ربيحة الرفاعي
كاتبة وباحثة
(Rabiha Al-refaee)
الحوار المتمدن-العدد: 8378 - 2025 / 6 / 19 - 04:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكن ثمّة "سنة" ولا "شيعة" حين أسدل النبي محمد ستار الحياة، تاركًا أمّة ترتجف تحت وطأة المفاجأة، وقلوبًا تتلعثم بين النبأ والنبوة، كان ثمّة رجال يتحلّقون في السقيفة، يتجادلون عن الدولة، لا عن الدين، وعن الوريث السياسي، لا عن الإمام الروحي، وكان ثمّة آخرون، يوارون الجثمان على عجلٍ، مؤمنين دفن النبي أوْلى من خلافته.
في تلك اللحظة، لم يكن أحدٌ ينظر إلى عليّ بوصفه إمامًا معصومًا، ولا إلى أبي بكر بوصفه خليفة واجب الطاعة بالنص، كان جمعا تفاوضيا سياسيًّا بريئًا من أية مذهبة... كانت الحياة تحتمل الاختلاف، والقلوب مجتمعة رغم تباين الرؤى، وكان الإسلام أوْلى من السلطة، لكن الدم حين يسيل... لا ينسى.
وحين ارتفعت السيوف في صفّين، أحدثت صدعا، وحين وضعت لم تكن تكتب نهاية خلافٍ فحسب بعدما سال من دماء، بل رسّمت بين الأخوة حدودا، ورسمت ملامح المذاهب القادمة... تلك اللحظة التي انقسم فيها المسلمون لا بين حقّ وباطل، بل بين دم ودم، هي التي فجّرت ذاكرة المظلومية، وأحيت ما لم يكن ولد بعد؛ شيعة عليّ، وأنصار الحسين، وبكاء ممتدّ من كربلاء إلى قم، إلى النجف، إلى بغداد التي مزّقتها الفتن، لم يعرف أنصار معاوية يومها أنهم سيتحولون لاحقًا إلى كتلة اسمها "أهل السنة والجماعة"، ولم يرَ أنصار عليّ أنفسهم طائفة سيطلق عليها اسم الشيعة، بل كانوا فريقًا خسر في السياسة، ولم ينكسر في الحنين.
في القرون التالية، تحوّلت السياسة إلى عقيدة، وتحول الخلاف إلى ملّة، وتم تدوين الألم في كتب، وبُنيت حوله هوية كاملة، وشيئًا فشيئًا، نُزع الخلاف من مكانه، وزُرع في ضمير الأمة، حتى صار صراعًا يُورَّث كما تُورث الجينات ونسي الفرقاء أن البداية كانت دون طوائف
حين تصير الطائفة وطنًا
في الجغرافيا القديمة، كانت الطائفة طينًا يختلط بالماء، شيئًا داخليًا، غريزيًا، ينتمي إلى ضمير المؤمن لا إلى خرائط الملوك، أما في الجغرافيا الجديدة، فقد تمددت الطائفة على اتساع الإقليم، وصارت بحجم دولة.
كل شيء بدأ من هناك، من طهران 1979، حين أزاحت العمامةُ الشاه، ورفعت الجماهيرُ لافتات "لا شرقية ولا غربية… جمهورية إسلامية"، يومها بدى المشهد انتصارًا للشعب لكنه في العمق، كان إشارة إلى تحوّل فارق، فالثورة خرجت من قم لتتحدث بضمير الطائفة، وباسم الأمة، قبل أن ترسم ملامح الدولة، تبعث برسائلها للمستضعفين في البحرين، والعراق، ولبنان، واليمن… حاملة بذورًا مشبعة بالمظلومية، ووعودًا بالخلاص.
