حسين سميسم
الحوار المتمدن-العدد: 8397 - 2025 / 7 / 8 - 02:52
المحور:
الادب والفن
أصدر الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق رواية بعنوان (قافز الموانع للكاتب المبدع سلام حربة)، وهي رواية ركزت على ترابط ظواهر الحملة الايمانية واستمرارها بعد سقوط نظام صدام عام 2003، فقد راقب الكاتب المتغيرات النوعية الحاصلة خلال تلك الفترة ومازالت عواقبها حية ناشطة لغاية هذا الوقت، فهي ظواهر تجذرت في الوعي العام مسنودة باللاوعي وبالمال والسلاح، وقد عودنا سلام حربة على تأسيس أسلاك كهربائية غير معزولة بين سطور روايته تصعق القارئ لتعيد إليه التفكير بتلك الظواهر والخرافات والأوهام المصنوعة التي بدت في سياقها التاريخي وكأنها طبيعية وختمها الزمن بأختام الأصالة والمنعة، وحازت على مقبولية شعبية مفتوحة على شتى الفلسفات والعقائد، وهي تعيد صياغة الحكايا القديمة والمعاجز والكرامات بطريقة جديدة ملموسة، يستطيع بها الحكاؤون من ممارسة الحرية التامة لوضع ذخيرتهم الذهنية في هذا الإطار الجديد، فقد مل الناس من اللغة القديمة للأساطير والحكايات! وهاهي أمامهم تجارب حية ملموسة توقد خيالاتهم بأنوار ترافقهم في صحوهم واحلامهم !.
عمل الكاتب في رواية(قافزا لموانع)على ترميز أسماء أبطاله بأسماء دالة، فأعطى اسم علاء لبطل الرواية وربطه بمعاني الرفعة والسمو والشرف، وخص والده فاضل بالعفة والطهارة، وأصبح الناس ينعتونه بالخّير، وهي كلمة ليست لها علاقة بالدين بل بالاخلاق وبالطهارة والامانة، وقد اضمحلت هذه الكلمة، وسيطرت عليها طرق التدين الجديدة، وحلت محلها كلمة (المتدين) التي تشير الى التدين القشري الخارجي، كما اكتسب اسم جده معيوف، وطراد، وعمه ناصر معاني خاصة في سياق الرواية، وهو العم الذي ينتصر في النهاية على الرفعة والشرف رغم ماضيه غير المشرف، فهو لص وفاسد ونزيل السجون ..
بدأ الكاتب بإحاطة(علاء)بطل الرواية بمجموعة من المشاكل الشخصية والعوامل السلبية المثبطة، فعمه الأكبر ناصر لص ومحتال(طأطأ رؤوسهم في الطين)، واخوه باسم الذي خلقه الله بصفات يندى لها الجبين، فهو خنثى ويخجل منه كل أفراد العائلة، كما اضافت الموجة العشائرية التي مثلت أول تراجع اجتماعي كبير بعد التراجع السياسي في تسعينيات القرن الماضي، حيث طردتهم هذه الحملة العشائرية من مساحة اجتماعية كانوا يعيشون بها بأمان منذ حوالي اربعة قرون، وقامت هذه الموجة العشائرية التي ارتبطت بالبرنامج المخابراتي والسياسي للدولة بشطب النظام العشائري الطبيعي المتوارث الخالي من تلك الإضافات، وأحلت محله شيوخ مجالس الاسناد، وشيوخ الفصول، وشيوخ هدايا الرئيس القائد ورواتبه، واشاعت ظاهرة شيوخ المقاهي، وانتشر لقب(شيخ العموم)حتى على الفرد الذي لا يتجاوز عدد أتباعه عدد أصابع اليد الواحدة، وفرخت هذه الترتيبة العشائرية المصطنعة(الشيوخ النسابة)الذين يتعاملون بالمال من اجل كتابة الأنساب العشائرية المصطنعة في الغالب، التي تعطي حاملها الأصل العشائري العربي الرصين والحماية المجتمعية، والفخر بذلك الماضي والمباهاة به، وتسمح لحامله في إيجاد مساحة نفسية وثقافية تسنده وتربطه مع باقي العشائر الأخرى، وكلما تركت الدولة فراغا في سيطرتها تمكنت العشائر من ملئ هذا الفراغ، وقامت بدور البديل للحكومة والقضاء، وشاعت تجارة رسم شجرة العائلة التي تختم بختم شيوخ النسابة، وأصبح لهم موقع اجتماعي وتشريعي معروف .
لعبت هذه الإمارات العشائرية في عزل الضعفاء، وحصار مَنْ لم يبادر في الوقت المناسب في شراء نسب له، وأدى ذلك الى صعوبة زواج الاب فاضل، وفشل زواج علاء من جميلة ابنة مختار المحلة (الشيخ جودي)، رغما عن سمعة علاء الطيبة، فهو أستاذ مادة التاريخ في الثانوية حيث انتشر طلابه في أنحاء المدينة حاملين معهم سمعته الحسنة .
