أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - علاگتين بربع .. ! ( قصة قصيرة )















المزيد.....

علاگتين بربع .. ! ( قصة قصيرة )


جلال الاسدي
(Jalal Al_asady)


الحوار المتمدن-العدد: 8391 - 2025 / 7 / 2 - 08:36
المحور: الادب والفن
    


صباح بعيد من صباحات طبّاخات الرطب اللاهبة ..
كان سوق العشار يتثاءب متكاسلاً في أجواء رطبة ، شديدة القيظ ، تُثير الأعصاب ، وتجعل من التنفس أمراً شاقاً . والناس بملامحهم الفارغة ، منهمكين بإنشغالاتهم اليومية يتحركون فُراداً وجماعات كالنمل في خطوط شبه مستقيمة ، وأطفال صغار يحملون بضاعتهم النائمة على أيديهم ينادون بها غير عابئين البتة بشراسة الجو . تركتُ نفسي تعوم متأنية الى عمق السوق ، تلتهمني الأمواج البشرية المتلاطمة ، وتتقاذفني الأكتاف اللامبالية تكاد تطرحني أرضاً دون أي اعتذار .
رغم أن الحركة قد بدأت تخف تدريجياً وتهدأ ، إلا أن الجهد والظمأ قد أخذا مني غايتهما حتى تلفحت شفتاي . ناديت على طفل يبيع الماء البارد ، وإشتريت ما يلزمني . غسلت وجهي ونحري وكَبَبتُ القليل على رأسي إيقاظاً لما تبقى من طاقتي ، ثم تمضمضت .. بللت ريقي ، وأطفأت ظمأي . تراجع الاجهاد قليلاً ، لكن شيئاً يُشبه الملل تملكني .
لم يسعفني ألم ساقيّ ، و وهن جسدي ، وما أحمله من سنين عمري على مواصلة المشوار ، فعزمت على أن أبحث لي عن لحظة صفاء لا يخدشها شيء ، فانتبذتُ حيزاً صغيراً لأحد الدكاكين المغلقة ، واحتميت بفيئه الشحيح ..
اتكأت على الحائط مهدوداً .. أغمضت عينيّ نصف إغماضة ، فانطفأ كل شيء من حولي ، وعم صمت مهيب لم يخرقه إلا أصداء هسهسات تأتيني من بعيد . تسللت عدوى الهدوء رويداً الى خلايا رأسي ، فأسلمت نفسي الى خدر الراحة اللذيذ .
أخيراً ..
حسمت حيرتي قبل أن تسرقني إغفاءة مفاجئة في فسحة الخلوة الهادئة ، والظل الناعم ، فخطوت أولى خطواتي نحو الفرار من هذا الجحيم المستعر ، وما كدت أُكملها حتى واجهني طفلٌ صغيرٌ في الثامنة ، أو ربما في التاسعة ، من الذين طحنت الحياة طفولتهم ، وصادرت الأيام أحلامهم ..
لم أستغرب وجوده ، فهم كألجراد الجائع يهيمون على وجوههم في الأسواق والطرقات بعيونهم الطفولية الضائعة ، متدفقين من أحشاء الأحياء المنسية ، أو متسربين من المدارس لا يطلبون شيئاً أكثر من فرصة لائقة للحياة ..
بدا الطفل شاحباً هزيلاً ذابلاً .. عيناه فاترتين أذبلهما النعاس والتعب ، وتغوص قدماه الخشنتين في نعلين باليين . وقف صامتاً يتأملني غارقاً في تفاصيل وجهي الجامدة . ربما لاحظ عصبيتي التي كانت في أعلى سقفها ، فلم تخرج من فمه كلمة واحدة ، وحسناً فعل .
في لحظة ما كدت أصرخ فيه أن يبتعد ، لولا ما قرأته في عينيه الزائغتين من نظرة توسل وإنكسار . لم تمضِ سوى لحظات حتى تهادى الى سمعي صوته خفيفاً ناعماً كالحفيف :
— عمي ، علاگة قوية ..
ثم وهو يحاول اغرائي :
— علاگتين بربع ..
وبما أني لم أكن أحمل إلا جسدي ، وكارتون صغير كنت أشد عليه بأصابعي ، صرفته بإشارة فاترة من يدي ، وقلت متململاً :
— روح يا ولد .. الله يرزقك ..
وكعادة الباعة المتجولين في الإلحاح على تصريف بضاعتهم ، ظل نابتاً مثل رمح لا يتزحزح .. ربما لم تكن إشارتي بالحدة التي إعتادها ، أو ربما هذا طبع فيه أن لا يقبل الهزيمة أو التراجع .
