أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - إدريس سالم - «طابق عُلويّ»: الحبّ بوصفه عزلة وجودية















المزيد.....

«طابق عُلويّ»: الحبّ بوصفه عزلة وجودية


إدريس سالم
شاعر وكاتب

(Edris Salem)


الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 08:37
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


«إلى تلك المرأة،
التي تُلقّبُني بربيع القلب..
إلى الذين رحلوا عني
كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب
لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي...».
يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة التسمية، بل ما تبقّى منها بعد الرحيل، حيث تحمله إلى ذروة الشعور والتفاعل المحسوس، ليمتدّ النداء من الفردي إلى الجماعي، قبل أن ينقلب على الذات ذاتها: «لا أريد سوى أن أرحل من نفسي». هكذا يتحوّل الإهداء إلى اعتراف وجودي، حيث الانكسار لا يكتفي بخسارة الآخر، بل يبلغ ذروته في محاولة الهروب من الذات، من الظلّ، ومن الصدى الأخير للحبّ.
إن كتاب «طابق عُلويّ»، للشاعر ميران أحمد، وهو عمل نثري شعري، قائم على بنية الحنين والشوق، مُشبع بالحزن والألم، ومثقل بتفاصيل الفَقد والهشاشة، كأنه اعتراف طويل لمتألّم لا يزال يفتّش عن نفسه في قلب مَن أحبّ، ويتقصّى آثاره في الأشياء، في الطوابق، في الأرائك، في فناجين القهوة، في الطرقات ليلاً ونهاراً، وفي الصمت الذي يطغى على كلّ اللقاءات. لا يكتفي بسرد عاطفة الحبّ، بل يحوّلها إلى طقس وجوديّ، يتسلّل من الطوابق العليا إلى زوايا النفس المعتمة، في رحلة شاقّة لا خارطة لها سوى الذاكرة المنهزمة والذات المنكسرة وقلب يتهالك يوماً بعد يوم.
ليس «طابق عُلويّ» مجرّد حيّز مكاني، بل هو استعارة للانفصال عن ضجيج العالم، واللجوء إلى عزلة داخلية تغمرها العتمة والتأمّل. هو ملاذ تتكاثف فيه الصور رغم السكون، وتتجلّى فيه الأرواح رغم غياب أصحابها. فضاء يفيض بالحضور الصامت، حيث تتكلّم الذات مع ظلالها بعيداً عن فوضى الخارج. تتكرّر فيه طقوس اللقاء، الوداع، الانتظار، الاشتياق، وكأن الشاعر يدور في حلقة لا تنتهي من الحبّ المعلّق، وكلّ مرّة يكون فيها مع الحبيبة، تكون هي في مكان آخر، غائبة بحضورها، حاضرة في غيابها، غامضة في وضوحها، وواضحة في غموضها.
تتّسم لغة ميران أحمد بكثافة وجدانية، نابعة من الجمل القصيرة، المتوتّرة، الكثيفة والمشبعة بانفعالات ذاتية. يكتب وكأنه يخاطب الحبيبة في كلّ جملة، وكأنها تردّ عليه بالصمت، في نصوص تمرّ بين الاعتراف والندم، بين العتاب والتبرير، في حركة شعورية متأرجحة لا تنشد الاتّزان، بل تكشف هشاشة التجربة وصدقها في آن.
