أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك بارودي - الشيخ المولدي بودجاجة (قصة قصيرة)















المزيد.....

الشيخ المولدي بودجاجة (قصة قصيرة)


مالك بارودي

الحوار المتمدن-العدد: 8391 - 2025 / 7 / 2 - 18:12
المحور: الادب والفن
    


الشيخ المولدي بودجاجة
.
في زحمة تونس العاصمة عام 2013، حيث كانت شوارع الحبيب بورقيبة تعجّ بأصداء فوضى لم تخمد بعد، وحيث كانت جدران المدينة تحكي قصص آمالٍ عريضة وخيباتٍ متتالية، برزت شخصيةٌ غريبة الأطوار، تحمل في طياتها تناقضات ذلك الزمن المضطرب. إنه "الشيخ أبو القعقاع"، الاسم الذي اختاره لنفسه مؤخرًا، لكن أهل الحارة وأصحاب السوابق كانوا يعرفونه جيدًا باسمه الحقيقي "المولدي عطية"، أو الأدهى من ذلك، بلقبه الذي لا يفارقه: "بودجاجة".
كان المولدي، أو بودجاجة، نموذجًا حيًا للمجرم الانتهازي الوصولي. لم يكن لديه مبادئ ثابتة، بل بوصلته الوحيدة كانت دائمًا تشير نحو المصلحة الشخصية والمنفعة الآنية. نشأ في دروب الفقر، وتعلم في مدارس الشارع فنون السرقة والاحتيال. لم يكن لصًا بارعًا، بل كان غالبًا ما يقع في الأخطاء التي تفضحه. من هنا جاء لقبه "بودجاجة"، وهي حادثةٌ لا يزال يتذكرها جيرانه بابتسامةٍ ساخرة. ففي ليلةٍ باردة من ليالي الشتاء، تسلل المولدي إلى حظيرةٍ للدجاج، وفي غمرة محاولته البائسة لسرقة دجاجةٍ سمينة، قبض عليه صاحب الحظيرة متلبسًا. كانت تلك الحادثة نقطة تحول في حياته، لا ليرتدع عن السرقة، بل ليصبح لقب "بودجاجة" وصمة عارٍ تلازمه، أو ربما، علامةً فارقةً في مسيرة وصوليته.
مع انتصار حركة النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وتغير المشهد السياسي في البلاد، أدرك المولدي أن رياح التغيير تهبّ في اتجاهٍ جديد. لم يضيّع وقتًا. ففي غضون أيام قليلة، اختفى "بودجاجة" القديم، وظهر "الشيخ أبو القعقاع" بقميصه الفضفاض ولحيته الكثة التي نمت بسرعةٍ مذهلة، وكأنها نبتت بين عشية وضحاها. أصبح يرتاد المساجد، ويتصدر الصفوف الأولى في الصلوات، ويحشر الألفاظ الدينية في كل جملةٍ ينطق بها، وإن كانت كلماته تفتقر إلى أي عمقٍ ديني حقيقي. كان يتحدث عن "الشورى" و"أخلاق الإسلام" و"الصحابة الكرام" بلكنةٍ مضحكة، محاولًا إضفاء هالةٍ من الوقار والتدين على شخصيته الجديدة.
كانت هذه التحولات الظاهرية كافية ليحظى المولدي بنوعٍ من القبول في الأوساط الجديدة التي انضم إليها. لم يكن يهتم بالفهم الحقيقي للدين، بل كان يرى فيه سلّمًا آخر للصعود، وقناعًا يستر خلفه ماضيه الملطخ بالسرقات والانتهازية. كان يدافع عن "الإخوانجية" بضراوةٍ، يصفهم بأنهم "أهل الإيمان" و"حماة الدين"، بينما كان في قرارة نفسه يرى فيهم مجرد أداة لتحقيق طموحاته الشخصية.
كان طموح "الشيخ أبو القعقاع" يتجاوز بكثير مجرد الانتماء إلى هذا التيار أو ذاك. كانت عيناه تتجهان نحو البرلمان، نحو قبة المجلس الوطني التأسيسي. كان يرى في نفسه قائدًا، أو على الأقل، عضوًا مؤثرًا. كان يردد أمام أتباعه القلائل، الذين جمعهم حوله ببعض الوعود المعسولة والخطب الرنانة، جملةً تعكس مدى ضحالة فكره وعظمة طموحه في آنٍ واحد: "عندما أرى أعضاء المجلس الوطني التأسيسي الحالي، أشعر بالثقة وبأني يمكن أن أكون رئيسًا للجمهورية. ولكنني سأكتفي بالمجلس الوطني التأسيسي كبداية". كانت هذه الجملة تثير الضحك في نفوس البعض، والاشمئزاز في نفوس البعض الآخر، لكنها كانت تعكس بدقة شخصية المولدي: وصوليٌ لا يرى في السياسة سوى وسيلة للارتقاء الاجتماعي والمادي.
لم يكن المولدي يحفظ من القرآن الكريم إلا السور القصيرة، وتلك التي سمعها كثيرًا في خطب الجمعة. كانت قراءته للقرآن ركيكة، وتجويده أقرب إلى التلحين منه إلى الترتيل. ومع ذلك، كان يصر على تلاوة بعض الآيات في المجالس التي يحضرها، مستخدمًا نبرة صوتٍ مصطنعة محاولًا بها تقليد المشايخ المعروفين. كان هذا التناقض بين مظهره وواقع معرفته يثير سخرية كل من يعرف ماضيه، ولكنه كان ينطلي على السذج وبعض المتعاطفين الجدد مع التيار الديني.