على الضفة الأخرى، كانت السعودية، الحارس التاريخي للمقدسات، والتي قرأت في تلك اللهجة الدافئة بوصلة مذهبية تهدد بتمدد مباشرٍ لا للإقليم فحسب، بل لـ"الإسلام السني" كما تحب أن تراه، فرفعت راية المواجهة متمثلة بدعم مالي مفرط السخاء في بناء التحالفات، وتسخير الوهابية كأداة لمواجهة المد الشيعي وتحجيم نفوذ الشيعة وتقبلهم في دول المنطقة؛ بتجنيد العلماء، وطباعة الكتب، وفتح القنوات، وغيره، فتحولت تلك الحركة الفكرية الدينية/الوهابية إلى أداة سياسية وثقافية لتكريس النفوذ السني، فهي بنزعتها الصارمة والتمييزية، وخطاب غالبا ما يستثمر في تعميم عداء مذهبي، يغذي الخوف، ويُبرر التدخلات العسكرية والسياسية باسم الدفاع عن العقيدة، تخطت أمرها كعقيدة، واستحالت جسرًا لتمرير الخطاب السياسي الذي يعيد رسم الصراعات الطائفية..
ثم جاء الغزو السوفييتي لأفغانستان، وولدت لحظة "الجهاد السني" على يد المال النفطي والغضب العقائدي.
وانفلت عقال الخلاف، حين تسربل الصراع بين إيران والسعودية بعباءة الاختلاف على المعنى الديني للإسلام نفسه، وعلى من يملك تعريف "الحق"، و"الخلافة"، و"النجاة"، ولم تعد الطائفية فتنة بل استراتيجية، تُكتب في بيانات الحروب، وتُعقد على أساسها التحالفات، وتُرسم على وقعها خرائط المآسي وصارت الطائفة وطنًا متنقلًا، يحمل سلاحه في بيروت، وعقيدته في النجف، ومظلوميته في دمشق، وحنينه في صعدة.
وصار للحدود وثيقتا سفر واحدة للدولة، وأخرى للولاء المذهبي.
وفقد وثيقته الإنسان الذي ظنّ أن الدين للسماء، لا للبنادق.
المظلومية الطائفية… من الذاكرة إلى التعبئة
ما من طائفة في منطقتنا إلا وتحمل في جيبها "قصة ألم"، لكن القصص، ليست دائمًا للتذكُّر… أحيانًا تُروى كي تُشعل، لا كي تُداوى.
في التاريخ الشيعي، تسكن كربلاء في القلب؛ ليست مجرد معركة، بل لحظة كونية تتكرر كلما سفكت سلطة دمًا، أو نُزِعت بيعة... ومن هذا الوجع وُلدت الهوية المظلومة: الحسين الذي لا يزال يُقتل، والحق الذي لا يزال يُغتصب.
وفي الذاكرة السنية، هناك سقيفة حُسم فيها مصير الخلافة دون إجماع، وهناك عصور من التشيع السياسي، والتهجير، والانقلابات الطائفية، وطعن في رموز دينية، وحديث دائم عن "الاختطاف الفارسي"، والخوف من الإبادة الرمزية.
وحين تبدأ المظلومية، تكون شعورًا صادقًا، لكن المشكلة ليست في الحزن، بل في تدويره، وحين يُبنى الوعي الجمعي على الدموع القديمة، يصبح من السهل تعبئته لأي حرب جديدة، فلا أسهل من تحويل الألم إلى وقود، والذكرى إلى مشروع سياسي، والمقدسات إلى خنادق، تطلق على أساسها الشعارات لتجييش المؤمنين بها تُرفع في الخُطب، وتُبث في الفضائيات، وتُطبع في المناهج، وتُستثمر في التحشيد السياسي، حتى وإن قُتل باسمها من لا علاقة له لا بالحسين ولا بيزيد.
فهل كل من يستدعي المظلومية كاذب؟
هناك فعلا مظالم حقيقية… سجون، تمييز، تهميش، لكن تحويلها لهوية نهائية، و"قدر لا يُشفى"، هو ما يحول المجتمع من شعب إلى طوائف مسلّحة بالذاكرة، فالعدالة لا تأتي من الثأر، بل من إصلاح الذاكرة، ومن إعادة الرموز إلى مكانها في التاريخ، لا في صناديق الذخيرة.
