جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)
الحوار المتمدن-العدد: 8384 - 2025 / 6 / 25 - 09:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بدأتُ مقالي قبل أسبوع بعبارة شهيرة لسان ـ جوست، أحد أبرز قادة الثورة الفرنسية، مدخلاً لما وصفته بعبرة تاريخية تشير إلى «أن الذين يخوضون في العداوات المسلّحة والمواجهات بطريقة نصفية إزاء من نصبوه عدوّاً مطلقاً لهم وخلقوا لديه بالتالي تصميماً على دحرهم، إنما يتعرّضون للهزيمة» («الحكم الإيراني في ورطة من صنعه»، القدس العربي، 17/6/2025). وقد وصفتُ في المقال بعض نماذج ضعف العزم لدى النظام الإيراني الذي تجلّى وما برح يتجلّى في شتى المناسبات، بتوقفه في منتصف الطريق وبالهوة الكبيرة التي تفصل بين تصريحاته الطنّانة وأفعاله الخافتة في مواجهة الدولتين اللتين نصب لهما عداءً مطلقاً منذ ولادته، ألا وهما أمريكا وإسرائيل، «الشيطان الأكبر» و«الشيطان الأصغر» بالتسميتين اللتين أطلقهما عليهما.
وما أن مرّت أيام قليلة على ذلك المقال حتى رأينا أسطع مثال عمّا وصفنا في سلوك طهران إزاء واشنطن. فبعد أن وعدت «الجمهورية الإسلامية»، لمّا تصاعد التهديد الإسرائيلي إزاءها على خلفية تعسّر المفاوضات بينها وإدارة دونالد ترامب، وعدت بأنها سوف تعتبر أن أمريكا متواطئة في أي عدوان إسرائيلي عليها (وهذه الحقيقة بعينها، مهما كانت أوهام الذين يؤمنون بصدق النوايا السلمية لدى دونالد ترامب) وبأن ردّها سوف يشمل بالتالي المصالح الأمريكية في المنطقة، بعد ذلك الوعيد جاء العدوان الإسرائيلي واستمرّ عشرة أيام دمّرت الدولة الصهيونية خلالها قسماً هاماً من الطاقتين الذرّية والعسكرية الإيرانيتين واغتالت عدداً مذهلاً من قادة «الجمهورية الإسلامية» العسكريين والأمنيين ومن المشرفين على برنامجها النووي. فلم تطلق طهران رصاصة واحدة على أي من القواعد الأمريكية المنتشرة في منطقة الخليج، بل لم تدَع أيا من أعوانها الإقليميين يهجم على هذه القواعد وسواها من رموز الهيمنة الأمريكية في المنطقة أو حتى يهدّدها ـ لا «حزب الله» اللبناني، ولا «الحشد الشعبي» العراقي، ولا حتى «أنصار الله» الحوثيين اليمنيين.
ولمّا أخذ ترامب نفسه يلمّح إلى انضمامه إلى حليفه بنيامين نتنياهو في الانقضاض على المنشآت النووية الإيرانية، مكمّلاً ما بدأه هذا الأخير باستخدام القوات الأمريكية للوسائل التي لا تحوز عليها الدولة الصهيونية (قنابل GBU-57 الموجّهة، التي تزن الواحدة منها أكثر من 12 طنّاً، وطائرات B-2 الخفيّة القادرة على حملها) هدّدت طهران مجدّداً بأن ردّها سوف يكون عظيماً، بل جعلت الحوثيين هذه المرة يعِدون بأنهم سوف يقصفون البواخر الأمريكية في البحر الأحمر في حال اعتدت أمريكا على إيران.
وقد جاء العدوان الأمريكي في ليل الأحد إلى الإثنين، مكمّلاً العدوان الإسرائيلي مثلما كان متوقّعا، فردّت طهران عليه بطريقة خلقت سابقة تاريخية تجلّت في شكر المهجوم عليه للهاجم، أي شكر ترامب للنظام الإيراني على تفضّله بإعطاء سابق إنذار بهجمته الوشيكة، بحيث لم تؤدّ هذه إلى أي ضرر يُذكر في القاعدة الأمريكية المستهدَفة. وبالطبع، تبيّن أن التهديد الحوثي كان بعبعة غير مقرونة بفعل (تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى الشبه المُلفِت بين وقفة المتحدّث العسكري الحوثي ونبرته، ووقفة زملائه الإيرانيين ونبراتهم).