كانت تونس في تلك الفترة تعيش مخاضًا عسيرًا. مظاهراتٌ تندلع هنا وهناك، اغتيالاتٌ سياسية تهزّ البلاد، واقتصادٌ يعاني من الركود. وفي خضم هذا الاضطراب، كان "الشيخ أبو القعقاع" يرى فرصته الذهبية. كان يتغذى على الفوضى، ويصطاد في المياه العكرة. كان يرى أن الوضع الحالي هو أفضل تربة لنمو طموحاته. كلما ازداد الوضع سوءًا، كلما ازداد إيمانه بقدرته على الصعود. "البلاد تحتاج إلى قادة، إلى رجال يخشون الله"، كان يقولها بصلف، وهو الذي لم يكن يخشى شيئًا سوى الفقر والعودة إلى ماضيه المظلم.
بدأ المولدي في إعداد نفسه للانتخابات البرلمانية القادمة. كان يعلم أن الأمر يتطلب أكثر من مجرد لحيةٍ طويلة وعباراتٍ دينية. بدأ في جمع التبرعات، مستغلًا سذاجة بعض المتبرعين الذين كانوا يرون فيه "رجلًا صالحًا" يسعى لخدمة الدين والوطن. كان يتحدث في كل مكان عن "مناهج الإصلاح" و"تطبيق الشريعة"، بينما كان في الواقع يبحث عن طريقة لضمان مقعدٍ في البرلمان، ليتمتع بالحصانة والامتيازات التي تتبعها.
في إحدى ليالي الصيف الحارة، بينما كان المولدي جالسًا في مقهى شعبي يرتاده، يتحدث بصوتٍ عالٍ عن "مؤامرات العلمانيين" و"ضرورة التصدي لأعداء الإسلام"، مرّ به أحد جيرانه القدامى، الحاج عثمان، الذي كان يعرف المولدي منذ صغره، ويعرف كل صغيرة وكبيرة عن "بودجاجة". ابتسم الحاج عثمان ابتسامةً عريضةً ساخرة، ونادى المولدي بصوتٍ مرتفع: "يا بودجاجة! هل ستترشح للانتخابات بقميصك الجديد ولحيتك الطويلة؟ هل ستحدثنا عن الدجاج والسرقات هذه المرة؟"
تغير وجه المولدي على الفور. فقد احمرّ غضبًا، وتشنجت عضلات وجهه. حاول أن يتمالك نفسه، وأجاب بصوتٍ خفيض، محاولًا التظاهر بالوقار: "يا حاج عثمان، هذه أيامٌ مضت، وقد تبت إلى الله. أنا الآن خادمٌ لدين الله". لكن الحاج عثمان لم يقتنع، واستمر في سخريته: "خدمة الدين يا بودجاجة؟ كنت تسرق الدجاج وتبيعها في السوق السوداء. والآن أصبحت شيخًا؟ عجيبٌ أمرك يا مولدي".
شعر المولدي بالإهانة الشديدة، لكنه أدرك أنه لا يستطيع أن يثير ضجة في هذا المكان المكتظ بالناس. لذلك، اكتفى بنظرة حقدٍ ألقاها على الحاج عثمان، ونهض مسرعًا ليغادر المقهى. كانت كلمات الحاج عثمان كافية لتذكره بماضيه، وأن مهما حاول تغيير مظهره، فإن جوهره يظل كما هو.
ومع اقتراب موعد الانتخابات، كان المولدي يزداد حماسًا وثقةً. كان يرى في نفسه مرشحًا قويًا، قادرًا على جذب أصوات الناخبين البسطاء الذين تأثروا بخطابه الديني الزائف. كان يرى في السياسة لعبة يمكن أن يفوز بها الأذكى والأكثر انتهازية. لم يكن يؤمن حقًا بأي مبادئ، بل كان يؤمن فقط بقدرته على التلون والتكيف مع الظروف.
في أحد التجمعات الانتخابية، صعد المولدي إلى المنصة، وألقى خطابًا ناريًا مليئًا بالكلمات الدينية والمفاهيم الفضفاضة. تحدث عن "العدالة الاجتماعية" و"محاربة الفساد" و"بناء تونس جديدة على أسس الإسلام". كان الجمهور يصفق له بحماس، وخاصة أولئك الذين لم يكونوا يعرفون ماضيه. كان المولدي يرى في أعينهم تصديقًا لأكاذيبه، وهذا ما كان يغذّي غروره ويزيد من ثقته الزائفة.
لكن في أعماق نفسه، كان المولدي يعلم أنه مجرد فقاعة. كان يعلم أن قشرته الدينية هشة، وأن ماضيه يمكن أن ينكشف في أي لحظة. كان يعلم أنه لا يمتلك أي مؤهلات حقيقية لقيادة البلاد، وأنه مجرد انتهازي يبحث عن فرصة للارتقاء على أكتاف الآخرين.
وهكذا، في تونس العاصمة عام 2013، استمرت قصة "الشيخ أبو القعقاع"، أو "بودجاجة"، كرمزٍ لزمنٍ مضطرب، حيث تتداخل فيه الأقنعة مع الوجوه الحقيقية، وحيث يمكن للمجرم الانتهازي أن يتحول إلى "شيخ" يبحث عن مقعدٍ في البرلمان. فهل سينجح المولدي في مسعاه، أم أن حبل الكذب قصير، وسينكشف زيفه يومًا ما؟ هذا ما ستكشفه الأيام، في بلدٍ لا يزال يبحث عن هويته الحقيقية بين ركام الماضي وأشلاء الحاضر.
.



