أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك بارودي - نورس وعباءة النفاق والتخلف (قصة قصيرة)















المزيد.....

نورس وعباءة النفاق والتخلف (قصة قصيرة)


مالك بارودي

الحوار المتمدن-العدد: 8391 - 2025 / 7 / 2 - 09:19
المحور: الادب والفن
    


نورس وعباءة النفاق والتخلف
.
تونس العاصمة، ربيع 2013. كانت الشمس الحارقة تصبغ شوارع المدينة بلون برتقالي شاحب، وتلقي بظلال طويلة على المباني ذات الطراز المعماري العثماني والفرنسي. لكن داخل أسوار معهد "المعرفة"، كان الظلام أكثر كثافة من مجرد ظلال المساء. نورس الحمامي، ابنة مدينة طبرقة ذات الثلاثين ربيعاً، كانت تحمل في قلبها نوراً أرادت أن تبثه في أرواح تلاميذها. كانت عيناها اللامعتان، اللتان اعتادتا رؤية زرقة بحر طبرقة الصافي، تعكسان الآن مرارة واقعٍ لم تتوقعه يوماً.
جاءت نورس إلى العاصمة بعد ثورة جانفي 2011، تلك الثورة التي شاركت فيها بقلبٍ يشتعل حماساً، مرددةً هتافات الحرية والكرامة. رأت في سقوط نظام بن علي فجراً جديداً لتونس، فجراً يحمل وعوداً بالتقدم والعدالة. لكن بعد عامين ونصف، بدت الوعود وكأنها تبخرت في هواء تونس الساخن، ليحل محلها غبار الماضي الذي بدأ يزحف ببطء، ويغطي كل زاوية من زوايا الحياة.
كانت نورس معلمة للغة العربية، شغوفة بلغتها وتراثها، لكنها كانت تؤمن بأن التراث يجب أن يكون جسراً نحو المستقبل، لا قيداً يجذبنا إلى الوراء. في فصلها، كانت تحاول أن تغرس في نفوس تلاميذها اليائسين بذور الأمل والمعرفة. "الأمل يا أطفال هو وقود الحياة، والمعرفة هي مصباح ينير لنا الطريق"، كانت تقول لهم بصوتها الهادئ الذي يحمل نبرة من الثقة. كانت ترسم لهم صوراً لمستقبل أفضل، مستقبل تكون فيه تونس منارة للعلم والحضارة، لا مكاناً للخوف والظلام.
لكن الواقع خارج أسوار فصلها كان مختلفاً تماماً. المعهد الذي كان يوماً رمزاً للتعليم الحديث، تحول إلى ساحة معركة ثقافية. زميلاتها، اللاتي كن يوماً يرتدين أحدث الأزياء ويناقشن قضايا الفن والأدب، تحولن الآن إلى نسخ متشابهة، يرتدين الحجاب الذي يغطي شعورهن بالكامل، وبعضهن يضفن إليه النقاب. كانت التغييرات تدريجية في البداية، ثم أصبحت سريعة ومفاجئة، كأن عدوى أصابت المعهد كله.
"يا نورس، ألا تفكرين في ارتداء الحجاب؟ إنه واجب ديني، كما أننا في مجتمع مسلم"، قالت لها زميلتها نادية ذات يوم، من خلف نقابها الذي كانت قد ارتدته مؤخراً.
نظرت نورس إليها بعينيها الواسعتين. "نادية، متى أصبح الدين يقاس بقطعة قماش؟ وهل تذكرين أننا في دولة مدنية؟"
"لا يا نورس، نحن في دولة إسلامية الآن. هذا ما تريده الأغلبية، وهذا ما يفرضه ديننا"، أجابت نادية بصوتٍ بدا وكأنه يحمل نبرة انتصار خفي.
لم تكن نادية الوحيدة. كانت كل زميلات نورس، واحدة تلو الأخرى، يستسلمن لهذا التيار الجارف. كن يمارسن عليها ضغوطاً يومية، تارة بالنصح المبطن، وتارة بالتوبيخ العلني. "أنتِ قدوة للتلاميذ يا نورس، ألا تخافين من أن تكوني سبباً في ضلالهم؟" كانت جملة تتكرر على مسامعها باستمرار.
لم تكن الضغوط تتوقف عند زميلاتها. مدير المعهد، السيد فتحي، الذي كان ينتمي إلى التيار الإسلامي الصاعد، كان يشارك في هذا الحصار الممنهج وهذه الهرسلة المستمرة. كان رجلاً ذا لحية كثيفة، وعينين لا تفارقانهما نظرات الشك والريبة. كان يتعامل مع نورس ببرود وازدراء، ويستغل كل فرصة لتذكيرها بـ"مكانتها" كمعلمة "متمردة" على قيم المجتمع.
ذات صباح، دخل السيد فتحي فصل نورس دون استئذان، وهو يحمل في يده ورقة. "الآنسة نورس، هذه شكوى مقدمة ضدك من قبل بعض أولياء الأمور. يزعمون أنكِ تروجين لأفكار علمانية لا تتوافق مع قيم مجتمعنا."