حرّك فيّ منظره المؤلم عطفاً مفاجئاً لم أعهده كثيراً في نفسي ، فأصطنعتُ طيبة متكلفة . لم أكن راضياً تماماً عن نفسي ، فلا ذنب للطفل المسكين في حالة الإنزعاج التي كنت أعانيها ، فقلت راسماً على وجهي بشاشة مصطنعة :
— تعال .. خذ هذا الربع .. لا أريد منك شيئاً .. الله يسهل عليك ..
ولدهشتي أبى أن يأخذ الربع .. حكّ رأسه الأشعث قليلاً كأنه يستحضر فكرة في رأسه ، ثم قال بصوت يشبه التمتمة :
— آخذ الربع مقابل علاگتين .. لست شحاذاً ..
لم أصدق ما سمعته من عزيز النفس هذا ..
تناحر في داخلي شعوران .. الضيق والاهتمام ، ثم لسبب لا أعرفه سايرته في الحديث متجاوزاً طبيعتي الصامتة ، فقلت وأنا أبحث عن ابتسامة تنهي اللقاء :
— طيب ، خذ الربع مقابل واحدة ، والأخرى هدية مني .. إتفقنا .. ؟
توقعت أن يقبل هذا العرض ، وينتهي الأمر ، لكنه وقف صامتاً معانداً عصياً على الترويض . هزّ رأسه رافضاً في أدب . فشلت في اخفاء نظرات الاحترام لهذا الطفل ذو المباديء الثابتة ، فانفجرت أحاسيسي على شكل ابتسامة عريضة :
— ها .. ماذا قلت ؟
قال بعفوية طفل دون أن يدرك عمق ما قال :
— الربع مقابل علاگتين .. عَدل .. عمي ..
كنت تحت وقع الدهشة ، وفي لاشعوري وشوشتُ لنفسي بما كان في قلبي :
أي عدل ٍهذا الذي تتحدث عنه بيقين ، يا صغيري ؟ أمن العدل أن تفتح عينيك على عالم يُلقي بك دون ذنب في فم البؤس والضياع ، ويتركك تعيش رتابة التسكع دون سبب .. تلتهم الطرقات روحك ، وتغتال مستقبلك ، وتحيل أمنياتك الصغيرة الى كومة رماد ، وحين تعود الى بيت خاوٍ بلا أب ، لم يورثك إلا اليُتم والآلام ، لن تجد ما تأكله سوى بقايا طعام بارد .. تلتهمه دون مذاق ، وتمضغه دون تلذذ ، كأنه دواء ليبقيك حياً فقط لا غير ، ثم تنكمش داخل فراش كالشوك متوسداً ذراعيك ، غارقاً في نوم بلا أحلام ، وفي الصباح تُنتزع من عزِّ نومتك لتبدأ يوماً آخر تمارس فيه دورة الشقاء والعذاب من جديد ؟!
أخشى ، يا صديقي أنك حينما تكبر ، وتصفو ذاكرتك ، وتفهم مشكلتك الحقيقية مع الحياة ، ستُصدم كما صُدمنا نحن من قبلك بأن العدل هذا ليس سوى وهم .. كذبة جميلة نعوم في زيفها جميعاً بغباء ، ومجرد وعد مرسل لم ولن يتحقق أبداً . قاسٍ حبيبي هذا الكلام عليك ؟ أعرف .. آسف ، لكني أظنه حقيقي ..
لم يبقى أمامي إلا أن أنصاع مستسلماً لإرادة هذا الطفل النظيفة التي لا تعرف الزيف . اعطيته الربع وأخذت العلاگتين رغم انتفاء حاجتي لهما وقلت مازحاً :
— هل يرضيك هذا ؟
هزَّ رأسه موافقاً .. أخذ الربع .. قبّله و وضعه على جبينه ، ثم كرر الحركة بسرعة ثلاث مرات ، وختمها بهمهمات صوفية لم أعرها إهتماماً .
ثم نظر إليّ بعينين مشرقتين كأني منحته ثروة .. أذهلتني قناعته .. هُم هكذا دائماً لا مطالب كبرى لديهم .. يقبلون بالنزر اليسير ، ويفرحون بالسعاده مهما كانت صغيرة .
وضع النقود في جيبه .. مسح وجهه الذي يتصبب عرقاً بكُمه ، ثم اندفع مسرعاً دون أن يلتفت وراءه ، كأنه أهدر معي وقتاً ثميناً عليه أن يعوضه .. تلوى بين المتسوقين كسمكة دائخة في الماء ، وهو يصيح بملء صوته المتعب المبحوح :
— علاگتين بربع ..
ونظراتي الحائرة تلاحقه في ترقب وإعجاب ، وصورته الرثة المؤلمة تملأ أعماقي ، ثم توارى ، هو وصوته نهائياً ، كومضةٍ خاطفة وسط الزِحام والضجيج .. !!

