فراس صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 16:50
المحور:
القضية الفلسطينية
■ لم يكن «إعلان نيويورك» الصادر عن المؤتمر الدولي بشأن «حماية حل الدولتين»، إلا إعادة تدوير لمجمل الإشتراطات الأميركية القديمة الجديدة، التي تشكّل في جوهرها برنامجاً كاملاً لتصفية القضية الفلسطينية، عبر قنوات دبلوماسية ناعمة ومفردات مضللة تنضوي تحت مصطلحات براقة كـ«حل الدولتين» و«الأمن والاستقرار» و«السلام الشامل».
إعلان رعته فرنسا والمملكة العربية السعودية، وحظي بتغطية إعلامية وديبلوماسية كثيفة، لكنه حمل في طياته رؤية خطيرة تتجاوز مجرد الانحياز لإسرائيل، لتصل حد تبني كامل الشروط الأميركية – الإسرائيلية لإعادة صياغة الهوية السياسية الفلسطينية وفرض قيود على الحقوق الوطنية التاريخية، وخاصة حق العودة والسيادة.
استعادة كاملة لشروط جيك سوليفان – تصفية تحت اسم «إصلاح»
ما ورد في «إعلان نيويورك» لا يمكن عزله عن ما سبق أن سُلّم للقيادة الفلسطينية من قبل مستشار الأمن القومي الأميركي السابق «جيك سوليفان»، ضمن ما عُرف بالشروط العشرة لإعادة تأهيل السلطة الفلسطينية سياسياً وإداريًا، لتكون «صالحة» للدخول في تسوية تقبل بها واشنطن وتل أبيب.
تلك الشروط، التي جرى عرضها وكأنها برنامج «إصلاح»، في جوهرها دعوة مكشوفة لإعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني، بل إلغاء هذا المشروع واستبداله بمشروع أمني – اقتصادي تحت وصاية دولية، وعلى حساب الهوية الوطنية والحقوق التاريخية لشعب فلسطين.
إعلان نيويورك لم يكن أكثر من صدى مكثف لهذه الرؤية الأميركية، مغلفة بأسماء دولية رنانة، لكنه يفتقد لأي مضمون سيادي أو وطني يخدم تطلعات الشعب الفلسطيني.
الأرض ليست للفلسطينيين.. إسقاط حدود الرابع من حزيران 67
أحد أخطر ما تضمنه الإعلان هو القفز على أحد أبرز الثوابت التي أقرّتها الشرعية الدولية ووقّعت عليها الأمم المتحدة نفسها، وهو الاعتراف بحدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، حدوداً للدولة الفلسطينية لأي حل سياسي.
إعلان نيويورك تجاوز هذا الأساس القانوني، ليستعيض عنه بعبارة هلامية: «حدود آمنة ومعترف بها على أساس حدود 1967»، وهي صيغة مشوهة، مفتوحة للتفسير والتلاعب، وتمنح إسرائيل شرعية ضم الكتل الاستيطانية وممارسة المساومة على أراضي الضفة الغربية والقدس.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن صياغة كهذه كانت هدفًا إسرائيلياً منذ ما بعد اتفاق أوسلو، وقد تم تبنيها بوضوح في «خطة ترامب» المشؤومة، والآن يعاد تثبيتها باسم "إجماع دولي" تحت رعاية سعودية – فرنسية!
شرعنة الاستيطان.. التمييز بين مستوطن ومستوطن!
في انتهاك صارخ لكل قرارات مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، تجاهل «إعلان نيويورك» الدعوة إلى الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وتفكيك المستوطنات، بل ذهب أبعد من ذلك حين تعامل مع الاستيطان كمكون قائم، واقترح تنظيمه عبر تمييز زائف بين «مستوطن صالح» وآخر «غير قانوني».
هذا التمييز الخبيث يفتح الباب أمام شرعنة وجود آلاف المستوطنين، وتحويلهم إلى «واقع ديموغرافي لا يمكن المساس به»، بل ويمنحهم الحماية القانونية، مقابل المطالبة بحل «معتدل» يراعي «الحق الإسرائيلي بالأمن» .
بهذا المنطق، تُحوّل الضفة الغربية إلى أرخبيل كانتونات، تحت الهيمنة الإسرائيلية الأمنية والديموغرافية، بينما يُسحق الحلم الفلسطيني بإقامة دولة مستقلة ذات سيادة.
المقاومة = إرهاب ...
لعل من أكثر ما يثير الاستفزاز والقلق في «إعلان نيويورك»، هو الانسياق الكامل وراء الرواية الأميركية – الإسرائيلية التي تجرّم المقاومة الفلسطينية، وتصفها بـ«الإرهاب»، متجاهلة أن هذه المقاومة مشروعة بموجب القانون الدولي، الذي يمنح الشعوب الرازحة تحت الاحتلال حق الدفاع عن النفس بجميع الوسائل، بما فيها المسلحة.
الإعلان تبنى توصيفًا منحازاً يجرّد الفلسطيني من أهم أدواته الكفاحية، ويضع الضحية في موقع المذنب، فيما يتغاضى عن جرائم الاحتلال اليومية من قتل وتهجير وهدم للمنازل ومصادرة للأراضي.
هذه المقاربة لا تحرّم على الفلسطيني المقاومة فحسب، بل تمهد لإعادة تشكيل العقل السياسي الدولي، وتطبيعه مع احتلال دائم، بذريعة محاربة "العنف".