#مالك_بارودي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نورس وعباءة النفاق والتخلف (قصة قصيرة)
- الماضي (شعر)
- ندم (شعر)
- حلم (شعر)
- أينكِ؟ (شعر)
- فوضى (شعر)
- أنت الحياة... (شعر)
- قصّة أخرى (شعر)
- هوسٌ (شعر)
- عمقٌ (شعر)
- عطرها (شعر)
- نحن؟ (شعر)
- كلام (شعر)
- طواحين (شعر)
- جسدي (شعر)
- أضواء المدينة (شعر)
- هذه الحياة... (شعر)
- من قصص العرش: ما بُني على باطل... )(مسرح)
- الرسائل الليلية (قصة قصيرة)
- الأمنية الأخيرة (قصة قصيرة)


المزيد.....




- الناقد ليث الرواجفة: كيف تعيد -شعرية النسق الدميم- تشكيل الج ...
- تقنيات المستقبل تغزو صناعات السيارات والسينما واللياقة البدن ...
- اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة يحتفيان بالشاعر والمترجم الكبير ...
- كيف كانت رائحة روما القديمة؟ رحلة عبر تاريخ الحواس
- منع إيما واتسون نجمة سلسلة أفلام -هاري بوتر- من القيادة لـ6 ...
- بعد اعتزالها الغناء وارتدائها الحجاب…مدحت العدل يثير جدلا بت ...
- ترشيح المخرج رون هوارد لجائزة -إيمي- لأول مرة في فئة التمثيل ...
- توم هولاند -متحمس للغاية- لفيلم -Spider-Man 4-.. إليكم السبب ...
- 100 فيلم لا تُنسى.. اختيارات نيويورك تايمز لسينما الألفية ال ...
- الحكم على ثلاثة بالسجن لمساعدتهم في جريمة قتل مغني الراب سي ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك بارودي - الشيخ المولدي بودجاجة (قصة قصيرة)