استراتيجيات الدول الكبرى في إدارة الطائفية… لعبة النفوذ على رقعة الشرق الأوسط
ليست الطائفية في خريطة الشرق الأوسط مجرد انتماء ديني أو هويّة ثقافية، إنها ورقة يُلعب بها، وجهاز يُشغّل وفق حسابات تتجاوز العقيدة أو الولاء، وجدت فيها القوى الكبرى الإقليمية والدولية فرصة ذهبية؛ للسيطرة، للنفوذ، ولإعادة رسم خرائط النفوذ بما يخدم مصالحها البعيدة عن آلام الشعوب.
وتُشبه إدارة الطائفية في الشرق الأوسط إلى حد بعيد رقعة شطرنج ضخمة، تلعب عليها القوى الكبرى بحذر وتأنٍ، مستخدمة قطعها المتنوعة من تحالفات، ودعم سياسي، وتسليح، وعمليات استخباراتية، وحتى حملات إعلامية في استراتيجية " فرق تسد"
بعد غزو العراق عام 2003، لم يكن إشعال الصراعات الطائفية نتيجة جانبية بل أداة سياسة مقصودة، كان هدف واشنطن منها تفكيك "الدولة القومية" التي يُمكن أن تواجهها، عبر خلق انقسامات داخلية عميقة، فدعموا تشكيل حكومات طائفية وجعلوا السلطة تتوزع بناءً على الانتماء المذهبي، ما أفسح المجال لاحتكار النفوذ من قبل مجموعات مذهبية معينة، وإضعاف وحدة البلاد، ومكنت استراتيجية "فرق تسد" هذه الولايات المتحدة من ضبط إيقاع المنطقة من بعيد، لكن على حساب الاستقرار الداخلي للدول.
واتبعت روسيا سياسة مراوغة، تعتمد على دعم النظام السوري، المتعدد الطوائف، وتستخدم الطائفية وصراعاتها كوسيلة لتبرير التدخل العسكري، وللضغط السياسي، في سعيها لإبقاء المنطقة في حالة من التوازن الهش، يسمح لها بالحفاظ على قواعدها العسكرية، والتأثير على السياسات الإقليمية، مع الحد من انتشار النفوذ الأمريكي.
وعملت إسرائيل عبر أصابعها المتغلغلة في وسائل الإعلام وذبابها الكتروني اليوم على تكريس النزاعات الطائفية والصراعات المذهبية، فهي تستفيد من استمرار تلك الانقسامات في محيطها العربي لإبقاء دول المنطقة منشغلة بصراعاتها الداخلية، وكلما زادت التوترات الطائفية، زادت فرصها في الحفاظ على تفوقها الأمني والسياسي.
كلهم استثمرها، فالطائفية لم تكن سوى أداة في يد تلك القوى، تستخدمها لتحقيق أهداف استراتيجية تخصها، في لعبة تُعيد إنتاج الانقسامات والصراعات، وترسم خريطة مستمرة من التوتر والحرب، ولا علاقة لها بواقع الشعوب وتاريخها المعقد.
وما احوج المنطقة لقيادات واعية تدرك أهمية الاشتغال الجاد للخروج بشعوبها من دوامة الطائفية عبر إعادة بناء الوعي الوطني وتحويل الانتماء من الطائفة إلى الوطن، وإعادة صياغة الهوية بما يتجاوز الخطوط الطائفية، وهو ما يستلزم توظيف المدارس، ووسائل الإعلام، والمؤسسات الثقافية، في غرس قيم تعزيز المواطنة، واحترام التنوع، ورفض خطاب الكراهية.
#ربيحة_الرفاعي (هاشتاغ)
Rabiha_Al-refaee#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