نظرت نورس إليه بدهشة. "أفكار علمانية؟ أنا أعلم الأطفال القراءة والكتابة، وأغرس فيهم حب وطنهم وتراثهم. هل أصبح حب الوطن علمانية؟ وما العيب في العلمانية أصلا؟"
"بل أنتِ تحاربين الهوية الإسلامية للمجتمع، ترفضين الحجاب، وتشككين في ثوابت الدين. هذا ما يقوله أولياء الأمور"، قال السيد فتحي بصوت خفيض، كأنه يلقي حكماً قضائياً. "عليك أن تعدلي سلوكك، وإلا فإنني سأضطر لاتخاذ إجراءات تأديبية."
كانت هذه الحادثة نقطة تحول لنورس. شعرت بالغضب يغلي في عروقها. هل هذه هي تونس التي حلمت بها؟ هل هذا هو التغيير الذي ضحت من أجله؟ كانت ترى تونس وهي تسقط في هوة سحيقة، هوة الجهل والتطرف. كان الدين، الذي من المفترض أن يكون مصدراً للرحمة والتسامح، قد تحول إلى أداة للقمع والتمييز.
في غرفة المعلمات، كانت نادية وزميلتان أخريان تتحدثن بصوت خافت، لكن نورس سمعت إحداهن تقول: "لا أدري لماذا لا ترتدي الحجاب وتنهي هذه المشكلة. إنها تعقد الأمور على نفسها."
لم تستطع نورس أن تتمالك نفسها. رفعت صوتها وقالت: "أي مشكلة تتحدثن عنها؟ مشكلة حريتي؟ مشكلة كرامتي؟"
التفتت إليها نادية وقالت بنبرة هادئة زائفة: "يا نورس، إنها ليست مشكلة. إنها مجرد واجب ديني. لماذا تصرين على التمرد؟"
في تلك اللحظة، طفح الكيل بنورس. كانت قد تحملت الكثير، لكن هذه الكلمات كانت القشة التي قصمت ظهر البعير. وقفت أمام نادية وزميلاتها، وعيناها تشتعلان غضباً، وقالت بصوت عالٍ وواضح، كأنها تلقي بياناً لا رجعة فيه:
"الدين الذي يُقاس بطول اللحية ودرجة تغطية المرأة وثقافة القطيع لا يستحق إلا الاحتقار!"
ساد الصمت الغرفة. لم تتوقع زميلاتها أن تصل نورس إلى هذا الحد من الصراحة والجرأة. كانت كلمات نورس كصفعة على وجوههن، كشفت عن زيف ادعاءاتهن بالورع والتقوى.
نظرت نورس إليهن واحدة تلو الأخرى، ثم أخذت حقيبتها وخرجت من الغرفة، تاركة وراءها صمتاً ثقيلاً مليئاً بالأسئلة التي لم تجرؤ واحدة منهن على طرحها.
في طريق عودتها إلى المنزل، كانت نورس تشعر بمرارة لاذعة. لم تكن هذه هي تونس التي حلمت بها، ولا الثورة التي شاركت فيها. كانت تشعر بأنها غريبة في وطنها، وأن حلم الحرية الذي قاتلت من أجله قد سرق منها. لكنها لم تستسلم. كانت تعرف أن المعركة لم تنته بعد. كانت تؤمن بأن النور لا يمكن أن ينطفئ إلى الأبد، وأن الأمل، مهما كان خافتاً، سيظل موجوداً.
في اليوم التالي، دخلت نورس فصلها كالمعتاد. جلست أمام تلاميذها الصغار، الذين كانوا ينظرون إليها بعيون بريئة، تنتظر منها أن تضيء عقولهم ببريق المعرفة. بدأت الدرس كالمعتاد، ولكن هذه المرة، كان هناك شيء مختلف في صوتها. كان هناك تصميم أعمق، وقوة أكبر. كانت تعرف أن عليها أن تكون الصوت الذي يكسر جدار الصمت، وأن تكون الشمعة التي تضيء الظلام.
"يا أطفال"، قالت نورس بصوت قوي، "المعرفة الحقيقية ليست فقط ما نقرأه في الكتب، بل هي أيضاً ما نراه ونفهمه ونشعر به في حياتنا اليومية. هي القدرة على التفكير النقدي، والقدرة على التمييز بين الحق والباطل، بين النور والظلام. لا تدعوا أحداً يملي عليكم ما تفكرون به، أو يحد من حريتكم في التعبير. أنتم مستقبل تونس، وأنتم وحدكم من تستطيعون بناء تونس أفضل."
كانت هذه الكلمات تتجاوز مجرد درس في اللغة العربية. كانت رسالة، كانت نداءً للصحوة، كانت صرخة في وجه الواقع المرير. كانت نورس تدرك أن طريقها سيكون طويلاً وصعباً، وأنها ستواجه الكثير من التحديات. لكنها كانت تؤمن بأن الأمل الحقيقي لا يموت، وأن المعركة من أجل الحرية والكرامة تستحق كل تضحية. وفي عينيها، كانت لا تزال ترى وميض بحر طبرقة الأزرق، يذكرها بأن بعد كل عاصفة، هناك شروق شمس جديد.