في هذا الكتاب، نقرأ رسائل لا مُرسل لها، رسائل ظلّت عالقة بين «كتابة» و«إرسال»، مكالمات لم تكتمل، وحوارات مفترضة تهمس داخل شاشة هاتف تتحوّل تدريجياً إلى مرآة لوجع داخلي، يراقب فيها الكاتب آخر ظهور للغائب. كلّ شيء هنا مكثّف في استعارات ملموسة: (السرير قبر، النافذة شاهدة، السيجارة إصبعها، الباب بارد، الصور نياشين على صدر ذاكرة لم تُشفَ). الحبّ ليس خلاصاً، بل مرض يتفاقم، شوق يعبر الجسد كحادثة طارئة. لا يتستّر الكاتب على هشاشته، بل يصوغ منها صوته. يعترف بانكساره، بضعفه، بارتباكه أمام الحنين، بخيباته الكبيرة والكثيرة، حيث يصبح الانتظار طقساً، والغياب عادة لا فُكاك منها:
«لا..، لا يمكنُني
أنا سريعُ التعلّقِ،
ولا يمكنُني التخلّصُ من أيّ شيءٍ
لا يمكنُني طردُ أحدٍ
مثلُ بقائك بداخلي،
على الرغم من غيابِك عني وتجاهلكِ...».
ويقول في الصفحة (71):
«أنا سيّءٌ!
سيّءٌ، لدرجة أنني تركْتُك ترحلين
لم أعزفْ لك لحناً من بكائي
أو أكتبْ قصيدةً لذهابك
لم أكنْ مجهّزاً لرحيلك
لم أخترْ لك أغنيةً حتى».
يندمج الزمن الافتراضي بالنصّ، فيغدو «آخر ظهور» مرآة للخذلان، و«الصفحة المغلقة» علامة على الانقطاع لا الفَقد، و«الرسائل المعلّقة» استعارة لعاطفة لم تجد جسدها. يكتب ميران عن الحبّ ككيان هشّ في عالم افتراضي جافّ، معلّق كقطرة ماء على زجاج الشبكات. ومع ذلك، لا يستسلم، بل يواصل الحديث، حتى لو كان المرسَل إليه غائباً، أو مجهولاً، أو جزءاً ضائعاً من ذاته:
«دامَ غيابُك طويلاً
وآخرُ ظهورٍ لك يشيرُ إلى عام
ورسائلي معلّقةٌ في حساباتك الوهميةِ
تركَتْني أغرقُ في نحيبي».
في «طابق عُلويّ» لا يُكتب الحبّ كما يحدث، بل الحبّ كما لا يحدث، كما يتخيّله ميران وينتظره ويخذله، عن اللحظات التي لم تأتِه، والكلمات التي لم يقلها، والرسائل التي لم يفتحها، عن امرأة لا يسمّيها، لكنها حاضرة في كلّ المقاطع، التي صارت مدينة وبلاداً ومرآة وكتاباً وصوتاً وصورة. يكتب نصّاً طويلاً في النداء، في السؤال، في تأجيل الاعتراف، في التحسّس من الحبّ، في جلد الذات، في اللوم والتمنّي والتذكّر، لا تحمل نصوصه أيّ عناوين، سوى أنها مقسّمة على ثلاثة أقسام «طابق عُلويّ، خارج الطابق العُلويّ، كلمات هاربة من القصائد».
في نصوص الكتاب هنا نصّ يتحدّث على لسان الضحية، التي ربما تكون الشاعر نفسه، أو صديقه، أو حبيبته، أو أيّة ضحية أخرى من ضحايا انتظار الحبّ الحقيقي ويسأل مستفسراً عن الصمت «أتعلمين ما هو الصمت؟»، فالصمت ليس سكوناً، بل فعل هدم داخلي، يكشف عن كيان آخر، لا يصمت بل يثرثر في الداخل «شخص لا يتوقّف عن الثرثرة في داخلك»، كجهاز مكسور لا يتوقّف عن إصدار الضجيج، لا يُحتمل؛ لأنه لا يُسمع بل يُحسّ، ويشتغل مثل سمّ يسري في الجسد، كمرض لا يقتل مباشرة، بل ينهك الروح ببطء. وهنا الذاكرة المتصدّعة لا تُنسى، بل تُذبح بالحنين، وكأن الماضي يُسحق لا ليُستعاد، بل ليُفقد إلى الأبد، وتبقى الذات في صمت مدمّر لا يشبه الفراغ، بل يشبه الموت الصامت، فيقول أحمد:
«أتعلمين ما هو الصمتُ؟
شخصٌ
لا يتوقّفُ
عن الثرثرة في داخلك.
سمٌّ منتشرٌ
في أوردة دمِك،
وينهشُ من الذاكرة
حتى يقتلُها الحنينُ».

