أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عدنان يوسف رجيب - قصة نبيل وأخر رذيل















المزيد.....

قصة نبيل وأخر رذيل


عدنان يوسف رجيب

الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 04:50
المحور: المجتمع المدني
    


قصة نبيل وآخر رذيل


في مدينة نيوكاسل، المحافظة الشمالية لمقاطعة إنكلترا في بريطانيا، كان يقطن فيها الكثير من الطلبة العراقيين والعرب، وقد يحار المرء أحيانا كيف وصلها هؤلاء الطلبة تاركين مدنا كثيرة قريبة من لندن للدراسة فيها. إلتقيت خلال دراستي في جامعة نيوكاسل، قبل العديد من السنوات، بالكثير من هؤلاء الطلبة المختلفين.
كان (عمر) هو أحد من إلتقيت بهم في بداية دراستي.... شاب صبيح الوجه حلو الحديث تعلو الإبتسامة محياه دائما. كان يسكن في بيت مع طلبة عراقيين في القسم الداخلي للجامعة، تنازل لي عن غرفته في السكن، لأني جديد وكنت أرغب في السكن مع عراقيين لضعف لغتي الإنكليزية. وذهب هو ليفتش له عن سكن آخر. أثار عمله هذا إحترامنا جميعا له. كان عمر هو هكذا دائما يحب المساعدة، ومنذ هذه البداية ذات القيمة الفاضلة معي، كانت لنا صحبة إستمرت فترة طويلة إثناء دراستنا.
بقينا عمر وأنا نلتقي دوما، فكان لإلتقاء مشاعرنا الإنسانية عامل مهم في صداقة طويلة حصلت بيننا.

أحد الأيام طلب مني، عمر، أن أرافقه في الغد، يوم الأحد، إلى لقاء طالب جديد لنوصل له حاجيات مرسلة له من أهله، وصلت عن طريق عمر. كان هذا الطالب (أعتقد كان إسمه حماد)، يدرس بكلية في قرية عند ضواحي مدينة نيكاسل. عائلة حماد أرسلت إليه حقيبة كبيرة فيها ملابس وأطعمة ومواد أخرى، وكذلك قارورة كبيرة من زيت زيتون الضفة الغربية، مع نقود لأجور الدراسة ولمعيشته. لم يكن عمر يعرف حماد شخصيا لكن عائلتي الطرفين اللذان يسكنان الضفة الغربية يعرفان بعضهما. وتم تكليف عمر من قبل عائلته لتوصيل هذه الإرسالية إلى حماد بناء على إلحاح عائلة حماد.
قال لي عمر وهو يبتسم: الإرسالية ثقيلة جدا لا أستطيع حملها بمفردي. ثم أراني الأغراض التي وجدتها فعلا كثيرة، وأردف عمر قائلا: لا أعتمد على شخص أطلب منه مساعدتي غيرك. فوافقته بكل سرور، معلقا: فقدنا الراحة في يوم الأحد. فضحكنا وكأن الظروف كانت لنا بالمرصاد لتسلبنا الإستمتاع بيوم العطلة.
إتفقنا على الإنطلاق بالقطار المحلي (قطار بطيئ يربط بين القرى في ضواحي مدينة نيوكاسل). قطعنا تذاكرنا وإنطلق بنا القطار حوالي العاشرة والنصف صباحا.... سار بنا القطارمتثافلا وئيدا من قرية لأخرى حتى حط حمله، وحل وثاقنا في الساعة الثانية عشر ظهرا. كان الجو ساخنا مزعجا، نزلنا من القطار نجر الحمل الثقيل وتنناوب على حمله بيننا. كان الطريق من المحطة لبيت حماد طويلا، وزاد من تعبنا سخونة الجو وصعوبة الإستدلال على العنوان، فلم يكن بضعة الأشخاص اللذين صادفناهم في القرية يعرفونه جيدا. بعد ما يزيد على النصف ساعة من التعب والحر وصلنا البيت. كان حماد يسكن في الطابق العلوي. نادى عليه عمر، ورأينا حماد يطل علينا من شباكه العلوي، ثم، بعد فترة طويلة نسبيا، (؟1)، نزل وفتح الباب لنا. لكنه صعد أمامنا ولم يبادر إلى حمل شيئا من أغراضه التي جلبناها له ! مما أضطرنا الموقف لأن نصعد السلالم بالحمل الثقيل الذي، كنا، ننوء به. الأغرب من هذا حينما وصلنا إلى باحة البيت، وقف حماد ليشير لنا أين نضع أمتعته، دون أن يكلف نفسه لمساعدتنا في ذلك !....
جلسنا منهكين متوردي الوجه من الحر والتعب، وتتلاحق انفاسنا لنحصل على الأوكسيجين الذي يبدو إنه قد هرب منا..... لكن دون أن يعرض علينا حماد حتى كأسا من الماء (!).
ثم أخبره عمر بكيفية وصول الإرسالية إليه من عائلته لعائلة عمر، وأعطاه النقود، بضعة آلاف من الباونات، مع رسالة أهله الموثقة. وتبادلا التعريف بعائلتيهما، حيث لم يسبق لعمر و حماد أن إلتقيا قبلا.
أثناء إستفسارنا عن دراسته وما ألجأه لهذه القرية النائية بالذات، شرحنا له كذلك ما عانيناه من تعب وسخونة الجو للوصول لبيته، ونحن نحمل هذ الحمل الثقيل. لم نسمع ولا كلمة ثناء واضحة على لسان أو محيا حماد، سوى إنه قال فيما بعد: هل يعجبكما شايا، (!). تبسم عمر، وضحكت أنا معلقا: في هذا الجو الساخن ونحن جياع، نشرب شايا!. لأني تصورت إن ما قاله حماد كان يقصد به الظرافة ليس غير، وإلا فما معنى إقتراحه بتقديم شايا لنا في وقت الظهيرة وهو يعرف إننا جياع...! لكن حماد أردف، بسرعة: ليس لدي شراب بارد...
بعد قوله هذا نهض حماد وأعلن: سأطهو طعاما لي وحدي، وسأعمل لكما شايا إن رغبتما. تبسمت أنا، لأني وجدت ذلك إستمرارا لظرفة الشاي السابقة، لكني لاحظت إمتقاع وجه عمر، وفي الحقيقة لم أتبين في ذلك الوقت سبب تغير تعابير وجه عمر.

