حسين غسان الشمخي
الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 17:30
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تُعدّ القصيدة السومرية كلكامش وآگا (Gilgamesh and Aga)، أقدم شاهد أدبي يصوّر قيام قائد مثل كلكامش، بعرض قراره على هيئتين تشاوريتين: “مجلس الشيوخ” و”مجلس الرجال القادرين على القتال”، وذلك قبل اتخاذ موقفه من الحرب مع ملك كيش؛ مما يجعلها أقدم نص محفوظ يتناول فكرة المجالس (Assemblies) في تاريخ الحضارات البشرية. أوصى "مجلس الشيوخ" كلكامش بعدم الدخول في حرب مع ملك كيش، لكن كلكامش لم يُعر نصيحتهم انتباهًا، فعاد وطرح المسألة مجددًا، موجّهًا خطابه هذه المرة إلى مجلس ”الرجال القادرين على القتال” وانتقى كلماته بعناية في مخاطبتهم فأجابه المجلس المنعقد بحماس، معلنين استعدادهم لمواجهة كيش. عندئذٍ تهلّلت نفس كلكامش، واغتبط لرأيهم، إذ وجد فيهم العزم والحزم الذي يوافق رغبته في خوض الحرب. مصطلحا “مجلس الشيوخ” و”مجلس الرجال القادرين على القتال” قد يكونان مضلّلين بعض الشيء. “الشيوخ” لم يكونوا رجالًا كثيرين من كبار السن في المدينة.، بل كانوا نخبة صغيرة (عادةً من 6 إلى 8 رجال) يتولون إدارة شؤون المدينة. ما زال هناك جدل واسع حول ما إذا كان مجلس الشيوخ مؤسسة سياسية مستقلة، وما هي علاقته بالملك، وما حدود صلاحياته. أما “مجلس الرجال القادرين على القتال” فهو أكثر غموضًا، إذ لا يوجد ذكر له في نصوص بلاد الرافدين الأخرى. وأفضل نظرية حالية تفترض أن المقصود هم رجال الـ awilum (النبلاء)، دون إشراك طبقة الـ muškenum (الأقل شأنًا) والعبيد.
تاريخيا:
أول وأشهر عمل حول المجالس في بلاد الرافدين القديمة هو مقال ثوركيلد ياكوبسن “الديمقراطية البدائية في بلاد ما بين النهرين” (نُشر في عام 1947)، حيث اعتمد إلى حد كبير على نصوص شبه تاريخية وأسطورية مثل كلكامش وآگا” و”إنوما إليش” ليجادل بأن المجالس كانت الطريقة الأكثر شيوعًا في تنظيم وإدارة حكومات المدن في عصور ما قبل التاريخ، إلى أن تم تهميش هذه المجالس تدريجيًا لصالح الملوك الذين استولوا على سلطتها. هناك فكرة شائعة، لكنها خاطئة، مفادها أن المجالس كانت تنتخب الملوك، وهي تعود في الأصل إلى مقال ثوركيلد ياكوبسن ،إذ يستند هذا المقال إلى رواية إعلان مردوخ ملكًا من قِبل مجمع الآلهة في ملحمة "إنوما إليش" لكن لا توجد أي أدلة على أن المجالس التاريخية انتخبت ملكًا. نعم، الملوك كانوا غالبًا يعملون بالتنسيق مع المجالس، ويرأسونها، أو يُضطرون للتشاور معها، لكن لم يتم انتخابهم من قبلها. الدراسة الأساسية التالية التي تناولت موضوع المجالس هو كتاب المدينة الرافدينية القديمة لمارك فان دي ميروب (Marc Van De Mieroop’s The Ancient Mesopotamian City)، الذي نُشر عام 1999 و تضمّن فصلًا خصّصه لمناقشة بعض الأدلة حول المجالس استنادًا إلى السجل الإداري التاريخي. حرص فان دي ميروب على تجنّب التكهنات المفرطة التي شابت أعمال ياكوبسن، ولذلك امتنع عن استخدام النصوص الأدبية والأسطورية مثل “جلجامش وأكّا” و”إنوما إليش” واكتفى بالاعتماد على السجلات الإدارية التي ورد فيها ذكر للمجالس.
