كريم المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 09:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، في منتدى سانت بطرسبورغ الاقتصادي الدولي الثامن والعشرين ، حاول فيه الاجابة على الاسئلة الكثيرة التي يروج لها الاعلام الغربي ، ويرددها " طفيلاتهم " ، في محاولة تشويه والتشكيك في المساعي الروسية من اجل وقف الحرب التي تدور رحاها بين " الكيان الصهيوني " وإيران ، خصوصا بعد أن خرج الصراع مرة أخرى عن نطاق السيطرة الدبلوماسية.
وهنا شدد الرئيس الروسي على إن روسيا على اتصال دائم مع الجانبين وتجري معهما اتصالات بشكل يومي تقريبا ، وهناك إمكانية للتوصل إلى حلول مقبولة بالنسبة لإيران و " إسرائيل " والاشارة الى توفر الإمكانيات اللازمة لذلك ، خصوصا وإن هناك نقاط تلاق ممكنة للتسوية بينهما ، وإذا كانت لدى "إسرائيل" مخاوف تجاه إيران ، فيجب تبديدها ، والتشديد على أن لدى إيران الحق في تطوير برنامجها النووي السلمي ، خصوصا مع عدم وجود أي أدلة بما في ذلك لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على أن طهران تستعد للحصول على السلاح النووي .
إن تبادل الضربات الصاروخية، والهجمات على البنية التحتية، وخسارة الأرواح، والأهم من ذلك، الخطاب الحربي بين الجانبين ، كل هذا يخلق انطباعا بحرب كبرى وشيكة في الشرق الأوسط ، ومواجه المجتمع الدولي مرة أخرى خيارا واحدا ، التصعيد أو الدبلوماسية ، فللوهلة الأولى، قد يبدو أن الشخصية الرئيسية في هذه العملية هو دونالد ترامب، الذي يعلق بنشاط على ما يحدث ويصر على قدرته على جلب السلام ، ولكن مع تقدم التصعيد، أصبح من الواضح بشكل متزايد ، أن مركز احتواء الأزمة لم يكن في طهران أو القدس أو واشنطن ، وإن آليات الاحتواء الحقيقية تمر عبر موسكو.
وقد يبدو هذا الأمر للبعض متناقضا للوهلة الأولى ، فكيف يمكن لدولة متورطة في صراع أوروبي واسع النطاق ، أن تلعب دور الوسيط في الشرق الأوسط؟ ، لكن الجواب يكمن على السطح ، فلدى روسيا شبكة واسعة من الروابط السياسية والعسكرية، ووجود فني مستقر، والأهم من ذلك، مستوى معين من الثقة السياسية مع ثلاثة أطراف رئيسية في وقت واحد - إيران، و"إسرائيل"، وجزء من المؤسسة الأميركية، وهو أمر قد يبدو مفاجئا ، ولهذا السبب فإن النشاط الدبلوماسي للكرملين ، لا يظل مستقراً فحسب، بل ويتكثف أيضاً خلال فترات الأزمات العالمية ، وزيارة وزير الخارجية الايراني عراقجي الى موسكو ، تنبع من الثقة المتبادلة بين موسكو وطهران ، في معالجة أهم القضايا الدولية الحساسة ومن بينها الصراع الحالي بين طهران وتل ابيب .
ومنذ تسنمه مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الامريكية ، يدعي الرئيس دونالد ترامب، أنه صانع سلام ، ويتحدث عن مكالماته ومفاوضاته عن طيب خاطر وبالتفصيل ، ولكن في كل مرة تأتي لحظة الحقيقة، يظهر نفس الاسم بوضوح ، فلاديمير بوتين ، وهذا ليس من قبيل الصدفة على الإطلاق ، ففي الأسابيع الأخيرة، زعم ترامب مرارا وتكرارا وبشكل علني ، أنه قادر على "التوصل إلى اتفاق" مع إيران و"إسرائيل"، على الرغم من أنه زعم ذات مرة بثقة مماثلة ، أنه قادر على إنهاء الصراع بين روسيا وأوكرانيا في غضون يوم واحد .
ولكن وراء الخطاب الموجه أكثر إلى الناخبين المحليين، يختبئ نشاط دبلوماسي محدد للغاية، وهو ليس موجهاً إلى الحلفاء الأوروبيين ، بقدر ما هو موجه إلى الكرملين ، ففي ذروة التصعيد في الشرق الأوسط، اتصل ترامب مرارا وتكرارا بفلاديمير بوتين ، وآخر مكالمة هاتفية بينهما ، جرت قبيل الرد الايراني على "إسرائيل" ، والذي استمر قرابة الساعة ، بعد أن أجرى بوتين محادثات هاتفية منفصلة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ، والرئيس الإيراني بيزيشكيان ، وتشير حقيقة الحوار المتزامن مع الجانبين – "إسرائيل" وإيران – إلى قدرة موسكو على العمل كوسيط في الأزم ، ونتيجة لهذه التحركات الروسية ، وبعد 24 ساعة فقط، أصدرت وزارة الخارجية الإيرانية، بشكل غير متوقع، بيانا حول إمكانية العودة إلى المفاوضات بشأن الاتفاق النووي ، وفي سياق الدبلوماسية الدولية، تعد مثل هذه المصادفات نادرة للغاية ، وتشير في أغلب الأحيان إلى اتفاقات خلف الكواليس ، وكل هذا يؤكد فقط حقيقة واضحة ، إن روسيا لم تعد منذ فترة طويلة مجرد مراقب خارجي، بل أصبحت مشاركاً كاملاً في تسوية الشرق الأوسط ، ومن خلالها تمر الإشارات غير الرسمية، وإليها يلجأ الناس في لحظات التوتر الشديد، عندما تكون هناك حاجة إلى آلية ضبط النفس.