ذهب حماد للمطبخ وكنا نسمع طقطقة أواني الطبخ ونشم بعض روائح الطهي. قلت مازحا لعمر: هل تعتقد إنه طباخ جيد، لقد خارت قوانا من الجوع. لم يعلق عمر على كلامي، ولاحظت بعض الإرتباك في وضعه. إنتظرنا فترة طويلة نسبيا، كنا نتصور إن حماد سيدعونا خلالها لتناول ما اعده من طعام. طال إنتظارنا، ثم بادر عمر للقول: لنذهب ونرى ما حصل. إقتربنا من باب المطبخ فوجدنا ما أثار الغرابة فعلا.... كان حماد جالسا عند طاولته يلتهم طعاما أمامه، وقد فرغ من نصفه تقريبا، وبقربه قنينة كولا باردة. ذهلنا تماما ولم ندر ما ذا نقول.... (؟!). أما حماد، الذي كان يلوك طعامه بشهية، فقال قول الواثق من صواب سلوكه: لقد أخبرتكما بإني سأعمل طعاما لي وحدي، وأنتما لم ترغبا بالشاي. ثم أضاف مؤشرا بيده: إذا أردتما طعاما فهناك مطعم يبيع السمك والبطاطا المقلية في طريقكما للمحطة. وإنهمك مستمرا بإلتهام طعامه دون أن يعير لنا أي إهتمام !. نظرنا عمر وأنا لبعضنا مشدوهين غير مصدقين حصول هكذا تصرف، وإستدرنا لنخرج، وسمعنا حماد يقول من خلفنا: أغلقا الباب جيدا بعد مغادرتكما لأنه غير محكم....!

غادرنا بيت حماد وبالكاد كنا نسير ... الجوع يطوينا والتعب ينهكنا و الجو الساخن يضرب أجسادنا، وتصرف حماد يثير إستهجاننا...! وخلال مسيرنا، إغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال لي: عدنان ... أرجوك سامحني. كانت بضعة كلمات قالها عمر متقطعة بنحيب شديد. عرفت قصده فرددت عليه بمودة: وهل أخطأت ياعمر بشيئ لكي اسامحك ! قال عمر: أشعر إني أنا من قام بهذا الفعل الشنيع... أستميحك العذر. أجبته: كلا ... كلا ياعمر لا تفكر هكذا، أنت لم تخطيئ، لا تأخذ نفسك بجريرة حماد... لا تضع نفسك مكانه. فتح عمر كفيه وقال: كشف عن نفسيته السيئة بسعر بخس، ثم أردف: عرفنا معدنه الواطئ بدون معاناة.