ما وجده فان دي ميروب هو أن معظم النصوص التي تشير إلى المجالس الرسمية تُظهرها وهي تؤدي دورًا قضائيًا، بوصفها نوعًا من محكمة الاستئناف. ويذهب فان دي ميروب إلى أن المجالس لم تكن جزءًا من البنية السياسية المبكرة لبلاد الرافدين، بل كانت تطورًا لاحقًا في تاريخ بلاد الرافدين، بعد أن ترسّخت الملوكية وتشكّلت الدول المركزية. ويعتقد أن هذه المجالس ظهرت خلال ما يُعرف بتكوين الدول الثانوية، حين أصبح الملوك يحكمون مناطق واسعة، فابتعدوا تدريجيًا عن رعاياهم المحليين. عندها نشأت المجالس كمظهر من مظاهر التسوية، حيث منح الملوك السكان المحليين بعض المجال للتعبير عن إرادتهم وثقافتهم، من خلال السماح لهم بتحديد ما يشكّل العدالة في قضايا معينة.
ما هي المجالس؟
في فترة سلالة أور الثالثة تصف قصيدة " A Praise Poem of Shulgi C ” المجلس كمكان تُجرى فيه المداولات، ويتجمّع فيه أهل بلاد الرافدين، ويُصغي فيه الوزراء إلى الرسائل القادمة من الأراضي الأجنبية. وعند الانتقال إلى الفترة البابلية القديمة، نحصل لأول مرة على نظرة واقعية على ماهية المجالس . في نص بعنوان “محاكمة القتل في مدينة نيبور”، حيث تُرسل قضية قتل إلى مجلس نيبور للمداولة. وخلال هذا النص القصير، يتحدث عدد من الرجال أمام المجلس، ويُحدد نصفهم تقريبًا وفق مهنتهم، ومن ضمنهم: صياد طيور، بستاني، خزّاف. وهذا يخبرنا أن أفرادًا من خلفيات اجتماعية واقتصادية متنوعة تمكنوا من مخاطبة المجلس، لكن بعد أن انتهى الشهود من شهاداتهم، يقول النص إن المجلس “خاطبهم بما يلي” ما يدل على أن هؤلاء الرجال لم يكونوا أعضاء في المجلس. تُشير معظم المصادر التي تذكر المجالس في جنوب بلاد الرافدين إلى دورها في الإشراف على نوع من أنواع المحاكمات. وأحيانًا تُرسل المحاكمة إلى المجلس من قِبل الملك بشكل صريح، وأحيانًا لا يوجد أي تدخل للسلطة الملكية. والأمر الثابت في جميع هذه المحاكمات، أنها ليست محاكمات اعتيادية، بل يبدو أن المجلس كان يؤدي دور محكمة استئناف لتوضيح مسألة الذنب أو اتخاذ قرار بشأن العقوبة. ولا توجد سجلات تفيد بأن المجالس كانت تجري الجزء المتعلق بالتحقيق وجمع الأدلة في المحاكمة؛ بل كانت تتعامل حصرًا مع القضايا المعقّدة التي لا تنطبق فيها نصوص القانون بشكل مباشر أو واضح. فعلى سبيل المثال، في “محاكمة القتل في نيبور”، يُقتل كاهن ذو مكانة عالية على يد ثلاثة رجال قد أُدينوا بالفعل ونُفّذ الحكم فيهم. وكانت المحاكمة مخصصة لتحديد ذنب زوجة الكاهن التي يُفترض أنها تواطأت مع القتلة ولكنها لم تشارك فعليًا في تنفيذ الجريمة. يقرّر مجلس نيبور أن الزوجة مذنبة تمامًا كالمجرمين الثلاثة، ويحكم عليها بالعقوبة نفسها. الدور الآخر المهم للمجلس كان بمثابة منتدى علني يمكن للناس فيه توجيه الاتهامات للآخرين، سواء بتشويه سمعتهم أو باتهامهم بارتكاب جريمة أمام “المدينة”. وعمومًا، تبدو المجالس في جنوب بلاد الرافدين كمنتديات عامة ومحاكم قضائية تعمل بشكل وثيق مع مؤسسات أخرى ومسؤولين آخرين.