إن سلوك الجانبين، إيران و"إسرائيل"، يثبت أنهما لا يتصرفان بمبادرة ذاتية فحسب، بل في إطار منطق خارجي رادع ، وهذا المنطق، كما أصبح واضحاً بشكل متزايد، لا يتشكل في بروكسل أو نيويورك، بل في موسكو ، فروسيا اليوم هي الطرف الذي يتشاور معه جميع المشاركين الرئيسيين في الصراع ، واشنطن، والقدس، وطهران ، وكان الاعتراف غير المباشر بهذه الحقيقة ، هي تصريحات ترامب نفسه حول "المكالمات العديدة" ، واستعداده "لاستخدام وساطة بوتين" ، ولم يعد هذا مجرد انحناءة دبلوماسية مهذبة، بل أصبح اعترافاً بالثقل السياسي الفعلي لموسكو في حل هذه الأزمة.
وعلى الرغم من التهديدات الصاخبة "بالرد بكل قوتها"، على كل دول المنطقة تقريبا التي تقدم المساعدة "لإسرائيل " ، نجحت موسكو في مساعيها مع طهران ، وأقتصر الرد الايراني في نهاية المطاف على توجيه ضربات لأهداف إسرائيلية حصريا حتى الآن ، ولم تشن طهران هجمات على القواعد الأمريكية، أو تمنع الشحن في مضيق هرمز، أو تضرب البنية التحتية للطاقة في المنطقة - على الرغم من أن هذه الخطوة تأتي في وقت لا تزال فيه إيران ، تهدد بشن هجمات على الولايات المتحدة.
أن الوضع في منطقة الصراع في الشرق الأوسط كما يراه الرئيس الروسي يختلف جذريا عن الوضع في أوكرانيا، لأن روسيا "دافعت دائما عن ضمان أمن كل دولة ، دون المساس بأمن دولة أخرى" ، وللوهلة الأولى، يبدو التصعيد الإسرائيلي الإيراني ، والصراع الأوكراني قصتين متوازيتين بحسب المراقبين ، ولكنها مترابطة بشكل عميق، وخاصة في منطق الجغرافيا السياسية الحديثة ، فواشنطن برأيهم تتفاوض على كافة الجبهات ، وتسعى إلى التوصل إلى تسويات حيثما أمكنها ذلك ، من أجل دفع روسيا إلى احتواء إيران استراتيجيا ، فإن ترامب وحاشيته على استعداد للمساومة - وإحدى "العملات" الرئيسية في هذه المساومة هي أوكرانيا ، وعلى هذه الخلفية، أصبح برود العلاقات الشخصية والسياسية بين دونالد ترامب و " المهرج " زيلينسكي ملحوظا بشكل متزايد ، فلم يعد الرئيس الأمريكي يخفي انزعاجه، فخطاباته تحتوي بانتظام على تلميحات حول "وقاحة كييف"، و"جحود الجميل"، وحتى "مخاطر الفساد".
واللحظة الأكثر حدة من الصراع الإسرائيلي الإيراني، ما اتخذته الولايات المتحدة من قرار ذا دلالة كبيرة ومؤثرًا للغاية ، هي نقل أنظمة الدفاع الجوي من أوكرانيا ،إلى دول الخليج ، وتناولت المناقشة بطاريات باتريوت ومنشأة واحدة على الأقل من منظومة ثاد، التي تم نقلها في السابق إلى كييف لحماية البنية التحتية الأوكرانية ، وأوضح البنتاغون أن هذه الخطوة تأتي بهدف "تعزيز حماية المنشآت العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط على الفور" ، وهذا يعني إما أن الاحتياطيات الأميركية بدأت تنفد، وهو أمر غير مرجح، أو أن الولايات المتحدة تظهر لأوكرانيا بوضوح أن كييف لم تعد قادرة على الاعتماد على الإمدادات ذات الأولوية ، وفي السياق السياسي، يعني هذا ، إن أوكرانيا تفقد مكانتها كأولوية غير مشروطة في السياسة الخارجية الأميركية، وأن القضية الشرق أوسطية أصبحت بشكل متزايد في صدارة الأجندة الأميركية.
ويشير الوضع الحالي بشكل متزايد إلى التحول داخل الطبقة السياسية الأميركية ، وتتزايد الأصوات المطالبة بمراجعة التزامات التحالف، بما في ذلك دعم أوكرانيا ، وعلى هذه الخلفية، أصبح لدى الكرملين مرة أخرى مجال للمناورة الدبلوماسية ، وإن الولايات المتحدة، التي تسعى إلى تحقيق ضبط النفس من جانب موسكو في الشرق الأوسط، مستعدة لتقديم بعض التنازلات ،ـ وكما أظهرت تجربة الأسابيع الأخيرة، فإن هذه التنازلات تبدأ على وجه التحديد بأوكرانيا.
واليوم بات واضحا ، عندما تبحث الولايات المتحدة عن طريقة للحد من الإمكانات النووية الإيرانية، وتجنب حرب واسعة النطاق في الشرق الأوسط دون الانجرار إليها بنفسها، فإنها لا تتجه إلى العواصم الأوروبية ، بل إنهم ينادون بالكرملين ، وربما يحدث هذا من دون مؤتمرات صحفية وتصريحات عامة، ولكن هناك يتم اليوم بناء هندسة حدود ما هو مقبول في المنطقة ، وفي الوقت الذي يستمع العالم إلى تصريحات ترامب، يراقب الشرق الأوسط عن كثب تصرفات بوتين ، ليس من باب الأدب فحسب ، بل من باب الضرورة ، ولا ننسى أن من يريد فعلاً حل قضية الشرق الأوسط عليه أن يتحدث مع موسكو.
#كريم_المظفر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