|
معضلة الديمقراطية في العراق
عبد الستار الجميلي
الحوار المتمدن-العدد: 8376 - 2025 / 6 / 17 - 20:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كنت قد قررتُ بداية، أن أكتب عنوان "مهزلة الديمقراطية في العراق"، لكن التهذيب منعني عن ذلك، فإخترت عنواناً حيادياً إلى حدّ ما، " معضلة الديمقراطية في العراق"، رغم أنّ هذه المعضلة في أكثر جوانبها مأساوية هي مهزلة بكل معنى الكلمة، نظراً لما لحق بهذه الديمقراطية من سوءات وخطايا حتى إقترنت الديمقراطية باللعنة على ألسنة الغالبية الساحقة من المواطنين الذي كانوا أول ضحايا هذه الديمقراطية((الملعونة)) التي سحقت إرادتهم وحقهم في الإختيار والعيش الكريم. فالديمقراطية في مفهومها البسيط ودون الدخول في التنظير السياسي والفلسفي والقانوني، هي حكم الشعب وتوكيد السيادة له ووضع السلطة كلها في يده ومن أجله وتكريسها لتحقيق أهدافه، على المستوى الجماعي.. وأن يكون الفرد حرّا في تفكيره وإرادته وفعله وإختياره، على المستوى الفردي.. فلا يمكن أن تكون حُرّا وأنت عبد للآخر يتحكم في حياتك وعقلك وضميرك.. وحتى يتحقق ذلك يجب أن يؤسس النظام الديمقراطي من بين ما يؤَسّس، على فصل السلطات الثلاث، فصلاً مانعاً تكاملياً.. التشريع من قبل مجلس يمثل الشعب حقاً في إقتراع سري نزيه ومتكافئ وعادل، يكون الناخب فيه متحرّراً من كلّ صور الإستغلال والعبودية لأيّ كان، سواء كان فردا أو جماعة، وحاصل على نصيب عادل من الثروة والخبز، فلا يمكن فصل حرية لقمة العيش عن حرية الإنتخاب، فالنيابة وفق تطور أشكال الديمقراطية هي نيابة ضرورة فرضتها أعداد السكان المتزايدة والمساحات الواسعة، وهي تكليف ضرورة أيضا وليست تشريفا ًومقاولات وبناء الأبراج والفلل من نهب المال العام والرشى.. والتنفيذ من قبل حكومة تمثل أغلبية سياسية تحددها صناديق الإنتخاب المغلقة بأمان وعدالة، ووجوب أن تضم شخصيات كفوءة ذات خبرة وإختصاص يتلائمان مع دور كل وزارة، وما أن يدخل المكلف بها أبواب الوزارة، عليه أن ينسى أية جماعة أو حزب أو كتلة جاء من خلالها، ويعمل إنطلاقا من الإعتقاد الديمقراطي الراسخ بأن مناصب الحكومة ووزاراتها هي ملك عام حصري للشعب ومكرّسة لتأمين حاجاته المادية والمعنوية وحماية أمنه الداخلي وحدوده، وليست إقطاعية بوارداتها ومواقعها للكتل والجماعات والأفراد.. وقضاء يُطبق القوانين ويراقب سيرها بحيادية وإستقلالية ونزاهة، وتشدد إستثنائي خصوصاً على من يتصورون أنفسهم فوق القانون والمساءلة من رجال الدين والدنيا. وفي إطار هذه السلطات والفصل فيما بينها، يجب أن تسود قناعة راسخة بأن رؤساء وعناصر السلطات الثلاث هم مجرد موظفو خدمة عامة لسيد واحد هو الشعب بشخصيته المعنوية وشخصياته الطبيعية، ولا يختلفون في المركز السياسي والقانوني عن أصغر موظف أو عامل خدمة في الدولة، فلا صوت يعلو ولا قداسة ولا إمتيازات تعلو على كرامة وإنسانية وصوت الشعب ومصلحته وحاجاته المادية والمعنوية، فجميع المواطنين وبني آدم عامة متساوين في الكرامة والقداسة والحقوق والواجبات وإنسانية الإنسان، بلا تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو اللغة او المركز الإجتماعي أو السياسي أو الإقتصادي أو القانوني، " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا- الآية 70 من سورة الإسراء". فهل يمكن في ضوء هذه المبادئ والقواعد والمعايير والأطر الحديث عن ديمقراطية في العراق، دون أن يُصاب المتحدث بغصة في عقله