لقد شعر العم ناصر بمتطلبات مرحلة الحصار للخروج من صعوباتها في تسعينيات القرن الماضي، واستلهم تجارب الفساد والسرقة المتزاوجة مع ثقافة السجون لينطلق في جمع أسباب النجاح . لم يذكر الكاتب شيئا عن نشاط عمه قبل سقوط النظام، لكن تصرفاته اللاحقة وشت به، فقد بدأ النظام السابق بالحملة الإيمانية التي تجاوب معها الكثير من اصحاب السوابق، و تدربوا على الخطابة وحفظ بعض الآيات القرآنية واتقان المقدمة والخاتمة، ولا يهم مضمون مايقال، لان المهمة هي تحييد الناس، وربطهم بالسماء عن طريق استخدام الكلام البليغ والفهلوة لكي يرفعوا أيديهم بالتسبيح لاستدرار عواطفهم وإفراغ جيوبهم وعقولهم فيما بعد .
ابدع العم ناصر في جمع عدة المهنة الدينية ومقتضياتها، فقد أعاد بناء بيته وكساه بطابع ديني مناسب، وحوله الى مزار يؤمه الناس من جميع المحافظات، ونصب موائد للعامة، وهم جنود مستقبله وقوته الضاربة، واستطاع تغيير اسمه من(ناصر)الى(المبروك)، واحضر شجرة للعائلة التي تربطه بآل البيت، واصبح الخطيب المفوه الذي أقنع الحاضرين ببركته وقداسته، ولم ينس أن يغري علاء برشوة كان بامس الحاجة اليها، واصبح (باسم) سيدا بعمامة سوداء تحمل من القداسة الكثير، والتجأ العم ناصر الى فكرة الغيبة عن الناس لحملهم على التفكير بالغيب والمعاجز التي تسكن وتختفي في المستحيلات، فهو في البيت لكن روحه الشفافة سوف تملأ ذلك البيت وتراقب المقلدين وتحصي عليهم ذنوبهم واخطاءهم، وهي تذكرنا بغيبة الحاكم بأمر الله الفاطمي عام 411 هج، والغيبات العديدة التي تشيع الحيرة بين أوساط المقلدين .
نسى علاء في غمرة صراعه مع تلك الظواهر خسائره الشخصية مع عمه واخيه، كان قد عانى من سمعتهما السيئة، فقد كان الأول لصا والثاني مخنثا، كما خسرت عائلته حصتهم من بيت الجد عن طريق تزوير المستندات بطرق شتى، وادعى تنازل الجد عن حقوق الملكية لصالح العم ناصر، ولم يولي علاء تلك الأمور اهمية كبرى، بل ركز على افشال التدين الكاذب للعم والاخ وانتحالهما الصفات الدينية، واتخذ طريقة فضح وافشاء الاسم الحقيقي ل(المبارك)، وهو الاسم المدعى وغير الحقيقي للعم ناصر، ولجأ الى التذكير بماضيهما غير المشرف، كما قام شخصيا بالكشف عن حقيقة الغيبة التي ادعاها، فبحث عنه وكشفه قابعا في السرداب الخفي للبيت، كما باشر في جمع الدلائل عن اصل العائلة، فخاطر في الذهاب الى النسابة ابراهيم الساقي في الانبار، وناقشه عن خطأ انتساب العائلة ليحيى بن زيد الشهيد، لان يحيى المتوفى عام 126 هج قد قتل وعمره ثمانية عشر عاما وليس له اولاد، وكان صاحب الشأن (علاء)مدرسا لمادة التاريخ ويستطيع كشف خطأ رواية ابراهيم الساقي، واستطاع في هذه العملية من كشف حرفة النسابة الوهمية، وذهب كذلك الى تركيا للحصول على وثيقة رسمية عن اصل العائلة التي جاءت عام 1553 مع حملة سليمان القانون الى العراق، ومن ذلك الحين سكنت هذه العائلة العراق واندمجت مع المجتمع، ومجرد ان اعلن عن النسب الحقيقي الموثق على باب بيته سارع العم والاخ الى اغتيال (علاء)وشنقه امام بيته في عملية تذكرنا باساليب النظام السابق وتوحي بالتشابه مع افعال النظام السابق، وهي عملية تشير الى ترابط ماحصل بعد التغيير مع الحملة الايمانية وتتويجا لمضمونها .