هذا ولا بدّ من ملاحظة الفارق الكبير بين سلوك «الجمهورية الإسلامية» في مرحلتها الأولى، عندما تجلّى عزمها على مواجهة الولايات المتحدة بتسديدها ضربات مؤلمة حقاً للقوة العظمى، بدءاً من محاصرة سفارتها في طهران إثر فوز الثورة الخمينية في عام 1979، وتتويجاً بالاعتداء الفتّاك على قاعدة المارينز في بيروت (241 قتيلاً) في عام 1983، وبين سلوكها في السنوات الأخيرة الذي تجلّى بسكوتها عن الضربات المتلاحقة التي وجهّتها الدولة الصهيونية لقواتها المنتشرة على الأراضي السورية، ثم قيامها بالردّ بعدما طفح الكيل من جراء قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان/ أبريل من العام الماضي، وقتل الدولة الصهيونية لبعض كبار ضباط «الحرس الثوري» الذين كانوا متواجدين في القنصلية. فقد جاء ردّ طهران آنذاك على المنوال الذي شهدناه في هجمة الإثنين على قاعدة العُديد الجوّية على الأراضي القطَرية، إذ أعطت «الجمهورية الإسلامية» واشنطن إنذاراً بهجمتها الوشيكة أبلغت به السلطات القطرية، بحيث لم ينجم عن تلك الهجمة سوى أضرار محدودة للغاية.
أما المنوال المذكور، أي تبليغ العدو بالهجوم الوشيك عليه كي يستعدّ له بحيث تكون الأضرار لديه محدودة جداً، فقد دشّنه الردّ الإيراني على قيام إدارة ترامب الأولى باغتيال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، في العراق في مطلع عام 2020. وقد أبلغت طهران القوات الأمريكية آنذاك، من خلال حكومة بغداد، كي تستعد لهجمة على قواتها المنتشرة على الأراضي العراقية. فجاءت نتيجة الهجمة محدودة بعدد من المصابين بصداع ناجم عن دويّ الانفجارات بين الجنود الأمريكيين في قاعدة عين الأسد الجوّية، بما جعل ترامب يُعلن أن الردّ الإيراني كان خافتاً بحيث إن لا داعي للردّ عليه. وهو السيناريو الذي تكرّر يوم الإثنين والذي أدّى إلى توجيه ترامب شكره لطهران وإعلانه انتهاء المعارك وإحلال سلم شامل بين إسرائيل وإيران.
هذا «السلم»، الذي من الأحرى تسميته بالهدنة لو دخل وقف النار فعلاً حيّز التنفيذ (الأمر الذي لم يتأكد بعد عند كتابة هذه الأسطر) لن يدوم ما دامت واشنطن لم تتوصل إلى اتفاق مع طهران. ومن الواضح أن ترامب يراهن على أن الضربات المؤلمة التي وجّهتها إسرائيل للنظام الإيراني، وإثبات استعداده لإشراك قواته مباشرةً في العدوان إلى جانب حليفته الصهيونية، أمورٌ كفيلة بأن تُقنع طهران بالعدول عن تشبّثها بتخصيب اليورانيوم وصناعة الصواريخ بعيدة المدى، وهما الأمران اللذان وضعت إدارة ترامب تخلّي إيران عنهما شرطاً لعقدها اتفاقا جديدا يشمل فكّ العقوبات الاقتصادية المفروضة على «الجمهورية الإسلامية». وهي سياسة قديمة معروفة باسم «العصا والجزرة» تجمع بين ضرب الخصم ووعده بالمكافأة لو استسلم.
فقد عدنا إلى نقطة البداية في الجولة الأخيرة من المواجهة بين إيران والحلف الأمريكي-الإسرائيلي، مع المعضلة التي تواجهها طهران في الخيار بين المواجهة الشاملة والاستسلام، وقد حاولت عبثاً حتى الآن أن تجد سبيلاً إلى منزلة بين المنزلتين تمنح بموجبها بعض التنازلات، لكن بلا أن تخسر ماء وجهها كلياً. أما الفارق الكبير بين سلوك النظام الإيراني في سنواته الأولى وسلوكه في السنوات الأخيرة، فيعود بجلاء إلى الفرق بين نظام كان ينعم عند ولادته بولاء شعبي عارم ونظام فقد هذا الولاء إلى حد بعيد، وبات غير واثق بقدرته على ضبط مجتمعه الذي توالت انتفاضاته عليه منذ بضع سنوات. فجرياً وراء السلوك النصفي الذي تم وصفه في مقال الأسبوع الماضي، لجأ الحكم الإيراني منذ بدء حرب الإبادة الصهيونية في غزة إلى تحريك أعوانه اللبنانيين واليمنيين وتعريضهم لخطر الردّ بالتالي، بلا أن يجازف هو بدخول المعركة. ولمّا وصلت المعركة إليه رغم أنفه، بسبب عدوانية الدولة الصهيونية التي لا تعرف حدوداً، رأيناه ضعيفاً في مواجهتها (على الرغم من ادّعاءاته الشبيهة بالتي عهدناها من الأنظمة القومية العربية التي كانت تدّعي النصر وهي في غمرة الهزيمة) ومتخاذلاً في مواجهة عرّابها الأمريكي. ويشكّل مثل هذا السلوك دعوة للمعتدين إلى مضاعفة ضغوطاتهم وتجديد اعتداءاتهم، وهم واثقون بأن طهران لن تتجرأ على تنفيذ تهديدها بتفجير المنطقة بأسرها والاعتداء الجدّي على شتى القواعد والمصالح الأمريكية فيها.
#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)
Gilbert_Achcar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