وحنجرته ومشاعره وآماله وأحلامه المغدورة.. فالنظام السياسي الذي فرضه الإحتلال الأمريكي بكل قواعده ومفاصله، أقيم على محاصصة طائفية وعرقية لا تمت للعصر والدول الحديثة وللإسلام والعروبة بأية صلة عصرية أو شرعية أو إجتماعية أو معرفية أو هوياتية، وتتعارض مع الديمقراطية شكلا ومضمونا بل عدواناً عليها وتزييفا لها وإستبدادا ((ديمقراطياً)) مقنّعاً للجماعات الإقطاعية والكتل الفردية والعائلية والقرابية، والانتخابات لا علاقة لها بالديمقراطية من قريب أو بعيد، فهي شكلية يتحكم بها الإستقطاب الطائفي والعرقي والأقلوي والعشائري والمناطقي والمال السياسي والقوة والغلبة والأجندات الإقليمية والدولية، في إلغاء كامل لارادة المواطنين وحريتهم في الإختيار الموضوعي، مع أن الدستور العراقي لعام 2005 الذي له العلوية والسمو المفترضين، ينص على أن للمواطنين، رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والإنتخاب والترشيح (م20). ما فرض مجلس نواب عاجز عن تقديم حتى الحد الأدنى من القدرة على الوفاء بإختصاصاته في التشريع والرقابة، سوى إصدار تشريعات خلافية تتوافق فيها الجماعات الطائفية والعرقية على قوانين خاصة بكل منها وبغض النظر عن إنعكاساتها السلبية على الوحدة الوطنية والرفض الشعبي لها، ونواب الشغل الشاغل لبعضهم المقاولات والإستثمار في المشاريع والدرجات الوظيفية وبناء أو إمتلاك الأبراج والفلل والشقق في أربيل والأردن وتركيا وطهران ولبنان والإمارات وقطر وأمريكا والدول الأوربية والجزر التي ربما لم يسمع بها الشعب العراقي، مع أنّ الدستور ينصّ على عدم جواز الجمع بين عضوية مجلس النواب وأي عمل أو منصب رسمي آخر(م49 سادساً)، والتناوب على المايك والفضائيات للتحريض على الطائفية والفتن والتسقيط المتبادل، حتى أصبح مجلساً للنوائب وما أكثرها وليس للنواب، دون أن نغمط حق بعض النواب الذين يدركون درورهم الوطني والمعرفي والنيابي وواجبهم التشريعي والرقابي ولو بأضعف الإيمان، ولكنهم مُحيّدين بهذه الطريقة أو تلك.. أما الحكومة التقسيمية، التي تُقسّم قِطعاً ومقاطعات بين كتل المحاصصة، حيث يتم الإختيار على أسس طائفية وعرقية بحتة وبغض النظر عن معايير الخبرة والكفاءة والنزاهة، فهي متاحة لمن يدفع أكثر في البورصة السياسية ضمن إطار حصة الكتلة أو التبادل بينها، لذلك إنتفى أي دور رقابي لمجلس النواب لمساءلة الحكومة، فكيف لمجلس النواب أن يسائل نفسه وهو بنفسه يُمثّل الحكومة المشكّلة من كتله؟ ولذلك أيضاً عجزت جميع الحكومات التي شُكّلت بعد الإحتلال وإلى الآن عن التقدم خطوة واحدة لبناء دولة ونظام يستحق الوصف السياسي والقانوني الذي يطلق على نماذج الدول والأنظمة المعاصرة ذات المصداقية والقبول. فمنطق قواعد ومقدمات ومدخلات الإحتلال والمحاصصة الصارمة تقود إلى نفس المخرجات والنتائج الكارثية في التمزيق الوطني والمجتمعي، رغم الجهود التي بذلها ويبذلها البعض القليل ممن يدركون دورهم الوطني والسياسي في خدمة شعبهم ووطنهم. أما القضاء فمأساته مضاعفة حيث تتدخل في شؤونه السلطتان التشريعية والتنفيذية، ما أفقده الكثير من إستقلاليته تحت الضغط والتهديد، وتعطيل الكثير من أصول المحاكمات الجزائية والإجراءات المدنية، وبات المتهم سواء أكان مجرما حقاً أو بريئا تحت رحمة الأمزجة الشخصية والمعايير الطائفية والعرقية، رغم الجهد الكبير الذي يبذله معظم القضاة لتطبيق معايير العدالة في التحقيق والمحاكمة والعقاب في إطار مبادئ وقواعد الدستور النافذ والقوانين الجزائية والمدنية السارية والمعايير الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والحقوق المدنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وفي مقدمتها: العراقيون متساوون امام القانون دون تمييز، لا جريمة ولا عقوبة الا بنص، المتهم بريء حتى تثبت ادانته، العقوبة شخصية، القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون، حظر الحجز وعدم جواز الحبس أو التوقيف في غير الأماكن المخصصة لذلك، التقاضي حق مصون ومكفول للجميع وحق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة، لكل فرد الحق في أن يعامل معاملة عادلة في الاجراءات القضائية والإدارية، السلطة القضائية مستقلة والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة. حتى المحكمة الإتحادية العليا التي أصبحت بمثابة القلعة الأخيرة في الدفاع عن سيادة العراق وحقوق الشعب العراقي والوقوف في وجه الفاسدين والمزورين والإنفصاليين، تواجه حملة شرسة وضغطا شديدا لإجهاض دورها والإفتئات على قراراتها الباتة الملزمة للسلطات كافة بموجب المادة (94) من الدستور العراقي النافذ. ومع كل هذا الحصاد البائر الذي تلطّخت صفحاته بالعتمة إلى جانب الدم والإرهاب وغياب اليقين والأمل، والذي أنتج كتل الإستبداد والفساد والتبعية في بغداد وأربيل التي تتصارع بعبثية فجة على السلطة والغنيمة والإقصاء والإستماتة في الدفاع عن مصالح أطراف إقليمية ودولية محددة، والوصول بالعراق إلى مصاف الدولة الفاشلة في عناصرها وهويتها ووظائفها وإدارتها وخدماتها وحقوق مواطنيها المدنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية وعلاقاتها العربية والإقليمية والدولية، مع كلّ هذا، يتحدثون عن نظام ((ديمقراطي)) وإنتخابات ومجلس نواب وحكومة في العراق، كلٌّ عن المعنى الصحيح مُحرّف، وهذه هي معضلة أو مهزلة الديمقراطية في العراق إنّها، شكلاً ومضموناً، محرّفة عن المعنى الصحيح والحقيقي والسليم للديمقراطية، تتولاها جماعات وأفراد من خلفيات شمولية متأزمة بقداسة وأوهام وولاءات أيديولوجية أوطائفية أو عرقية أو إجتماعية، في إطار وحدات مغلقة متخيلة، مُحيِدة لفكرة ومفهوم وضرورة وحس الدولة ومالها ودومينها العام والخاص، وتعاني من أميّة وطنية وسياسية وثقافية وعصرية في إدارة الدولة ووظائفها ومحدداتها وثوابتها ومصالحها وعلاقاتها الخارجية.
#عبد_الستار_الجميلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكيان الصهيوني والنظام الإيراني.. مواجهات الإخوة الأعداء..
...
-
ما التغيير المطلوب؟
-
ترامب.. بين السياسة والتجارة
المزيد.....
-
بعد تحريك ترامب لوحدات -نووية-.. لمحة عن أسطول الغواصات الأم
...
-
مقبرة الأطفال المنسيّة.. كيف قادت تفاحة مسروقة صبيين إلى سرّ
...
-
الوداع الأخير.. طفل يلوح لجثامين في جنازة بخان يونس وسط مأسا
...
-
مستشار سابق للشاباك: حرب غزة غطاء لمخطط تغيير ديمغرافي وتهجي
...
-
نفاد تذاكر -الأوديسة- قبل عام من عرضه.. هل يعيد كريستوفر نول
...
-
بين الرخام والحرير.. متحف اللوفر يستضيف معرض الكوتور لسرد قص
...
-
أزمة حادة بين زامير ونتنياهو بشأن استمرار الحرب على غزة
-
فورين أفيرز: لماذا على تايوان إعادة إحياء مفاعلاتها النووية؟
...
-
فيديو الجندي الأسير لدى القسام يثير ضجة في إسرائيل
-
بلغراد تندد بتثبيت حكم على زعيم صرب البوسنة
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|