ناصر البدري
(Nasser Albadry)
الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 04:50
المحور:
الصحافة والاعلام
منذ انتشار الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي، شاع استخدام مصطلح "الواقع الافتراضي" أو "العالم الافتراضي" في وصف الأنشطة الرقمية. ورغم شيوع هذا الاستخدام، فإن هذا المصطلح يفتقر إلى الدقة حين يُستخدم لوصف وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت تمارس أدوارًا مؤثرة في الواقع، تفوق أحيانًا كثيرًا من الوسائط التي تُسمى "واقعية".
لطالما استُخدم مصطلح "الافتراضي" للإشارة إلى ما هو غير حقيقي، أو على الأقل، إلى ما لا ينتمي تمامًا إلى الواقع الملموس. لكنه، في السياقات الرقمية المعاصرة، وخاصة مع بروز وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح يُستخدم لوصف أشياء لها أثر واقعي حاسم في حياة البشر. من هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في المصطلح، وتفكيكه لغويًا وفلسفيًا، وتحديد ما هو "افتراضي" حقًّا، وما هو "واقعي" لكنه يُسمى خطأً بـ "الافتراضي".
أولًا: تفكيك مصطلح "افتراضي" – الجذور اللغوية والفلسفية
لفظ "الافتراضي" في اللغة العربية مشتق من الجذر "ف ر ض"، أي ما يُفترض وجوده دون أن يكون موجودًا بالضرورة. هو تقدير عقلي، أو بناء ذهني، أو شرط مسبق للتفكير، دون تحقق حسي. نقول "فرضية علمية" أي احتمال يحتاج إلى إثبات.
لكن في الاستخدام المعاصر، المصطلح هو ترجمة غير دقيقة للكلمة الإنجليزية virtual، التي جاءت إلى الحقل التكنولوجي من التراث الفلسفي الأوروبي، حيث استخدمها فلاسفة مثل ديكارت، وليبنتز، وجيل دولوز، بمعانٍ شديدة التعقيد.
أغلب هذه المعاني لا تشير إلى "الزيف"، بل إلى "الإمكان" و"القدرة الكامنة". فكلمة virtual مشتقة من الأصل اللاتيني virtus، وتعني "القوة" أو "الطاقة الممكنة".
ومن هنا، "العالم الافتراضي" ليس عالمًا خياليًا، بل عالمٌ يعمل بقوة المحاكاة، وله أثر واقعي يعتمد على التجربة، لا على الوهم. لكن حين يُستخدم هذا المصطلح في وصف أنشطة تحدث بين بشر حقيقيين، في زمن حقيقي، بأسماء حقيقية أو رمزية، وبآثار نفسية واجتماعية واقتصادية ملموسة — يصبح غير دقيق.
حين تنشر فكرة على فيسبوك تؤثر في وعي جمهور، أو حين تُبنى حملات سياسية على تويتر، أو تنشأ علاقات عاطفية أو تجارية على إنستجرام، فإننا لا نكون أمام "واقع افتراضي"، بل أمام الواقع بشكل مختلف، لا يقل واقعية عن الشكل الذي اعتدنا عليه قبل بروز هذه الوسائل.
ثانيًا: الواقعي والافتراضي – فك الاشتباك
ما يُسمى "افتراضي" هو في الحقيقة واقعي. فالمحادثات الرقمية، التفاعلات على تويتر، الحملات الإلكترونية، الصور المنشورة، والأخبار المتداولة على فيسبوك — كلها أحداث واقعية تجري ضمن وسائط رقمية.
ولسنا نقول فقط إن ما يسمى خطأً بـ "الافتراضي" ليس أقل قوة من الواقع، بل نقول إنه جزء من الواقع نفسه. هو واقع رقمي، أو واقع مشفَّر، لكنه ليس فرضية أو خيالًا، بل امتداد للواقع الاجتماعي، بتقنياته ووسائطه المختلفة.
انطلاقًا مما سبق، يمكننا اقتراح تمييز أدق بين ما هو واقعي وما هو افتراضي:
الواقعي التواصلي: هو كل ما يُنتج أثرًا فعليًا في حياة الأفراد، سواء تم عبر وسيط مادي أو رقمي. وتشمل هنا وسائل التواصل الاجتماعي.
الافتراضي المحاكي: هو ما لا يُنتج أثرًا مباشرًا إلا في عالم التخيل أو المحاكاة، مثل الواقع الافتراضي (VR)، أو الألعاب الرقمية التي لا يُقصد بها التأثير الواقعي.
هذا التمييز يسمح لنا بتحرير "الرقمي" من وصف "الافتراضي"، ويُعيد الاعتبار إلى وسائل التواصل الاجتماعي كأدوات واقعية فاعلة.
ثالثًا: السوشيال ميديا كإعلام بديل
السوشيال ميديا هي وسائل واقعية وليست افتراضية، لكنها غير مؤسسية بالكامل، وإن كانت كثير من المؤسسات، بما فيها الحكومية، باتت تستخدمها كقنوات إعلامية فاعلة. ورغم التباين الظاهري بين الإعلام البديل والوسائط الإعلامية التقليدية كالإذاعة والتلفزيون، فإن بينهما مشتركات جوهرية على مستوى الوظيفة والوسيط. فكلاهما يسعى إلى نقل الرسائل الإعلامية والتأثير في الوعي العام، عبر أدوات تكنولوجية تتقاطع في طبيعتها، مثل الشاشات والسماعات والهواتف.
