سمير محمد ايوب
الحوار المتمدن-العدد: 8403 - 2025 / 7 / 14 - 18:47
المحور:
الادب والفن
كتب الدكتور سمير محمد ايوب
أفقت قبل أيام، صباح السابع من تموز، على صوت داخلي معاتب: ما بال وعيك اليوم لا يكتب؟! كنت قد نسيتُ أن السابع من كل تموز، يجيؤني كصوت بلال وهو يؤذن لابن الخطاب، أو كأجراس العودة كما تمنتها فيروزتنا النبيلة.
بأصابعي، فرْفَكْتُ عيْنَيَّ شبه المغمضتين. فتَّحْتهما على اتساعهما. اعتدلت في السرير. تناولت ورقا وكتبت فيه جملة من نوع الحيرة تقول: لقد خسرت اليوم عاما آخر، مما تبقى لي عند الله من ايام، لا يعلم عددها إلا هو سبحانه. ثم اغلقتهما وعدت اتقلب بقلب موجوع. محاولا معاودة النوم ثانية، بعد ان ظننت أنني بما كتبت، قد أنقذت نفسي اللوامة، من حيرتها المعتادة، في كل سابع من تموز.
وبعد وقت طال، اصرهاتفي على استكمال ايقاظي. أعددت قهوتي بنفسي، كما أحاول منذ أن رحلت أم ثائر دالية البيت، بعد اكثر من خمسين عاما، امضيناها معا في السراء والضراء. إتجهت إلى مكتبي المجاور لمطبخي وغرفة نومي. جلستُ كما أفعل كل يوم، أمسكت بقلم اعتدت الامساك به، حدقت مطولا في بياض الورق، ثم القيت بالقلم جانبا، لأمسح دمعا تسلل ساخنا من عيني. واحتضنت رأسي بين كفي، أفتش مليّا عن نفسي . أسأل وأتنهد عن سر هذا الدمع، وفي البال زهير بن أبي سلمى ومعلقته المشهورة التي يقول فيها:
سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش، ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ.
رَأَيتُ المَنايا خَبطَ عَشواءَ مَن تُصِب، تُمِتهُ وَمَن تُخطِئ يُعَمَّر فَيَهرَمِ.
تسامت روحي الشابة، وبعيونٍ هرمةٍ، نظرت إلى الورق المنتظر تبسَّمْتُ بسخرية العارف، وبصمت لا يملك غده: بدأت اخط بلا حيرة: الحمد لله، كان الزرع مخلصا، والسعي جادا، والثمار وفيرة نبيلة تسر الناظرين. وأنا اقترب واقفا من الحياة، ما تزال مواقدي تعج بحطب من بلدي، وغضب انيق نبيل، وقهوتي تشع في المكان، وفي الروح عزم لا يلين، يليق بالمقتضيات وبالتبعات.
وقد أتممت الثالثة والثمانين من كل شيء، تتجه قدماي بقوة اكثر وأمل اشد، نحو نعمة جديدة من نِعَمِ الله التي لا تحصى. عمر كان جديرا بعيشه حتى الثمالة. ما خنت خلالها ايا من خرائطي. فيه مشت خطاي معي طرقات كثيرة. افضت في كل منافي العمر، لأبواب عديدة، فتحتها ولم اكسر أيا منها، ولثمار عديدة قطفتها، وافراح شاركت بها. اشعر الآن انني اقوى بثلاثة وثمانين مرة مما بدأت.
لا وقت حولي لكثير من الحزن، أعلم أنه قادم، قبل أن أحتمل الكثير مما أتوقع، سأحدق عمدا في بعض من دهاليز ما مضى، حيث يتراكم الصمت.
ذات ظهيرة، سألتني عرافة من تاميل الهند، تتخذ من أحد ميادين بومبي مقرا لها: أتحب الحياة يا سيدي، وإلى أي حد؟! بعد ان اجبتها قالت: لأني أعْلَمُ أن حياتك مكتظة وبلا شواطئ، أنصحك بأن تتعرف جيدا على من تعاشر او تعيش.
على ابواب السماء هناك في بومبي، قلبت متفحصا مع تلك العرافة الكثير من اوراق الذكريات، نطارد معا بلا ملل، أطياف من طال غيابهم. ألف ألف قلب وقلب يشبهني منهم. فرحت بالكثير ممن في روحي الكثيرمن ارواحهم. ممن كانو جسورا بيني وبين الحياة.
سأرجئ موتي قليلا، علني التقي بهم ثانية، لنحتفي معا بالبدايات.
متعسفا وبعشوائية غير مقصودة سأنتفي بعضا قليلا ممن كنت ارى من نوافذ عيونهم، الياسمين والقمر متعانقان، والالم والامل لا يبغيان.
# - الدكتور احمد الخطيب، وسامي المنيس، جاسم القطامي، وعبد الله النيباري، أعمدة حركة القوميين العرب في الكويت، الذين سعدت عبر مجلة الطليعة بالعمل برفقتهم هناك، خَدَماً لكل قضايا العروبة وفلسطين، في ستينيات القرن الماضي.
# - الشهيد الرفيق ناجي العلي، والرفاق سميرابوعلي، محمود الدقس، جميل عدس، د محمود ابو حشيس ومحمد ايوب شعبان، الذين بعد نكبة الخامس من حزيران 67، معا قدنا فرع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في ساحة الكويت والخليج العربي.
