مؤيد الحسيني العابد
أكاديمي وكاتب وباحث
(Moayad Alabed)
الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 20:16
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لقد أشرت في الحلقة السابقة الى نقاط مهمة تتعلق بالفيلسوف ديكارت وقلت الى انه كان مؤمنا بوجود الله أو الخالق "حيث اعتبر وجود الله ضرورة حتمية كأساس لكل معرفة يقينية". وقلنا الى ان الكمال ينتج عنه ما نشير اليه على انه كامل. وقد قلت "اي ان الفكرة التي اؤمن بها بوجود الحياة الاخرى يمكن ان تكون من الكامل، اي من الله تعالى الذي اوجدها في ذهني وفي تصوري، فهي موجودة كناتج من نتائج معيّنة، او هي صادر من صادرات الله تعالى". ولخصت قول ديكارت في هذا الجانب بالقول "ان ديكارت لم يتحدث بشكل مباشر عن الحياة بعد الموت لكنه آمن بخلود النفس أو العقل. ولم يصف الجنة والنار كما في التصورات الدينية بل ترك الامر للتأمل الديني. لذلك اقول ان التصور الديني ليس بعيدا عن التصور الواقعي او الواقع لان الواقع وفق تصوره هو ناتج من نتاجات الله تعالى، كما اسلفنا وبالتالي فهو ليس بعيدا عن ذكر الايمان بوجودها ولو بتصورات متعددة وفق التامل الديني". وقد كانت علاقة ديكارت في توضيح الفكرة من خلال المنطق الرياضي الذي كان يؤمن به. اي ان علاقته بالرياضيات هي التي اوصلته الى ان يقول ان الرياضيات هي النموذج الأعلى للمعرفة. وقد استخدم المنهج الرياضي في الفلسفة: الشك → التحليل → التركيب → البرهان. واعتبر أن الوضوح والتمييز في الأفكار (كما في الرياضيات) هو معيار الحقيقة، لذلك، حتى إيمانه بالله والروح كان مبنيًا على برهان عقلي صارم، لا على الإيمان التقليدي فقط. ولكنّه لا يبتعد عن قول ميتافيزيقي يقترب فيه من التصور الديني لكن ليس ذلك الرأي الديني التقليدي. من خلال ما ذكرنا لاحظنا ان رأي ديكارت في وجود الله تعالى هو ضروري ومؤكّد عقليا. اما رأيه في الحياة الاخرى هو انها ممكنة من خلال خلود النفس. بالاضافة الى رأيه في الروح والتي تعتبر تعبيرا عن وجود مفاهيم اخرى غير تلك المفاهيم الفيزيائية المتعارف عليها، وهي انها (اي الروح) عبارة عن جوهر مستقل عن الجسد. وهذا السرد المفهومي كله من خلال النموذج الاعلى للمعرفة واليقين وهو الرياضيات حسب وجهة نظره. ولا أعتقد أن هناك رياضي واحد يختلف معي في القول أنّ الرياضيات في فرعيها أو في توجهيها القديم الكلاسيكي والحديث يلاحظ الفرق في التصورين او التوجهين حينما نضع القاعدة الرياضية رغم أنّ الرياضيات لا تستطيع تقديم دليل مباشر أو دحض مباشر لكن يمكن للرياضيات أن تساعد في تطوير التفكير المنطقي والكيفيات المناسبة لإبراز المهارات التحليلية، وهذه التوجهات مهمة جدا عند استكشاف القضايا المتعلقة بالميتافيزيقيا او التأملات الدينية. عند الاطلاع على العديد من المصادر المتعلقة بالعلاقة بين الرياضيات والتأملات الدينية تعود بنتيجة مهمة وهي ان النماذج الرياضية والمعادلات الرياضية يمكن ان تستخدم بشكل جيد في مجال وضع صيغ او طابع معين مقبول على ما يخص المعتقد الديني، ومنها يما يتعلق بوجود الحياة الآخرة ووجود يوم للحساب في حياة غير هذه التي يعيشها الفرد. ربما يسأل احدهم اين هذا الشيء في الرياضيات؟ اذهب ايها العزيز الى معنى اللانهاية او وضع الدائرة بشكلها على سطح من السطوح التي يكون لها احداثيان، وتأمل في وضع الشيء من بداية تشكيله الى ان ينتهي عند حد معين لكي يكون مسمى الشكل عندنا. اي له نهاية لا محالة. وان كانت الدائرة فلها بدايتها في مستوى الاحداثيين الاثنين تراها مرة عبارة عن منحنيات متجمعة لتشكل هذا الشكل النهائي وعند فتح او تحديد نقطة البداية سيكون عليك واجب لتحديد النهاية التي تشكل الدائرة من بداية ما الى نهاية ما. وان اخذت وضعها على سطح باحداثيات اربعة او خمسة او اكثر سيكون عندك شكل يتناسب مع الكون الذي نسجته من تلك الاحداثيات واول ما يخطر في بالك هو بداية ما ونهاية ما. لذلك ترى كل معادلاتنا تتراوح بين متغيرات تتناسب مع المحيط وثوابت تقليدية يمكن لها ان تتغير وفق نمط معين. الا ان المريح في الذهن وللذهن عندما ترى نهاية الاشياء التي يكون من الضروري امتلاكها لبداية ما كما ان الشيء الذي له بداية لابد ان يكون له نهاية ما، وهكذا. ربما ياتيك السؤال التقليدي ان كانت هناك نهاية فاين الحساب والقيامة والجنة والنار؟! وللجواب نعود الى التفكير المنطقي الرياضي الذي يستند على اسس تقليدية حينما نحللها ونتعامل معها سيكون واضح لنا ان للعمل تقييما في النهاية. لذلك ترى في تراث الاقدمين الرموز التي تشير الى هذا من خلال المنطق الرياضي الذي كان يستخدم للتفاعل مع عالم غيبي واضح الرمزية من خلال ما ذكرنا. حيث ان الرياضيات كان ومازال عبارة عن محاكاة للطبيعة كبقية العلوم الاخرى ثم تحول هذه المحاكاة الى رمزيات تشكّل المعادلات والاستنتاجات الناشئة عنها كي يتم وضع البراهين المناسبة من خلال استنتاج ذهني افتراضي او فلسفي يتحول بعدها الى استنتاج مكتوب منظّم واضح البداية وواضح النهاية. حيث يقول احد الباحثين "يمكن للمفاهيم الرياضية، كالأشياء المجردة والفضاءات، أن تُوسّع فهمنا لحدود الفكر البشري، وأن تُلامس أسئلةً حول الوعي والحياة الآخرة"(1). لذلك نلاحظ أنّ للرياضيات دورا مهما ونافعا بشكل كبير للوصول الى ما يمكن ان يقال انه طريق للبحث عن دليل لوجود حياة اخرى. ففي فلسفة الرياضيات العديد من الاسئلة المهمة والجوهرية حول دور الرياضيات وعلاقتها بالواقع وكذلك بالمعرفة التي تتقاطع مع الكثير من الاسئلة الدينية ومنها البحث عن الحياة الآخرة، وطبيعة او ضرورة وجودها (هناك العديد من الدراسات الفرعية في هذا الجانب في تلك الدراسة الروسية المهمة التي اشرت اليها). من هنا نستنتج الغرابة التي اضاع فيها العديد من فلاسفة او علماء الرياضيات كديكارت وسبينوزا ذلك الدور المهم الذي حاولوا من خلاله استخدام الرياضيات في قلب المفهوم الآخروي لينقلب عليه المفهوم محتجا معدّلا لما يطرح! اي ان الرياضيات بشكل عام لا يمكن "أن يُغني عن الإيمان أو التجربة الدينية، ولكنه يُوفر أدواتٍ لاستكشافٍ أعمق وأكثر منهجيةً للمسائل الميتافيزيقية"(2). سنعود الى هذا الموضوع في حلقة اخرى ان شاء الله تعالى.
