حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 15:08
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
تتسارع المتغيرات الاستراتيجية في المنطقة العربية بشدة في الفترة الحالية، ويبدو أنه على العرب أن يدفعوا ثمن غياب المشروع الكبير القادر على المواجهة، وعدم توفر الشجاعة لمواجهة الواقع والاعتراف بفشل الراهن بحثا عن البديل.
العسكرة الدائمة "مشروعا"
بداية تتجه "إسرائيل" إلى وجهة جديدة تقوم على "العسكرة الدائمة"، بصفتها ستكون رأس الحربة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، وخطة نظرية الصدام الحضاري تجاه المنطقة التي وضعها أحد أعمدة الثالوث الرئيس لها، وأقصد برنارد لويس الذي هو ثالث كل من هينتجنتون وفوكوياما، الثلاثة الذي عليهم قامت السياسة الخارجية الامركية وتطبيقاتها الراهنة.
ففي ملف "العسكرة الدائمة" وتحول إسرائيل إلى قاعدة عسكرية أمامية، يرتبك البعض في تصوره الاستراتيجي لها، فالبعض مازال أسيرا لمقولات الحروب القصيرة والهشاشة الاقتصادية وما على ذلك، دون وعي بأن المدد والدعم والتمويل والإمداد الذي لا ينقطع سيحمل "إسرائيل" لتتجاوز كل ذلك، وتستطيع القيام بدورها في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة.
الأزمة الداخلية بين التكتيكي والاستراتيجي
البعض يجتر القديم، ويتحدث عن الأزمة الداخلية وتناقضاتها المستمرة ويظن أنها قد تفجر "إسرائيل" من الداخل، وهذا التصور يفتقد للبعد الاستراتيجي للمشروع الصهيوني، بوصفه تمثلا للمسألة الأوربية وتمددها في الشرق، لن يتشقق إلا بتشقق المسألة الأوربية القديمة وفي تمثلها الامبراطوري الأمريكي حاليا.
الأزمة السياسية داخل "إسرائيل" مستمرة من قبل الحرب، واستمرت أثناء الحرب بدخول وخروج بعض الوزراء، ولكن هذه ليست هي الأزمة الحقيقة التي يتغافل عنها الباحثون العرب، الأزمة هي عرض لمرض متجذر وراسخ كشف عن نفسه منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما فشل مشروع الأرض مقابل السلام واتفاقيات أوسلو، مع اغتيال إسحاق رابين، وظهور نتانياهو في أول حكومة منتخبة بعد ذلك، ورفض السلام، وعودة الصهيونية العنصرية التوسعية.
نهاية الأرض مقابل السلام وبروز الدولة التوسعية
الأزمة أن السلطة الفلسطينية أنُهكت ولم تجد مخرجا سياسيا لها بعدما تورطت وعادت للضفة الغربية، وتصورات السلام المصرية ارتكنت للراحة والعلاقة الاستراتيجية مع أمريكا، ولم تشأ أن تنظر مليا في الاستراتيجية الأمريكية والإسرائيلية للهيمنة، وظنت أنها ستكون بمأمن عن التمددات المقبلة، والأردن لم يكن أمامه من سبيل سوى وادى عربة أيضا.
الأزمة هي تصور سياسي لمشروع الدولة الصهيونية؛ والتخلي عن مشروع حل الدولتين منذ نهاية التسعينيات بعد اغتيال إسحاق رابين والانتفاضة الفلسطينية الثانية، وصولا للحظة التاريخية الراهنة، ونجد تعبيرا عنها في قوانين تهويد الدولة، ومخططات السيطرة على القدس والمقدسات الدينية العربية، كما حدث مؤخرا في مدينة الخليل ونقلوا السيطرة والإشراف على الحرم الإبراهيمي للمجلس الديني لواحدة من المستوطنات القريبة.
أما التصور الثاني للأزمة فيتمثل في اتجاه المجتمع الإسرائيلي سياسيا نحو المزيد من تركيز السلطة في يد الحكومة ورئيس الوزراء وسيطرته على القضاء وبعض المناصب الأخرى في الدولة، لكبح الأصوات التي تعارض الشكل العنصري للدولة الذي يعني في النهاية تحويل إسرائيل لمشروع عسكرة دائمة.
القادم ليس أزمة داخلية بل "عسكرة دائمة"
في حقيقة الأمر الذي يتجنبه الجميع إسرائيل ستتجه نحو مشروع للعسكرة الدائمة، وتغيير الصورة النمطية القديمة التي روجوا لها عن الحروب القصيرة والضغط الاقتصادي وما إلى ذلك، نتانياهو هو رجل المرحلة الأمريكية الحالية التي تقوم على الصدام الحضاري والهيمنة، في ثلاثة ملفات وهي الملف العربي الإسلامي في فلسطين، والملف الصيني في تايوان، والملف الروسي في أوكرانيا. لن تجد أمريكا دونالد ترامب أفضل من نتانياهو ليكون ذراعه الاستعماري الخشن لفرض الهمينة الحضارية وصدامها في المنطقة العربية الإسلامية.
فالقادم من "إسرائيل" ليس أزمة داخلية ملحة عندهم، ذلك تمويه وخداع استراتيجي، القادم هو المزيد من العسكرة والمزيد من الضغط لفرض الشرق الأوسط الجديد، والترويج لـ"إسرائيل" الكبرى.