كنت قد أوضحت أن الكتاب مقسّم إلى ثلاثة أقسام، وهنا في القسم الأول المسمّى «طابق عُلويّ»، والذي يحمل عنوان الكتاب نفسه، يبدأ الكاتب ميران أحمد بتشكيل معمار النصّ، من خلال مشهد بسيط ظاهرياً: لقاء أوّل في المقهى، والصعود إلى الطابق العُلويّ، غير أن ما يظهر بين دلالاته هو تهيئة سردية لقصّة حبّ، سرعان ما يتكشّف عن طبقة شعورية كثيفة ومركّبة، يتداخل فيها الحبّ بالصمت، والدهشة بالحزن، واللقاء بالغياب. فالطابق العُلويّ ليس وصفاً معمارياً، بل هو استعارة طباقية تشير إلى علوّ النفس حين تهرب من العالم، إلى عزلتها الخاصّة، وربما أيضاً إلى ضعفها وتصدّعها، التي لا تحتمل الطوابق السفلى المكتظّة بالصخب والعلاقات العابرة؛ فالعلوّ هنا لا يرمز إلى السموّ الروحي بقدر ما يشي بعمق الوحدة، والابتعاد عن الأرض، حيث يُفترض أن تحدث الحياة، ليبدأ القسم بجوّ ساكن يقول فيه:
«كانَ الوضعُ هادئاً
حينَ التقيْنا في المرّةِ الأولى
وكانَ الصمتُ رفيقَنا».
وهو صمت غير محايد، بل مليء بما لا يُقال، تسبقه خطوات صعود الدرج كتمهيد للدخول في علاقة ما، ثم يتدرّج الكاتب نحو التحرّر والفُكاك من صمته، لكنه لا يفعل ذلك بكلمات، بل بتعابير الحبّ المباشر:
«أنت الوحيدة
التي امتلكت قلبي».
ليصل سريعاً إلى طلب القبلة، لا كغواية جسدية، بل كحاجة داخلية لكسر جموده، للتماس الحقيقي مع الآخر، أو ربّما للاتّحاد به. «قُبلة واحدة» تُقال كمَن يتوسّل الحياة وسط عالم من العزلة أو حتى الضجيج المهلك، ليدخل الكاتب في المقطع التالي، واصفاً حالة غرائبية، يطغى فيها الحضور الصامت، العيون التي تلتقي مراراً، الأيادي التي تمتدّ بلا إرادة، كما لو أن الجسد يتصرّف بمعزل عن العقل، وكأن الحبّ يشقّ طريقه عبر لغة غير منطوقة.
تتكرّر كلمة «غرابة»، لكن لا بوصفها خوفاً، بل رغبة غامضة تزداد حضوراً، وتُشعل توقاً غير مفهوم، في حالة من التعلّق البطيء، والانجذاب الخفيّ، لتأتي الذروة في مشهد المطر، بصورها الحزينة، المكرّسة في الأدب الرومانسي، لكن الشاعر يمنحها طابعاً حميمياً جديداً. أما حبيبته فحزينة، ترتجف من البرد، والمكان العُلويّ يلفّه الصمت، لكن صوت المغنّي العذب «اسمعي ماذا يقولُ ممي آرارات» يدخل كعنصر ثالث، كمنقذ روحي، يعيد وصل الحبيبين بالعالم، ليكون الغناء هنا ليس ترفاً، بل ضرورة وجودية تُخرج الحبيبة من رعشتها، وتستدرجها إلى الرقص، إلى الدفء، إلى نداء مبطّن للنجاة من الحياة وامتلاك حياة أجمل:
«هل تراقصينني قليلاً؛ ليذهبَ الخوفُ والصمتُ؟
اسمعي ماذا يقولُ ممي آرارات:
لم يذبْ ثلجي في انتظار مجيئك».
وبذلك يؤسّس الكاتب نغمة عاطفية عامّة لكتابه، عالم داخلي معزول، تتصارع فيه الذاكرة مع اللحظة، يكون الصمت أكثر فصاحة من أيّ كلام. لا نجد تسلسلاً زمنياً ولا قصّة واضحة، بل مشاهد شعورية، تنبثق من قلب لحظة واحدة طويلة: اللقاء الأوّل، حيث يبدأ كلّ شيء، لكنه لا يكتمل. فطابق عُلويّ هو مكان اللقاء، لكنه أيضاً مكان الاحتمال، مكان الانتظار، مكان ما لم يحدث بعد.