ماري:
ما يتعلق بمدن أُغريش، وتُتّول، وإيمار الواقعة على أطراف مملكة زمري-لين. تُظهر الرسائل المتبادلة بين زمري-لين ومسؤوليه الملكيين أن هذه المدن الثلاث مارست نوعًا من صنع القرار الديمقراطي أو شبه الديمقراطي من خلال هيكل يشبه المجالس. أُغريش على سبيل المثال كانت في السابق عاصمة للهوريين، وتقع على أطراف مملكة زمري-لين، وبالتالي تمتعت بدرجة من الحكم الذاتي واستمرار الإدارة الذاتية، رغم تبعيتها الاسمية لزمري-لين. وقد وصل الأمر إلى أن أجبرت المدينة الملك الذي عيّنه زمري-لين لحكمها على الفرار بحياته. وتصف إحدى الرسائل كيف أن المدينة صادرت بعض البضائع من تابعٍ لزمري-لين، وعندما طالب التابع باستعادة بضاعته، أمر زمري-لين رجال أُغريش بإعادتها. فعقدت المدينة مجلسا لتقرير ما إذا كانت ستنفذ التعليمات، وفي النهاية وافقت على التنفيذ. وتذكر رسالة أخرى أن أُغريش عقدت مجلسًا لتقرر ما إذا كانت ستدخل في حرب. رغم أن المجالس في ماري أقل شيوعًا مقارنة بجنوب بلاد الرافدين، إلا أنه حينما وُجدت، يبدو أنها تمتعت بصلاحيات أوسع بكثير واستقلالية أقوى.
آشور:
في مدينة آشور، تُذكر المجالس بشكل جيد وواضح في السجلات. لم يكن ملك آشور يتمتع بأي سلطة على قرارات المجلس، لكنه في نفس الوقت كان الملك هو المسؤول عن إدارة وتنفيذ إرادة المجلس.
وكما هو الحال في جنوب بلاد الرافدين، كان المجلس يشرف على القضايا القانونية، ويُعِد منتدى يستطيع فيه الناس توجيه التهم لبعضهم البعض. لكن هناك صلاحية فريدة امتلكها مجلس آشور ولم تُذكر في مجالس أخرى، وهي تنظيم التجارة. فقد أُظهر المجلس وهو يضع قواعد تحدد من يمكنه شراء الذهب، وفرض ضرائب على الحديد، واشترط أن يتكوّن ثلث منتوج أي قافلة متجهة إلى الأناضول من القصدير. وتُظهر معظم النصوص من آشور وكانيش أن المجالس هناك كانت تتعامل مع القضايا القانونية وتسوية النزاعات، ونادرًا ما كانت تُتخذ فيها قرارات سياسية أو تُبرم معاهدات.
ما بعد الفترة البابلية القديمة:
استمر وجود المجالس في السجل التاريخي بعد الفترة البابلية القديمة، حتى في عهد الإمبراطورية الفارسية التي حكمت بلاد الرافدين. ومع ذلك، يبدو أن هذه المجالس أصبحت أقل شيوعًا بكثير، وأصبحت تُصوَّر حصريًا كمؤسسات قضائية تتولى المحاكمات، دون أن تُمنح أي سلطة سياسية أخرى.
Sources/ المصادر
1- Andrea Seri’s Local Power in Old Babylonian Mesopotamia (Equinox Publishing, 2005)
2 -Thorkild Jacobsen “The Nippur Homicide Trial” in Towards the Image of Tammuz.
3- Daniel Fleming’s Democracy’s Ancient Ancestors (Cambridge University Press, 2004).
4-Morgens Trolle Larsen, Kanesh (Cambridge University Press, 2015)
5-Marc Van De Mieroop The Ancient Mesopotamian City (Oxford University Press, 1999)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