الجبهة السورية وإدارة التناقضات والهيمنة
على الجبهة السورية ستمزج "إسرائيل" التي ستقود الشرق الأوسط الأمريكي الجديد، ما بين التمدد والسيطرة العسكرية، وما بين توسيع الحلف السياسي الداعم لهذا الشرق الأوسط الجديد فيما يعرف بالاتفاقيات الإبراهيمية.
ستمزج في سوريا بين الاثنين، ربما السيطرة على المنطقة السورية الملاصقة لإسرائيل ونزع السلاح منها، وربما تمهد لحكم ذاتي للدروز يكونوا فيه موالين لها، ولا مانع من إبرام اتفاق إبراهيمي بين سلطة ما تكون موجودة في دمشق.
اسرائيل تتجه نحو مشروع للعسكرة الدائمة، والتأكيد على يهودية الدولة، وأنها لا تسعى لحل يقوم على دولة واحدة، ولا تسعى لحل يقوم على دولتين، بل تسعى لتهويد الدولة ومد حدودها داخل دول الطوق والتهجير ما استطاعت له سبيلاً.
وهذه هي الحقيقة المرة التي يرفض الكثيرون الالتفات لها منذ موت مشروع أوسلو، والتصور السياسي القائم على الأرض مقابل السلام في التسعينيات، ترامب يطرح منذ ولايته الأولى الاتفاقيات الإبراهيمية وفق عنوان رسمي وموثق "السلام مقابل الازدهار".
العرب في مأزق كبير، أفاقوا فجأة على الكابوس الذي كان ينمو أمام عيونهم منذ تسعينيات القرن الماضي، تحتاج اللحظة التاريخية الراهنة لإجراءات جذرية، وتغيير واسع في الاستراتيجيات العربية لتصبح على قدر المواجهة، مواجهة مشروع الشرق الأوسط الجديد، وعصر الصدام الحضاري الأمريكي الراهن.
ترامب والرسوم الجمركية امبراطورية الكابوي الأمريكي
ومن جهة أخرى يسعى ترمب لفرض الهيمنة عالميا بطريقة أخرى، فالرسوم الجمركية هي إحدى الوسائل الخشنة التي يستخدمها دونالد ترامب، لفرض سياساته الاقتصادية على العالم، تجاه الحلفاء والخصوم على السواء.
لكنها توضع في السياق ذاته لتفكيك النظام العالمي المستقر، وفق اتفاقيات التجارة الحرة والقواعد المستقرة على الصعيد الدولي، مثلما يفعل دونالد ترامب تجاه النظام العالمي السياسي المستقر فيما بعد الحرب العالمية الثانية، سواء بخروجه من بعض الاتفاقيات والبروتوكولات الأممية، أو بتوقيعه عقوبات على شخصيات مفترض أن لها حصانة دولية، مثل قضاة المحاكم الأممية، أو مقرري الأمم المتحدة للحقوق الإنسانية.
يمارس ترامب السياسية الدولية على طريقة الكاوبوي، الذي يشق طريقه ممتطيا حصانه يطلق الرصاص ذات اليمين واليسار، سواء على الهنود الحمر ضعاف الحيلة، أو على سكان المناطق الاستعمارية الأخرى التي يسيطر عليها النظراء الغربيين.
ترامب بين التطرف الديني والتطرف المادي
ترامب يعتقد أنه امبراطور عالمي بطريقة الكاوبوي المسيحي التاجر الفاتح، يغذي تطرفه الديني عن طريق ملف العرب والفلسطينيين والسيطرة على مدينة القدس، تمهيداً لنزول المسيح الغربي، ويغذي تطرفه وجشعه التجاري والمادي عن طريق الرسوم الجمركية.
سوف تسعى الدول الكبرى إلى الضغط على ترامب سعيا للوصول إلى اتفاقيات أقل خسارة بالنسبة لها. دول مثل الصين وقفت له الند للند واستطاعت إجباره على احترام حقوقها بطرق مختلفة. أوربا ماكرون ضغطت عليه في ملفات سياسية بشكل مرحلي، وتحديدا في ملف فلسطين حتى يتراجع عن سياساته الاقتصادية تلك، والرسوم التي فرضها على أوربا.. ولا يمكن أن يكون تجدد دعوة ماكرون للاعتراف بدولة فلسطينية بعيدا كل البعد عن ذلك.
الجميع سوف يقاوم لكن في النهاية عليه أن يصل إلى اتفاق ما مع دونالد ترامب، لمكانة أمريكا في الاقتصاد الدولي، ولهيمنة امريكا السياسية وربطها الاقتصاد بالسياسية بالثقافة.
مشكلة دونالد ترامب أنه يهوى الأضواء، ولا يريد أن تخلو عناوين الأخبار من حضوره، سواء سياسيا في ملفات مثل فلسطين وأوكرانيا وتايوان، أو اقتصاديا في ملفات الرسوم التجارية.
العرب: غياب البديل الجاد
العالم يمر بمرحلة إعادة تشكيل صعبة، ومن لا يمتلك أوراق ضغط ومقومات ذاتية، أو من لن يسعى إلى ذلك، سيكون مصيره التهميش الحضاري تحت عجلات القطار الأمريكي، الذي يرفع شعارات الصدام الحضاري.
مشكلة العرب أنهم يرفضون الاعتراف بفشل المشاريع القائمة وسردياتها الكبرى، السلطة تتمسك بمواقعها، والمعارضة تتمسك بمواقعها، ولا توجد مساحة جادة لتشكل بديل عربي جديد، يتجاوز الاستقطابات والتناقضات ويسعى لشق الطريق نحو المستقبل.
#حاتم_الجوهرى (هاشتاغ)
Hatem_Elgoharey#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