احد الباحثين"يمكن للمفاهيم الرياضية، كالأشياء المجردة والفضاءات، أن تُوسّع فهمنا لحدود الفكر البشري، وأن تُلامس أسئلةً حول الوعي والحياة الآخرة" اشرنا الى هذه الاهمية. وقد اشرنا الى الفيلسوف سبينوزا من خلال رفضه للحياة الاخرى التقليدية ولكنه "لا يمانع من وجود الخلود بمفهوم آخر هو خلود العقل وليس بقاء شخصيًا بعد الموت". وقد اشار في كتابه "الاخلاق" العديد من الافكار التي ذهب اليها من خلال الرياضيات او المنطق الرياضي. لكن ايمانه بوجود الخلود وان كان للعقل لكنه آمن بهذه الحياة من طريق آخر. ومن هنا لاحظنا ونلاحظ ان العديد من الفلاسفة ومنهم سبينوزا الذي وصم على انه إلحادي، هو في الحقيقة ليس إلحاديًا لإيمانه بوجود خالق لهذا الكون ولو بمسميات اخرى. ومن الاشياء البارعة التي ذكرها هو "ان الانسان الحر هو من يوجه حياته بالعقل ويعرف الله (اي الطبيعة) عن طريق الفهم". شيء جميل ان تصل برأي من هذا النوع من الاراء التي يصرّح بها فيلسوف مثل سبينوزا. وهناك العديد من الفلاسفة الاخرين ومنهم من المعاصرين، حيث يرى العديد منهم ان الوعي والنفس والذات انما هي نتاج نشاط الدماغ، لكن هناك كذلك بعض الاتجاهات او التاملات التي يطرحونها حول الموت وما بعده، اي الخلود. فمنهم من يشير الى ان الموت يعني نهاية الوعي ولكن ايضا ليس بالمعنى الذي تطرحه الاديان او التفسيرات الدينية. لكن التفسيرات التي تطرح باشكال متعددة منها ما ينفي فكرة الخلود تماما ولكن ليس بالمعنى الذي يقول بعدم وجود حياة اخرى بحيث يكون المعنى معنيين احدهما الخلود والاخر حياة اخرى يمكن ان تكون بشكل غير الخلود المتعارف عليه. حيث يرفض بول هولباخ وديفيد هيوم وكانط فكرة الخلود باعتبارها غير قابلة للبرهان ( باعتباره ماديا يستند على ضرورة البرهان المادي للوصول الى حقيقة هذا الوجود. حيث يشير هيوم" ان الذات ليست كيانا ثابتا بل مجرد حزمة من الادراكات وبالتالي لا يمكن ان تستمر بعد الموت"(1). وهكذا بالنسبة للفلاسفة الاخرين. ولا يهم فيما يتعلق بالاراء المتعددة. ولا ينبغي ان نترك رأيا يقول ان للخلود نفسه اكثر من معنى في ذهن العديد من الفلاسفة. فمنهم من يفسره بطريق يتماشى مع الفكر المادي، اي في المعنى العام يكون هذا الخلود ولكن في المعنى الخاص لا يشمل الحياة الاخرى بالصورة التي تقترب من التأملات الدينية كما لاحظنا. وقد قلت ان الخلود بحد ذاته كفهوم هو الذي يهمني لان غايتي ليس هو بحد ذاته بل بالاطار الذي يوضح ان هناك حياة اخرى وحساب وثواب وعقاب كما ورد مرادنا. ومن قراءة الانسان لآراء متعددة يرى التناقضات الواضحة حين الاقتراب من ساحة تلك الحياة الاخرى. حيث يرى البعض منهم الى ان الانسان يخلّد من خلال ما يتركه من أثر ثقافي أو علمي (أي ان الاثر يثير من يطّلع عليه ليتذكر الفاعل لهذا الاثر، ولا علاقة لهذا بوجود حياة اخرى بعد هذه الحياة. اي ان التعبيرات تتعلق بما يتركه الانسان من اثر في قلوب وعقول الاخرين! والسؤال ما علاقة هذا بالحياة الاخرى؟ الحديث عن اثر متروك في ذهن الاخر ولا علاقة له بحياة الفرد الآثر نفسه (التارك للأثر). وهنا اشكال كبير وقع فيه بعض العلماء في هذا المجال. حيث يطلق على هذا الاثر بالخلود الرمزي الذي لا يتطلب وجود روح ما أو حياة ما بعد الموت. وقد دخل على خط إبراز الرأي حول الحياة الاخرى او ما يطلق عليه البعض بالخلود كما اشرنا سابقا، ارباب العلوم التقنية كراي كورزويل حيث تحدث عن امكانية تحميل الوعي الانساني او الحياتي على الحواسيب او اطالة الحياة عبر استخدام التكنولوجيا، وقد اطلقوا على الخلود من خلال التكنولوجيا مصطلح
Transhumanism
وفي الحقيقة كما يذكرها احد ارباب الفلسفة بان هذه النظرية مازالت غير مثبتة وتناقش في اوساط الفلسفة المادية. حيث يقول توماس نيغل وديريك بارفيت: إنّ الهوية الشخصية واستمرارية الذات بطرق قد تفتح الباب لتصورات غير تقليدية عن الاستمرار ما بعد الموت لكن دون الايمان بخلود الروح. ولا يعطي هذان الفيلسوفان اي معنى من المعاني عن الاخرة بالشكل الذي تتصوره النظرية الدينية.