( تمت )



#جلال_الاسدي (هاشتاغ)       Jalal_Al_asady#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المال الحرام .. ! ( قصة قصيرة )
- حب مدفون في العفن .. ! ( قصة قصيرة )
- امرأة من ذلك الزمان .. ! ( قصة قصيرة )
- خرجتْ ولم تعد .. ! ( قصة قصيرة )
- المخاض .. ! ( قصة قصيرة )
- لعنة الموبايل .. ! ( قصة قصيرة )
- المال حين يتكلم .. ! ( قصة قصيرة )
- سرّي الدفين .. ! ( قصة قصيرة )
- هَمْ البنات للممات .. ! ( قصة قصيرة )
- راشيل .. ! ( قصة قصيرة )
- يد القدر الثقيلة .. ! ( قصة قصيرة )
- عامل الزمن .. ! ( قصة قصيرة )
- لا حياة مع زوج خائن .. ! ( قصة قصيرة )
- في حياتنا رجل .. ! ( قصة قصيرة )
- رغبات مكبوتة .. ! ( قصة قصيرة )
- شجاعة نسوان أيام زمان .. ! ( قصة قصيرة )
- أنا .. وأمي الخائنة .. ! ( قصة قصيرة )
- لعنة عناق .. ! ( قصة قصيرة )
- نحن مسلمون .. ! ( قصة قصيرة )
- البحث عن مكان في الحياة .. ! ( قصة قصيرة )


المزيد.....




- شاهد فنانة إيرانية توظّف الفن لخدمة البيئة والتعايش
- إسرائيل تحتفي بـ-إنجازات- الدفاع الجوي في وجه إيران.. وتقاري ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- المقاطعة، من ردّة الفعل إلى ثقافة التعوّد، سلاحنا الشعبي في ...
- لوحة فنية قابلة للأكل...زائر يتناول -الموزة المليونية- للفنا ...
- إيشيتا تشاكرابورتي: من قيود الطفولة في الهند إلى الريادة الف ...
- فرقة موسيقية بريطانية تؤسس شبكة تضامن للفنانين الداعمين لغزة ...
- رحيل المفكر السوداني جعفر شيخ إدريس الذي بنى جسرًا بين الأصا ...
- -ميتا- تعتذر عن ترجمة آلية خاطئة أعلنت وفاة مسؤول هندي
- في قرار مفاجئ.. وزارة الزراعة الأمريكية تفصل 70 باحثًا أجنبي ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - جلال الاسدي - علاگتين بربع .. ! ( قصة قصيرة )