تهنا بعض الوقت عند العودة لمحطة القطار، وإستفسرنا من سيدة تسكن القرية عن مطعم السمك المقلي، فإستغربت من وجود هكذا مطعم في القرية، لكنها دلتنا على إتجاه المحطة. وصلنا المحطة مجهدين ولا أمل لنا بطعام في عطلة يوم الأحد وفي محطة في قرية نائية، وأمامنا الآن ساعة ونصف للوصول للمدينة علنا نجد ما يسد رمقنا. ظل عمر مطرقا حزينا ووجهه محمرا، هكذا يبدو عمر حينما يغضب. حاولت تلطيف الجو بمواضيع أخرى لكنه كان دائما يعود لـ حماد وسلوكه الشائن. قلت له: يبدو إنه ليس أنسانا سويا، فلا تشغل نفسك به. فجأة قال لي عمر: هل ستبقى، يا عدنان، صديقا لي بعد ما حصل؟!! قبلته من جبهته وأجبت: أنت إنسان شهم واعتز بصداقتك، فلا يغير شعوري عنك حادث اليوم الذي قام به غيرك. لكن عمر ظل حزينا تشوب وجهه الكآبة حتى وصولنا إلى مدينة نيوكاسل.

بدا لي في الأيام التي تلت، إن عمر لم يصدق بأني سأظل صديقا له بعد تلك الحادثة الوضيعة. عند اليوم التالي إلتقيته صدفة في كافيتريا الجامعة، إنتحى بي جانبا وقال: يجب علي مواجهة هذا الأرعن على فعلته الشائنة، فما تقترح على. أوضحت له: لا تواجهه، إنه غير جدير بك، لكن أقترح أن ترسل رسالة لعائلتك تشرح فيها الموضوع كله ليخبروا أهله بها. فوافقني على ذلك، وأعتقد بأن عمر كتب رسالة بهذا الخصوص.

أشد ما آلمني إن عمر كان يتحاشى فيما بعد أن يلتقي بي، حيث لم يستطع أن يتخلص من شدة حزنه وإنزعاجه مما حصل لنا من حماد. وكنت قد عملت الكثير لكي ألتقيه وأنسيه الموضوع لكنه ظل على حاله ذاك، لا يريد أن يلتقي بي....!.
حينما غادرت أنا مدينة نيوكاسل، لم أجده لكي أودعه رغم محاولاتي الجادة الكثيرة، فشعرت بقسوة الأمر عليه، وإنه ظل يتهرب مني لكي ينسيني ما حصل.

لقد كان عمر، هذا، غني النفس كريم المعدن، دمث الأخلاق.... يحب الغير ومساعدا ودودا مع الأخرين، ولا يقبل الغش والسوء.
بودي أن أهدي هذه الذكريات له، لعله يقراها يوما، لأني لم أره منذ ذلك اليوم.



#عدنان_يوسف_رجيب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موضوع -علم الطب الديني- ومكانية الإستفادة منه
- قصة فساد إداري ومالي
- تأثر جسم الإنسان بالمجالات المغناطيسية الأرضية، وبمغناطيسية ...
- ّّّذكرى المؤامرة الإستعمارية الأمريكية البعثية في شباط 1963
- مجالس نواب عراقية
- من قتلني
- فضيحة تكنلوجيا الدول (العظمى)
- الكورونا - الجوامع - المستشفيات
- فيروس كورونا والوضع الدولي
- مؤامرة الثامن من شباط 1963
- شعب العراق خرج لنصرة المنتفضين ضد السلطة
- الإضراب العام مطلب المتظاهرين
- دعوة للإضراب العام في العراق
- إنها قضية موضوعية يا صاحبي
- نقد بعض من المسائل الإسلامية في آيات القرآن
- الأمن العراقي يكشف عن المكان المحتمل لإختباء البغدادي -تخبط ...
- نقد مقولة الحضارة [والفلسفة] العربية - الإسلامية
- في ذكرى 8 شباط 1963
- ثروتك، رقمك في البنك
- عرض تعريفي لكتاب بين اليهودية والاسلام- لمؤلفه: الدكتور جعفر ...


المزيد.....




- إدارة ترامب تدافع عن أساليبها العنيفة في توقيف المهاجرين
- مؤسسة غزة الإنسانية.. بين شعار الإغاثة ومصيدة الموت
- عائلات الأسرى الإسرائيليين: نتنياهو يروج لاستحالة التوصل لات ...
- اليونان تقرّ قانونا بوقف طلبات اللجوء للمهاجرين من شمال أفري ...
- اليونيسيف: إصابة 500 طفل بسوء التغذية في غزة خلال يونيو
- الأونروا: نفاد الوقود بغزة عبء جديد لفلسطينيين على حافة المج ...
- نتنياهو يبرر موقفه من الصفقة وأهالي الأسرى يتهمونه بمحاولة ن ...
- هل تنجح صفقة إعادة المهاجرين بوقف قوارب العبور بين بريطانيا ...
- جوع وتشوهات: الأونروا تكشف كابوساً صحياً يضرب غزة بصمت
- هيئة الأسرى تكشف معاناة الصحفي ناصر اللحام داخل المعتقل


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - عدنان يوسف رجيب - قصة نبيل وأخر رذيل