في القسم الثاني من الكتاب، والذي يحمل عنواناً تقابلياً لافتاً هو «خارج الطابق العُلويّ»، ينكسر الإيقاع الداخلي، الذي كان قد تأسّس في القسم الأول، ليبدأ التحوّل من الحميمية إلى الفقد، ومن التماس الحسّي إلى المسافة والغياب. فخارج الطابق العُلويّ لا يعني فقط الانفصال المكاني، بل هو خروج قسري من العزلة الآمنة إلى فضاء الخذلان، حيث الحبّ الذي كان يُستعاد في الطابق العُلويّ يتحوّل الآن إلى ذكرى، وإلى سلسلة من الصور المنكسرة، والمواجهات الداخلية المؤلمة. العنوان هنا يفصح عن فاصل درامي بين مرحلتين: الأولى شهدت صعوداً في اللغة والمشاعر، والمرحلة الثانية تبدأ انحداراً نحو الشكّ، الغياب، والتأمّل المرير في ما لم يكتمل.
يفتتح الشاعر هذا القسم بجملة: «تذهبين ولا تلتفتين»، وهي عبارة موجزة تحمل خيانة الزمن، وتُنذر بانقلاب شعوري عنيف. إن عدم الالتفات هنا ليس فعلاً عادياً، بل رمز لقطع الصلة، للمغادرة الباردة، التي تترك القلب ثقيلاً في مكانه. من هذه النقطة يبدأ استدعاء سلسلة من المشاهد التي تحاكي الذكرى، الحنين، والتعلّق المؤلم، كما في مقطع: «تركْتُ قلبي ينتظرُك في المقهى، ومضيْتُ»، وهي جملة تختزل التمزّق الداخلي الذي يصوغه الشاعر ببراعة: المفارقة بين جسد يمضي، وقلب يظلّ واقفاً في مكانه.
يتوالى استدعاء عناصر الطقس الطبيعي، وخصوصاً المطر، كخلفية شعورية لا تتكرّر عبثاً، بل تصير جزءاً من مشهد داخلي: المطر يهطل، الناس تركض، لكن المتكلّم لا يبحث عن مأوى، بل عن «نقطة ماء» في داخله، أيّ عن حياة ضائعة وسط رماد الذات. وهنا يعمّق الشاعر المفارقة: المطر بالخارج، الجفاف بالداخل، في حين تتجسّد الذات كشخص محترق، لا تطفئه كلّ أمطار العالم.
في المقاطع التالية، تتكثّف صورة الذاكرة بوصفها عبئاً وجودياً، ويمضي الشاعر في تعرية نفسه من خلال الاعترافات الصغيرة:
«مشيْتُ تحتَ المطرِ
مبلّلاً بالذاكرة
لسْتُ خائفاً من البلل،
بل من أماكن في داخلي
لا يصلُ المطرُ إليها».
إنه كلام ينقلنا من الخوف الطبيعي إلى الخوف الوجودي، حيث لا خلاص من الداخل، ولا شفاء خارجي يفلح في الوصول إلى عمق الجرح.