# - إبن الانبارالحبيب، الدكتور عزت مصطفى العاني وزير الصحة العراقي الاسبق، ونقيب اطباء العراق، ورئيس مجلس وزراء الصحة العرب، الذي منحني الكثير من الثقة والحب والرعاية اثناء عملي مديرا عاما لجهازالاعلام في جمعية الهلال الاحمرالفلسطيني وعلاقاتها العامة وشؤون المتطوعين. وكذلك وزراء الصحة اللبناني د روبير سعادة، د عبد الرحمن العوضي وزير الصحة الكويتي، د فؤاد محي الدين وزير الصحة المصري، برفقة الدكتور فتحي عرفات عملنا معا في اجتماعات مجلس وزراء الصحة العرب، في عمان والقاهرة وبيروت وبنغازي، وفي الاجتماعات السنوية في مقر منظمة الصحة العالمية، والصليب الاحمر الدولي في جنيف.
# وفي المركز العربي لبحوث الاصابات في بيروت، عملت مطولا برفقة كثيرين من القامات الصحية العربية، على ان يرى المشروع البنك العربي للدم المجمد، اخص بالذكر منهم الدكتور حمدي السيد نقيب اطباء مصر، والدكتورعلاء علواني قائد الخدمات الطبية المصرية في حرب اكتوبر ،73، د يوجين مخلوف وابراهيم صهيون
# - لدي ما يكفي من الذكريات، لاشرب قهوتي في قهوة دبيبو على روشة بيروت، برفقة رفيق البحث عن مظان المعرفة في بريطانيا ومصر ولبنان، د حسان حلاق، الذي أسري بنا معا حتى حصلنا بمرتبة الشرف الاولى، على شهادات الدكتوراة، ومن ثم كنا اول من تم ضمهم من غير المصريين لاطقم التعليم في جامعتي بيروت العربية، ومؤسسين في جامعة الامام الاوزاعي للدراسات الاسلامية. ما كان حسان من العابرين في حياتي، كان وما زال بوصلة روحي، وكلما اضربت نفسي اتجه الى روحه في عليائها.
في صيف 1972، كنت ممتلئا ضبابا متقلبا في القلق في لبنان، حين إرتطمت انا وحسان حلاق ابن بيروت، في اروقة جامعة بيروت العربية، بالحاج توفيق الحوري، أحد اهم اعمدتها آنذاك. سألنا فتلعثمنا، ومن ثم تماسكنا. منحنا الكثير من عقله، وبما لم يقل، قدم لأنا كتفا نتكئ عليه، ناول كلا منا عشرة الاف دولار هدية ودلنا على طريق شهادات الدكتوراة. أعاد لأرواحنا الاتزان، واستقام قولنا، بعد ان قال بحب: لا تقتلوا الوقت بالتمني والانتظار، لا تعودوا الا وانتما اول دكتورين في الجامعة من خارج البعثة التعليمية المصرية. أبا راشد، يا حاج توفيق حوري، كنت الضوء الاتي من كل النوافذ الموصدة، كنت عبقريا وانت تحرك عقولنا. وأنت تقول في بحور المعرفة كونوا السفينة والربان ، اكسروا العتمة.
مع كل اصدار لي من الكتب، اذكرك، وأذكر كم من الطرق مشينا حسان حلاق وانا بجانبك، ونحن نؤسس من الفتات معك، جامعة الامام الاوزاعي للدراسات الاسلامية. وكم طريق طويل مشيناه معك نبني حتى صارت الاوزاعي في لبنان، قلعة يشهد لها بين قلاع العلم والمعرفة.
يا حكيم الثورة ، وانا ابحث وسط الخراب، عما ليس بخراب، ارتطم يوميا وفي كل صحراء العرب بقوم نيام، اتذكر انك علمتنا كيف يكون لنا وطن نموت من أجله، فولد الحلم مسخا في رام الله، سلطة نموت على يديها، عام يذهب تلو عام، والمسخ هناك كل شيء هناك يزداد سوءا يا جورج حبش. فلسطين ليست كما ارادها بلفور اوهرتزل، وليست كما ارادها محمد جمجوم وفؤاد حجازي، وليست كما ارادها اول الرصاص، والاهم بعد ان شنقوا البواريد ونحروا عشاق الرصاص، لم تعد كما يريدها الجبارون.
يحق لي ان أزهو بأنني عايشته نحو اربعين عاما، وهبني اثنائها صداقة لا تمحى ومحبة لا تنسى، ورصيدا اكاديميا لا ينضب، ومؤونة معرفية اخلاقية لا تقدر بثمن. يكفي شيخ علماء الاجتماع العرب، عميد كلية آداب الاسكندرية، الاستاذ الدكتورمحمد عاطف غيث، الذي اشرف علي في الماجستير والدكتوراة، أنه فيما علمني، قد علمني النظرة النقدية في الحياة، وحب شيوخ المتعرفة.
ما احترت بعدك يا يا اعز من عرفت وزاملت وصادقت، اطمئنك فانا بعدك قد اتقنت فنون الصبر الجميل، ها هي خطاي تكمل المسير نحو النور، لتضييق المسافات، أملا في الوصول. واطمئنك بأني بهدي مما تعلمته على يديك، ما عدت اعاتب، اتجنب الجدل المماحك الذي لا يحترم شيئا من أداب الحديث ولا جدواه.
وروحي تحوم حول ما تبقى، يسألون عنها، فأوشوش دالية الدار التي لم تعد هناك: متى ينبت النور ومتى يورق ويزهر ويثمر؟! أرقدي بسلام ما عليك، فأنا كما تعلمين مما لا يقال، ما زلت ابذل ما اطيق من فيما لا يستوي من السقاية والرفادة والبناء والجهاد.
أعاشررحيل الفجأة، وأعيش الايام دموعا في قلبي ، وروحي تحوم في الليل الغريب، اواصل التقدم واحتمال الضربات، مصر على ان لا اضيع أيّا من مفاتيح ابوابي، باق اردد مع كل من يحبوك متقدين: يعزعلينا ما نكون سوا؟
الاردن - 14/7/2025
#سمير_محمد_ايوب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