#مالك_بارودي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الماضي (شعر)
- ندم (شعر)
- حلم (شعر)
- أينكِ؟ (شعر)
- فوضى (شعر)
- أنت الحياة... (شعر)
- قصّة أخرى (شعر)
- هوسٌ (شعر)
- عمقٌ (شعر)
- عطرها (شعر)
- نحن؟ (شعر)
- كلام (شعر)
- طواحين (شعر)
- جسدي (شعر)
- أضواء المدينة (شعر)
- هذه الحياة... (شعر)
- من قصص العرش: ما بُني على باطل... )(مسرح)
- الرسائل الليلية (قصة قصيرة)
- الأمنية الأخيرة (قصة قصيرة)
- مروى في عالم غريب (قصة قصيرة)


المزيد.....




- الناقد ليث الرواجفة: كيف تعيد -شعرية النسق الدميم- تشكيل الج ...
- تقنيات المستقبل تغزو صناعات السيارات والسينما واللياقة البدن ...
- اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة يحتفيان بالشاعر والمترجم الكبير ...
- كيف كانت رائحة روما القديمة؟ رحلة عبر تاريخ الحواس
- منع إيما واتسون نجمة سلسلة أفلام -هاري بوتر- من القيادة لـ6 ...
- بعد اعتزالها الغناء وارتدائها الحجاب…مدحت العدل يثير جدلا بت ...
- ترشيح المخرج رون هوارد لجائزة -إيمي- لأول مرة في فئة التمثيل ...
- توم هولاند -متحمس للغاية- لفيلم -Spider-Man 4-.. إليكم السبب ...
- 100 فيلم لا تُنسى.. اختيارات نيويورك تايمز لسينما الألفية ال ...
- الحكم على ثلاثة بالسجن لمساعدتهم في جريمة قتل مغني الراب سي ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مالك بارودي - نورس وعباءة النفاق والتخلف (قصة قصيرة)