في «خارج الطابق العُلويّ»، يتقاطع الحنين بالمراقبة: الحضور في الذكريات، في الأغاني، في الأصوات، في المدينة، في قوس قزح... الحبيبة صارت مطلّقة، مبثوثة في كلّ التفاصيل اليومية، حتى بات من المستحيل نسيانها، لأنها أصبحت متداخلة مع كلّ شيء. لكن هذا التذكّر لا يمنح الطمأنينة، بل يراكم الخيبة، ويتحوّل إلى سُهاد وجودي، حيث الذات تفتّش عن لمسة، عن أثر، حتى في الهواء البارد، في أصابع رجل آخر يحتضن الحبيبة، في دخان سيجارة تُشبه أصابعها، في الصور، في آخر ظهور لها على الإنترنت.
تشتدّ لهجة الخذلان، وتتصاعد نبرة العتب واللوم، فيتكرّر فعل الخيانة بوجوه عديدة: من الصديق، من الطابق، من الكتف، من الوجود كله. ويغدو الطابق العُلويّ رمزاً آخر للخديعة، كأن المكان الذي احتضن الحبّ ذات يوم، بات الآن مجرّد شاهد على انهدامه. يستمرّ القسم في تفكيك العلاقة بين الذات والغياب عبر صور مركّبة: خيمة عزاء للنسيان، جدران تتكلّم، سرير يتحوّل إلى نعش، أغنية لا تُسمع، مرآة تنعكس فيها قسوة الحزن، كأن كلّ شيء في العالم بات شريكاً في التذكير، شاهداً على الحبّ المهدور. تصبح الحبيبة أكثر غياباً من أن تُطال، وأقرب من أن تُنسى. يتداخل حضورها مع حضور الغريب، وكأنّ الحبيبة لم تكن شخصاً بقدر ما كانت رمزاً لرغبة الذات في الحبّ، ثم رمزاً لانهيار هذه الرغبة.
هذا القسم يتّسم بكثافة عالية، حيث تعبيرات مثل «حادث الشوق»، و«مكالمة ممدّدة على ساعتين من الشتائم»، و«كتف ينخره الحزن»، ترسم عالماً تشكيلياً يقوم على الصدمة والانكسار. ومع ذلك، يبقى الصوت الشعري وفياً لذاته الحسّاسة، التي لا تندب بقدر ما ترصد، وتكتب، وتبني من الخراب معنى شعرياً قادراً على النجاة ولو بالكتابة. ليتحوّل الكتاب من خطاب العاشق للمعشوقة إلى خطاب العاشق لنفسه، وللعالم، ولظلّ العلاقة. «خارج الطابق العُلويّ» ليس فقط خارج المكان، بل خارج الحلم، خارج الزمن، وخارج احتمال اللقاء. إنه لحظة تشريح الذاكرة، ومحاكمة اللغة، حيث كلّ ما لم يُقل يطفو على السطح، وكلّ ما لم يحدث يتحوّل إلى مرآة تنظر إلى الشاعر بعينين واسعتين، ممتلئتين بأسئلة خرساء، فينتهي وهو يقول:
«وأنتِ
تحدّثينه عني
انتبهي
لشظايا
كلماتِك».