كما يشتركان في عناصر الاتصال الأساسية: المرسل، الرسالة، الوسيلة، المستقبل، وإن تباينت درجة التفاعلية وسرعة الانتشار. وتعتمد كل من مجموعتي الوسائل على عمليات الترميز وفك الترميز للصوت والصورة والنص، وعلى بنى تحتية رقمية متقاربة، لا سيما بعد دخول البث الإذاعي والتلفزيوني إلى الفضاء الرقمي.
بل إن كثيرًا من الرسائل الإعلامية تُنتج اليوم في قالب واحد، ويُعاد تدويرها بين وسيطين من المجموعتين، إذ يمكن أن تبث قناة تلفزيونية محتوى يُنشر في الوقت نفسه على يوتيوب أو فيسبوك، مما يؤكد أن التمايز بين الإعلام "القديم" و"البديل" لم يعد حادًا، بقدر ما هو اختلاف في مستويات التفاعل، والانتشار، وملكية أدوات البث.
فوسائل التواصل الاجتماعي ليست مجرد منصات رقمية عابرة أو تفاعلات رمزية، بل هي أدوات لإنتاج وتوزيع وتبادل المعلومات، ولها أثر واقعي ملموس في تشكيل الرأي العام، والتأثير في السياسات، وتحريك الاحتجاجات، وتغيير مصائر أفراد وجماعات.
إنها شكل من أشكال الإعلام البديل، لكنها تختلف عن الإعلام المؤسسي (كالإذاعة والتلفزيون والصحف) في كونها لا مركزية، ولا تخضع مباشرة لرقابة الدولة (وأقصد هنا رقابة الإنتاج لا رقابة الحجب أو المحاسبة)، وتقوم على مساهمات الأفراد لا المؤسسات.
لكن رغم ذلك، فإنها إعلام واقعي له جمهوره، وتأثيراته القابلة للقياس، بل يتفوق أحيانًا في سرعة الانتشار وعمق التأثير.
فإذا كانت الإذاعة والتلفزيون مؤسسات تواصلية أحادية الاتجاه – ترسل المحتوى إلى الجمهور دون أن تتيح له الرد أو التفاعل – فإن وسائل التواصل الاجتماعي تمثل بيئة تفاعلية مفتوحة، تسمح لأي فرد بأن يكون مرسلًا ومستقبلًا في الوقت نفسه.
هذا التفاعُل يُحوّل الفرد من متلقٍّ إلى مشارك وفاعل ومنتج للرسائل. بهذا المعنى، لا تختلف وسائل التواصل الاجتماعي عن الوسائل التقليدية في كونها أدوات لنقل المعلومات والتأثير في الرأي العام، بل قد تتفوق عليها من حيث سرعة الانتشار، والانفتاح على تعددية الأصوات، وتفكيك مركزية التحكم.
وباختصار، لا تقل عنها في واقعيتها، بل قد تكون أكثر التصاقًا بالواقع، إذ تنقله دون رقابة أو تدخل، مما يُضعف من فرص التزييف أو التلوين، ويقلل المسافة بين الواقع والمتلقي.
رابعًا: ما هو "الافتراضي" فعلًا؟
إذا أردنا الدقة، فإن "الافتراضي" هو ما لا يتحقق إلا بوصفه نموذجًا نظريًا، أو تخييليًا، أو محاكاة لا تأثير لها خارج الذهن أو الجهاز، مثل: ألعاب الفيديو المنغلقة على ذاتها دون تفاعل اجتماعي حقيقي، والبيئات التخيلية مثل "الميتافيرس" التي لا تتصل بسياقات اجتماعية واقعية، والنماذج الحاسوبية المستخدمة لأغراض بحثية دون ارتباط بسلوك بشري فعلي.
أما التفاعلات البشرية، السياسية، الاجتماعية، والعاطفية التي تجري على المنصات الرقمية، فهي ليست افتراضية، إنها واقع رقمي، أو واقع يُدار عبر وسيط تكنولوجي، لكنه ليس خياليًا ولا متوهمًا.
الخلاصة
نحن نستطيع إعادة تعريف مصطلح "الافتراضي"، بوصفه: "ما لا يتموضع في الواقع ولا يحدث فيه، بل يُفترض فقط كمفهوم أو نموذج".
أما "الواقع الرقمي" فهو: "امتداد للواقع البشري عبر وسيط تكنولوجي".
إذًا نحن لا نعيش عالمين منفصلين — أحدهما واقعي، والآخر افتراضي — بل نعيش واقعًا مركبًا، تصنعه الوسائط المادية والرقمية معًا، وهما معًا أدوات لإنتاج الحقيقة.
والسوشيال ميديا، ليست "عالمًا افتراضيًا"، بل أدوات تواصل اجتماعي واقعية، وسائل إعلام بديلة، أو جديدة، تتشكّل فيها الآراء، وتُبنى عبرها الشبكات، وتُشن فيها المعارك الإعلامية والسياسية. وهي ليست بديلًا عن الواقع، بل جزءٌ منه وامتدادٌ له.
#ناصر_البدري (هاشتاغ)
Nasser_Albadry#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