الان ننتقل الى ما يصرّح به باروخ سبينوزا(3)، حيث يتلو في اكثر من مناسبة الى انه يرفض فكرة الحياة الاخرى التقليدية. لكنه لا يمانع من وجود الخلود بمفهوم آخر هو خلود العقل وليس بقاء شخصيًا بعد الموت. وعنده الروح الخالدة انما تعني الاندماج في الطبيعة الالهية. وقد إشتهر بمنظومته الاخلاقية على الاسس الرياضية والعقلانية. اي ان الرياضيات لعبت دورًا ايضا في صقل هذا الرأي في التعبير عن العديد من الافكار التي حملها (رغم محاولاته تأطير ذلك في ابعاد التأملات الدينية عن الموضوع الذي يشير اليه) وفي كتابه الاخلاق رفض التصورات التقليدية عن الخير والشر. حيث كان يعتقد بان الخير والشر ليسا مطلقين لكن الخير في مفهومه وهو ما يزيد من قدرتنا على الفعل بينما الشر يقلل من هذه القدرة. اي انه يعتقد بان لا وجود للخير والشر كقوى خارجية بل هما تقييمات نسبية تعتمد على طبيعة الانسان. وبالتالي يمكن القول ان مكان الخير والشر لغرض التقييم الاخروي يكون بشكل آخر غير التي تعرف في التصور الديني. ويقدس العقل ايما تقديس بحيث يقول ان الانسان حر فقط عندما يقاد بالعقل لا بالعواطف والانفعالات (كالخوف والحسد والغضب) حيث ان هذه الانفعالات تنشأ من الجهل وتضعف قدرتنا على الفعل. ويستغرق في التصورات العقلية حتى يصل الى ان السعادة لا تاتي من المتع الحسية بل من المعرفة العقلية خاصة فيما يخص معرفة الله او الطبيعة. ويقول ان اعلى درجات المعرفة هي المعرفة الحدسية التي توصلنا الى حب عقلي لله. ويصل الى مفهوم غريب بعض الشيء هو ان الخلود المعروف هو في الحقيقة نوع خاص من الخلود حيث يرفض فكرة الخلود الشخصي. اي ان الخلود عبارة عن خلود لا يمكن ان يفرّد على اساس شخصي اي ان العقل هو الخالد وليس هو خلود النفس الفردية (اي ان الخلود لا يكون بالصورة المتعارف عليها في خلود او حشر او لقاء الفرد بنفسه وشخصه). اي ان ما بعد الموت لا تبقى النفس ككائن واع مستقل حيث لا يؤمن سبينوزا بالجنة والنار بالطبيعة التي تتصورها النظرية الدينية. بل ولا يؤمن بوجود حساب شخصي ما بعد الموت. هناك العديد مما يؤمن به هذا الفيلسوف الذي حُسِب على اللادينيين حيث يكون عنده الخلود مشاركة في الابدية. وينص على ان العقل عندما يدرك الحقيقة من خلال المعرفة الحدسية فانه يشارك في طبيعة الله او الابدية. وان مثل هذا النوع من الخلود لا يعني البقاء الواعي بل هو خلود في مستوى الفهم والمعرفة. وان العقل بقدر ما يدرك الاشياء من وجهة نظر الابدية فهو خالد. وهذا يعني ان العقل عنده يفهم الاشياء من منظور كلي لا زمني يندمج في الابدية. وعند سبينوزا تقوم الاخلاق على العقل لا على الاوامر الدينية او العواطف. وان الخلود هنا ليس بقاء شخصيا بل هو اندماج عقلي في الحقيقة (كما اشرنا). لقد لخّص سبينوزا العديد من الاخلاقيات التي يدرجها في كتابه الشهير "الاخلاق" الذي كتبه باسلوب هندسي مستوحى من اقليدس ورسالة اللاهوت والسياسة. ومن الافكار العجيبة التي ذكرها هي خلطة على ان الله او الخالق والطبيعة شيء واحد اي انه يؤمن بوحدة الوجود وان كل شيء يحدث وفق قوانين الضرورة التي يقتضيها المحيط او الكون عموما.