في القسم الثالث «كلمات هاربة من القصائد» يتخلّى ميران أحمد عن البنية الشعرية الممتدّة، ويعتمد أسلوب الومضات والشظايا العاطفية المكثّفة، وكأنه يدوّن أنفاساً أخيرة لحبّ منهك. الكلمات هنا قصيرة، متقطّعة، تنقل مشاعر الخذلان، الحنين، الغيرة، والوحدة بأسلوب مختزل جارح، تتحوّل اللغة فيه إلى مرآة للانكسار، فيظهر الحبيب الغائب في كلّ تفصيلة، حتى في السيجارة، في الصورة الجماعية، في المطر، وفي الجسد المرتجف. هذه الومضات تمثّل بقايا عاطفة ما بعد الانفجار، واعترافات مبعثرة من قلب لم تعد تسعفه الجمل الطويلة، فصار يتكلّم بنبض موجز، حادّ وصادق معاً، ليكشف هذا القسم، أن اللغة، كما القلب، حين تنكسر، لا تموت، بل تتغيّر هيئتها لتقول ما لا تُجيده الجمل المستقرّة.

لا يغلق الكاتب والرسّام ومصمّم الأغلفة الكوردي، ميران أحمد، باب حكايته في «طابق عُلويّ»، الصادر عن دار نوس هاوس للنشر والترجمة والأدب، والموزّع على (100) صفحة، بل يتركه موارباً على هاوية الشعور، يتخفّى خلف الصمت والحنين والألم، ويمتدّ عبر ذاكرة لا تكفّ عن الارتجاف. هذا الكتاب – وهو نصوص شعرية – ليس فقط سيرة قلب انكسر، بل محاولة ليشيّد ملجأً شعرياً للخذلان، حيث تتراكم التفاصيل الصغيرة، وتتحوّل إلى علامات داخلية، تائهة بين اللقاء الأول وآخر ظهور على الشاشة. لا يبحث عن خلاصٍ، ولا يعرض شفاء عاطفياً، بل يقدّم نصّاً يعبّر عن الإنسان، حين يكتفي بالاعتراف بضعفه، ويحوّل هشاشته إلى كتاب، يقدّم مرآة عصرية للعاطفة، من خلال مزج البوح الرقمي بالحسّ الرومانسي، واللغة المتقطّعة بالصور الكثيفة، عاطفة صادقة، لا تُرى، ولا تُلمس، ولا تُنسى.



##إدريس_سالم (هاشتاغ)       Edris_Salem#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سربند حبيب: أنا منفيّ داخل المنفى، والوطن أستحضره بذاكرتي ال ...
- «ترانيم التخوم»: رواية الذات المحاصرة بين المُحاكاة والعدم
- مازن عرفة لموقع «سبا»: أكتب، كي أتحرّر من الكوابيس والهلوسات ...
- «بوح الحياة» مرآة للقلق الوجودي والتصدّع الاجتماعي
- من «الغابة السوداء» إلى «داريا الحكاية»: سُريالية المنفى وعب ...
- تكويعة القرن.. من الخيانة إلى الواقعية
- غياب الكورد حضور للاستبداد
- الوهم والواقع في رواية «إثرَ واجم»
- لِنعُدْ صِغاراً...
- سهير المصطفى لموقع «سبا»: المرأة الشرقية كلّ المجتمع
- حياة الماعز: الإنسان أولاً وأخيراً
- مهرجان كوباني السينمائي الدولي
- مسرح العَمَى: الإنسان بين البصر والبصيرة
- هل يمكن للأدب أن يشفي الإنسان؟
- «ميثاق النساء» ميثاق للتعرّف على الله والدين والحياة
- عِراك الصراعات
- الذاكرة في رواية «رحيل الأقحوان» بثيمة الهروب
- «لأنك استثناء»: حينما يعرّي الشعر الواقع السامّ رومانطيقياً
- فجْرٌ من أحلام الله
- سلمى جمو: الشعر يخاطب الفكر والإحساس في آن واحد


المزيد.....




- خبير يبين لـCNN ما وراء تكثيف موسكو لضرباتها في أوكرانيا ودف ...
- انتشار فيروسي لفيديو بزعم أنه لـ-فتاة مسّتها روح شيطانية في ...
- قتال عنيف في مدينة الفاشر بين الجيش السوداني وقوات الدعم الس ...
- تقرير: الرئيس مسعود بزشكيان أصيب خلال الحرب مع إسرائيل
- إسبانيا: أمطار غزيرة في إقليم كاتالونيا تتسبب بفقدان شخصين و ...
- وفاة عامل مكسيكي في كاليفورنيا إثر عملية دهم لإدارة الهجرة
- حزب أسكتلندي يدعو الحكومة البريطانية للاعتراف -فورا- بفلسطين ...
- الجيش الأوكراني: أكثر من مليون قتيل وجريح روسي منذ بداية الح ...
- باكستان تنفي تعرضها لضغوط أميركية للاعتراف بإسرائيل
- مشاهد توثق استهداف السرايا تجمعات للاحتلال وخطوط الإمداد بخا ...


المزيد.....

- قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير ... / رياض الشرايطي
- نظرية التطور الاجتماعي نحو الفعل والحرية بين الوعي الحضاري و ... / زهير الخويلدي
- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - إدريس سالم - «طابق عُلويّ»: الحبّ بوصفه عزلة وجودية