من هذه المعلومات يمكن ان نستخلص الى ان هؤلاء الفلاسفة (الذين ذكرناهم قبل المشار اليهما) لم يشيروا الى ما نبحث عنه بالشكل الذي نريد. لكن الكثير منهم تطرق الى الايمان بالخلود الذي لا يقصد به كما في النظرية الدينية او التصور الديني. لكن هناك من يعيد تعريف الخلود بطرق رمزية او تكنولوجية او فلسفية تتماشى مع المادية(2). لكن لا أخفي شيئا مهما هو انني لا أقتنع بوجود من لا يؤمن بوجود حياة اخرى، لكن ليس بالضرورة التي يؤمن بها كل مؤمن حسب اعتقاده. لذلك يكون الموضوع ليس ان نخصص من الموضوع ما نريد بقدر ان يكون الموضوع الاساس هو هل هناك ايمان بوجود حياة اخرى من قبل هؤلاء من يعتقد بطريق الفلسفة للوصول الى الحقيقة المطلقة. لا يمكن لي ان اختصر ما يعتقد به المسلم المؤمن في الوقت الحالي بتلك الحياة التي اؤمن بها بالمطلق ولي ادلتي من النقل والعقل والطبيعة. لكن الموضوع الذي ابحث فيه وعنه الان هو ما يعتقد به الفلاسفة واهل العلم الطبيعي. يقول غوتفريد فيلهلم لايبنتس مثلا حول الحياة الاخرى، كرأي فيلسوف، بانه يؤمن بالحياة الاخرى من خلال ما يعرفه بالخلود المتطرّف! (هكذا) ويطلق عليه بالانكليزية:
Immortalism
وتعني اسم يتعلق بمعنى: وجود لا ينتهي أو شهرة دائمة، في القاموس المستخدم. اي: ان لا شيء يموت فعليا. او ليس هناك شيء يفنى الا بقوة الله المباشرة(3). وهنا ينبغي ان اشير الى ان الخلود هنا عند لايبنتس يشير الى الايمان بالخلود او السعي اليه سواء كان هذا الخلود (او الحشر في التعبير الديني الذي يعبّر عن انه مرحلة من مراحل يوم القيامة اي ان جميع الخلائق ستُجمع بعد البعث في مكان واحد للحساب من قبل الله تعالى او خالق الكون عمومًا، لكن ينبغي ان نشير الى اختلاف ببعض المفاهيم في التصورات التفسيرية عند علماء المسلمين في ان الحشر روحيا يكون ام روحيا وجسديا، وهنا سنشير اليه في وقته جهد الامكان) شكلا جسديا او روحيا من اشكال الابدية. وعند لايبنتس يكون الخلود بهذا الشكل بتعبير يدل على ان الخلود يكون جسديا وروحيا ولكن بطريقة فلسفية غير تقليدية حيث يقول: ان الروح لا تفنى وهذا ما يتفق مع العقيدة الدينية التقليدية. بل يذهب الى ابعد من ذلك في القول: ان الروح تحتفظ بهويتها واستمراريتها حتى بعد الموت من خلال انسجامها مع الجسد في نظام كوني متكامل. لكن الذي يثير الجدل عن طرحه هو الخلود الجسدي في قوله: ان الجسد العضوي نفسه لا يفنى بل يمر بتحولات دقيقة ويظل موجودا في صورة ما الا اذا دخلت قوة الله مباشرة لافنائه(4). وقد اطلق على هذا الاعتقاد بنفي الموت:
exilium mortis
وقد دعا هذا الى ان يسميه بعض الفلاسفة بالفضيحة الفلسفية! او طرح يثير السخرية. ولا اعتقد على اي شئ استند هؤلاء كي يسخروا من طرحه وهو رأي فلسفي كما يعتقد الاخرون بتصورات معينة لا علاقة مباشرة فيها بالفلسفة او العلم او غير ذلك، ان توفر البرهان الفلسفي او الكلام الذي يدعو الى فتح باب النقاش بشكل متقدم. ونشير الى ان اعتقاد لايبنتس يقترب في جوانب عديدة في هذا مع التصور والايمان في الاسلام. حيث يعتقد الى ان الكائن الحي (انسانا كان ام حيوانا ام شيئا اخر!حي) يحتفظ بهويته حتى خلال التحولات التي يسببها الموت (هنا يفترق مع التصور الاسلامي الذي يتضح من خلال عدد من الايات مثل:
وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (فاطر 22)، (هناك بعض التصورات والتفسيرات تشير تفسيرا الى هذا. لا ارى هناك ضرورة لطرحها هنا)، لكن نشير الى ان القرآن الكريم لا يصرّح بشكل مباشر الى الفناء الجسدي المباشر لكل الخلق، اي ان يتحلل ماديا لكنه يشير الى: "تحلل الجسد وتبعثره في القبر، استمرار العذاب أو النعيم في البرزخ رغم فناء الجسد، إعادة خلق الجسد يوم القيامة للبعث والحساب". اذن فتصور لايبنتس يكون على ان الموت ليس نهاية بل مجرّد مرحلة انتقالية (اي برزخ في التصور الاسلامي) في حياة الكائن(5). وتصوره في بعض جوانبه قريب جدا من التصور الاسلامي كما في قوله: "لا توجد لحظة يكون فيها الجسد ميتا تماما والروح منفصلة عنه. بل تبقى الروح مرتبطة بجسد حي وان كان في صورة دقيقة او غير مرئية"(6) (انظر الى بعض التشابه الواضح في بعض جوانبه مع التصور او الايمان الاسلامي، على الاقل فيما يتعلق ببعض المرويات عن ان زيارة الميت والدعاء له يكون مدرَكا من قبله حيث تقترب الروح من عالمها العلوي الى القبر او قربه او ربما تحس بوجود من جاء اليه او اليها). في العموم يتصور هذا الفيلسوف ان استمرارية الروح تكون عنصرا عاقلا ومفكرا. واستمرارية الجسد العضوي كائن حي لا يفنى الا بارادة الهية، اي بقدرة وارادة الله الخالق. لاحظنا الفرق بين هذه الاراء واراء كل من ديكارت وسبينوزا. اي ان لايبنتس اعتقد أن الروح لا تُفصل تمامًا عن الجسد حتى بعد الموت، بل تبقى مرتبطة بشكل ما بجسد حي، وإن كان في صورة متغيرة أو دقيقة جدًا. وهنا يشير الى ان كل شيء في الكون يسير وفق انسجام مسبق بين الجسد والروح باعتبار ان الروح تستمر في شكل من اشكال الحياة. ويرفض هذا الفيلسوف فكرة الفناء الطبيعي واعتبرها تهديدا للعقيدة المسيحية لذلك اعتبره بعضهم ممن خرق القواعد الفلسفية المتعارف عليها ويكون هذا تهديدا دينيا للعقيدة المسيحية وليس كما هو يتصور بان الفكر المضاد لفكره هو التهديد الحقيقي لتلك العقيدة. بينما يرى القارئ تصورا اخر لافلاطون مثلا: حيث يقول بان الروح هي أزلية وخالدة، كانت موجودة قبل الجسد وستبقى بعده. اما الجسد فهو سجن الروح يفنى بعد الموت. اما الخلود فهو خلود روحي محض ويكون هدفه هو تحرر الروح من الجسد لتعود الى عالم المثل. اي انه في تصوره يستند الى نظرية مهمة هي نظرية عالم المثل حيث الروح تسعى للعودة الى الحقيقة العليا. ولنا عودة ان شاء الله تعالى.
د. مؤيد الحسيني العابد
Moayad Al-Abed
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)
. منقول من مصادر جاك شورون الموت في الفكر الفلسفي الغربي- سلسلة عالم المعرفة ص 144 بتصرف
ذكرها د. محمد علي اليوسف في مقاله في العنوان:
الموت والخلود في الفلسفة الغربية المعاصرة | فيلوبريس
(2)
المصدر السابق
(3) راجع المصدر:
The Banishment of Death: Leibniz’s Scandalous Immortalism
(4)
المصدر السابق
(5)
المصدر السابق
(6)
Immortal animals, subtle bodies,´-or-separated souls: the afterlife in Leibniz, Wolff, and their foll
#مؤيد_الحسيني_العابد (هاشتاغ)
Moayad_Alabed#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