الدولة الموعودة.. بلا سيادة ولا سلاح ولا أمن
أعاد «إعلان نيويورك» تعريف الدولة الفلسطينية وفق النموذج الذي تطرحه تل أبيب: دولة منزوعة السلاح، لا تملك سيطرة فعلية على حدودها، ولا جيش يحمي مواطنيها، ولا سيادة على أمنها الداخلي، بل تعتمد على التنسيق الأمني مع إسرائيل لحفظ «الاستقرار».
وهنا يتجلى وجه الصفقة بوضوح: المطلوب هو كيان وظيفي يُدعى "دولة"، يتولى فيه الفلسطينيون ضبط أنفسهم وقمع أي مظاهر للمقاومة أو التمرد، بينما تبقى إسرائيل اللاعب الأوحد الذي يتحكم بالسيادة والحدود والموارد.
هذا النموذج ليس جديدًا، بل هو جوهر «الحل الاقتصادي» الذي طرحه نتنياهو وكرّسه لاحقاً كوشنر في «صفقة القرن».
اشتراطات على الفلسطينيين.. إفلات تام لإسرائيل
لم يكن من المفاجئ أن يمتلئ «إعلان نيويورك» بشروط مسبقة على الجانب الفلسطيني: توحيد المؤسسات، إصلاح السلطة، إجراء الانتخابات وفق معايير محددة، نزع سلاح الفصائل، وغيرها.
لكن ما يثير القلق والرفض هو غياب أي شرط أو ضغط فعلي على إسرائيل، الدولة القائمة بالاحتلال.
لا دعوة صريحة لوقف الاستيطان، ولا إشارة لجرائم الحرب في القطاع، ولا إلزام بوقف تهويد القدس.
بهذه المقاربة غير المتكافئة، يتحول الإعلان إلى أداة ضغط على الضحية، بينما يكرّس الإفلات التام للجاني من المساءلة.
تدخل سافر في الشأن الداخلي الفلسطيني
تعدٍ فاضح على السيادة الوطنية تمثّل في تدخل «إعلان نيويورك» بتنظيم انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، وفق الرؤية التي تطرحها قيادة السلطة الفلسطينية.
ورغم أن هذا الموضوع موضع نقاش وحوار بين فصائل العمل الوطني، فإن التدخل الدولي فيه يعكس استخفافاً بالحوار الوطني، ومحاولة لفرض مسار سياسي يرسخ أوسلو ويمنح القيادة الحالية صك شرعية من الخارج، على حساب الشراكة الداخلية. وتحويل العملية السياسية إلى عملية إدارية تحت وصاية أجنبية.
طمس حق العودة .. من القرار 194 إلى «حل متفق عليه«
أحد أخطر ما تضمنه إعلان نيويورك هو الالتفاف على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم، وفق القرار 194، بتحويله إلى صيغة غامضة: «حل عادل ومتفق عليه»، وهي ذات الصيغة التي استخدمتها اسرائيل لعقود، لتفريغ حق العودة من مضمونه.
ما تعنيه هذه الصيغة هو ببساطة: لا عودة، بل توطين أو تعويض رمزي، أي تطبيق فعلي لـ«خطة ترامب»، التي أرادت إسقاط قضية اللاجئين من معادلة الحل النهائي.
الاعتراف الأوروبي ... لا تغيّر في الميدان
رغم الترحيب النسبي بإعلان فرنسا عزمها الاعتراف بدولة فلسطين، والوعد البريطاني المشروط بخطوة مماثلة، بالإضافة إلى تصريحات 15 دولة أخرى، فإن هذه الاعترافات، ما لم تُترجم إلى خطوات فاعلة للضغط على إسرائيل، ستبقى رمزية.
على أي اعتراف لا يتبعه تحرك دبلوماسي وحقوقي لإجبار إسرائيل على الالتزام بقرارات الشرعية الدولية: الانسحاب من الأراضي المحتلة، تفكيك المستوطنات، وقف التهجير القسري، ورفع الحصار عن غزة، والاعتراف بحق العودة.
الاعتراف بالدولة يفترض أن يقترن باعتراف بالمظالم التاريخية، وبالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني.
إن مواجهة ما ورد في «إعلان نيويورك» لا يمرّ بالاعتراض الديبلوماسي وحده، بل يتطلب وقفة سياسية وطنية موحّدة، تعيد التأكيد على ثوابت الإجماع الوطني:
• لا دولة دون انسحاب كامل من حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967.
• لا سلام دون تفكيك الاستيطان ووقف الضم.
• لا شرعية لأي صيغة تمسّ حق العودة أو تفرّغ المقاومة من مضمونها.
• العمل على صون الهوية الفلسطينية في مواجهة كل الدعوات، لصياغة هذه الهوية، بما ينسجم مع الهوية الأميركية – الإسرائيلية، لأي حل سياسي.
«إعلان نيويورك» محطة يجب أن تُرفض بكل وضوح، لا أن تُناور القيادة الفلسطينية للتماهي معها، ولا أن تُستثمر إعلامياً بعبارات فارغة من قبيل «الانتصار للشرعية الدولية»
الشرعية الدولية لا تُخدم عبر «حلول وسط»، بل بإرادة مقاومة، تقودها حركة وطنية موحدة، تعيد الصراع إلى مساره الحقيقي: نضال شعب من أجل التحرر، لا مفاوضات على إدارة الاحتلال■
#فراس_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