استطاع الكاتب الكشف عن انتهازية النظام العشائري الجديد من خلال ابراز سهولة تبعية (جودي) للعم (ناصر) مع معرفته بتاريخه المشين، واوضح بأن النظام العشائري المتربع على المال والسياسة ينتج مثل هذه التبعية، وبيّن بأن شيخ العشيرة الجديد لايستند الى التراث العشائري القديم الذي ظهر إبان ثورة العشرين مثلا، وذلك نظام يتمتع بأخلاق الشهامة والرجولة، ولا يمكن لشيخ العشيرة ان يشترى بالمال ويصبح ذيلا له كما فعل (جودي) الذي مشى ذليلا خلف العم (ناصر) .
وتنبه علاء الى جوهر التدين الجديد الذي لم يرث من التدين القديم إلا شكله، فقدكان التدين المتوارث أشبه بعباءة واسعة تحتمي بها العائلة والمجتمع، مفعمة بالحنين والرضا، لا تُفتش في النوايا ولا تُحاكم التفاصيل. وكانت طقوسه امتدادًا للحياة، تُمارس بعفوية وتسامح. أما التدين الطقوسي الجديد، فغالبًا ما يتجلى في برد الطقوس الخالية من الروح والمعنى المشترك، حيث تُؤدى الشعائر بأهداف ربحية وسياسية، وكأنها غايات في ذاتها، لا وسائط للسمو الروحي أو التآلف الاجتماعي. إنه تدين يعلي من الشكل على الروح، ومن الالتزام الظاهري على الانتماء الوجداني، فيخلق بذلك شعورًا بالفرقة بدل الأُلفة، وبالقوة بدل الرحمة، هذا التدين الذي يقبل اللص والفاسد والمخنث، ويجعلهم على رأس المؤسسة الدينية، ظل(علاء)يدعو للرجوع إلى التدين القديم الذي شوهه هؤلاء، وتكررت تعبيراته في الرواية مثل( ما أرمي إليه هو المحافظة على ديني )ورفض انتساب( مقطوعي النسب والفاسدين وأصحاب التاريخ الوسخ والأقوام الغريبة التي لم تعرف الإسلام إلا من عهد قريب)(ص198) وكررها في ص 242(لن اسكت، خوفي على وطني وديني من الفاسدين والمنافقين ). وتتعاظم حبكة الرواية عندما تجد بأن (علاء) اليساري الذي يشرب الخمر وغير المتدين يحترم الدين عكس أصحاب التدين الجديد ويدافع عنه، نظرا لزيادة بدع التدين الزائف وغرائبيته، وهو أمر لمسه عدد من المثقفين في الفترة الأخيرة، فقد تجد مقالة كتبها أحد اليساريين بعنوان(دفاعا عن السيد السيستاني )تنشرها جريدة (طريق الشعب) خلال مناقشة البرلمان لقانون الأحوال الشخصية، وبين الكاتب في سياق الرواية بأن هذا التدين الزائف هو عدو للدين والمجتمع .
ان حبكة الرواية متينة ومحكمة البناء، استطاع المؤلف فيها ان يجمع شتى المتناقضات تتصارع أمام القارئ في واقع مرئي ومعروف، ويؤدي في النهاية إلى التفكير المستفيض، ويحرض القارئ على إيجاد حلول لمختلف المشاكل المطروحة، وساعدت الكاتب في ذلك جمال اللغة، والتوقف عند هذه الجمالية وقتا يسمح للقارئ بالتفكير والهدوء هنيهة من التوتر الذي يصاحب المعركة الناشبة بين الفكر والخرافة.
ويبرز الى الواجهة في سياق الرواية العمل الفردي الذي قام به (علاء) وكأنها مغامرة فردية غير محسوبة النتائج وانتهت بمقتله، فلم يشرك بها محيطه البشري، ولا تلاميذ مدرسته، حتى ان عائلته هربت من هذه المواجهة غير العادلة وتنبأت بنتائجها، وهو أمر يزكيه الواقع . كما أن اسم( قافز الموانع )لا يدل على وقائع الرواية، ولا يعكس سيرها، فلم يترك (علاء) شأنا قفز علية، بل ساهم في تحطيم أسس تلك الظواهر مضحيا بنفسه، ويمكن أن يصدق العنوان( قافز الموانع) على أمر هو خارج الرواية، كأن يكون الكاتب قد قفز على بعض المحرمات المانعة من الكتابة، وبنى له موقعا صغيرا من الحرية، استطاع به البوح بتلك المواضيع المغلفة بالكفر والخطوط الحمراء.
الرواية جميلة وهي ليست سردا للأحداث، بل عمل ادبي ينسج الواقع بخيوط من الجمال اللغوي والعمق الإنساني، وهي فرصة للتفكير والتأمل، كما أن الكاتب كان في هذه الرواية مهندسا للمشاعر، ويجيد اللعب على أوتار العاطفة والعقل معا
#حسين_سميسم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