من هنا نلاحظ تلخيصُا لما يقول، ما يلي:
ايمانه بوجود الخلود
ربط الخلود بالعقل لا بالفرد
عدم الايمان بان النفس البشرية تبقى بعد الموت ككائن واع منفصل. وان الاعتقاد بهذا التصور من ووجود الجنة والنار عند سبينوزا والثواب والعقاب بعد الموت مفاهيم ناتجة عن الخوف والجهل لا عن العقل، وليس هذا من العقل الذي يكون هو الخالد (كما قلنا). اي ان هذا الخلود خلود في المعرفة وليس بقاء للذات الواعية بعد الموت. والاعتقاد عند سبينوزا في الله انه تعالى ليس كائنا شخصيا بل هو الجوهر الكلي او الطبيعة ذاتها وان كل شيء بما في ذلك العقل البشري هو تعبير عن هذا الجوهر. اي ان الحياة الاخرى عند سبينوزا او الخلود الحقيقي يكمن في الاندماج العقلي مع الحقيقة الابدية، اي الله (او الطبيعة)، وان الخلود عنده مشاركة في النظام العقلي الكوني. ولكن الملاحظ ان ما بعد الموت عنده نهاية للصورة الفردية ولا توجد نفس خالدة بالصورة التي تضعها الاديان. اي ان تصوره يرفض الثنائية الديكارتية بين الجسد والنفس. واعتبر الانسان وحدة من الجسد والفكر وهما نمطان لجوهر واحد هو الله او الطبيعة وان النفس لا تنفصل عن الجسد وعندما يزول الجسد لا تبقى نفس تواصل حياتها منفصلة. والكيفية التي يوضح فيها ما بعد الموت من نعيم وغيره هو انه "كلما ازداد فهم الانسان للعالم عقليا اقترب من نوع من السكينة والحرية والانعتاق وهي النعيم الحقيقي". يرى سبينوزا ان الانسان الحر هو من يوجه حياته بالعقل ويعرف الله اي الطبيعة عن طريق الفهم. هذا الانسان يصل الى:
السرور العقلي الاعلى
التحرر من الخوف من الموت
سلام داخلي دائم
وهذا ما يشكّل، في نظره، أعلى درجات “الخلود” أو الحياة الأبدية.
واعتذر عن فلسفة مستغرَقة في الصيف اللاهف ووضع الناس في هذه الظروف الصعبة!
د. مؤيد الحسيني العابد
Moayad Al-Abed
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إي. إم فيشتوموف. ميتافيزيقيا الرياضيات، دراسة مقدمة لوزارة التعليم والعلوم في الاتحاد الروسي. الوكالة الفيدرالية للتعليم ـ الاكاديمية الروسية للعلوم الطبيعية. جامعة فياتكا الانسانية الحكومية. كيروف 2006. (باللغة الروسية).
(2) المصدر السابق.
(3) باروخ سبينوزا (Baruch Spinoza) هو فيلسوف هولندي من أصل يهودي برتغالي، وُلد عام 1632 وتوفي عام 1677. يُعد من أبرز فلاسفة القرن السابع عشر ومن أهم ممثلي العقلانية في الفلسفة الحديثة، إلى جانب ديكارت ولايبنتز. تأثر سبينوزا بالفكر الديكارتي، لكنه طور فلسفة متميزة تقوم على وحدة الوجود، والعقلانية الصارمة، ونقد الدين التقليدي. حيث طرد من الطائفة اليهودية بسبب آرائه الفلسفية والدينية.
#مؤيد_الحسيني_العابد (هاشتاغ)
Moayad_Alabed#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