عبدالرحمن مصطفى
الحوار المتمدن-العدد: 8375 - 2025 / 6 / 16 - 08:03
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يكثر الحديث عن فضائل السوق الحرة والرأسمالية في العالم العربي خصوصا في مجتمعات ما بعد الحرب كسوريا والعراق وليبيا تلك المجتمعات التي ادعت أنظمتها السابقة أنها كانت تطبق الاشتراكية ،العديد من رجال السياسة من الذين تصدروا المشهد بعد سقوط الأنظمة السلالية هناك أبدوا إعجابا وتأييدا لاقتصاد السوق الحر ومنها وزير خارجية سوريا الحالي متوهما أن ذلك سينقذ بلاده ومستشهدا بتجربة سنغافورة وبجهل تام بحيثيات تلك التجربة فهو لا يعلم مثلا أن الأرض هناك مملوكة بكليتها للدولة والدولة توفر 90 بالمئة من الإسكان للناس في ذلك البلد والقطاع الحكومي يولد 22 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي وتلك النسبة كبيرة في ظل المعايير الغربية حيث أن في معظم الدول الغربية لا يتجاوز القطاع العام ال10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي (ولو عرفنا حتى أن هناك حصة كبيرة للإنتاج الحرفي الذي يرجع الى النظام الما قبل رأسمالي) فسنغافورة أبعد ما تكون عن الاقتصاد الحر ،والأهم من هذا أن اطلاق مثل هذه التصريحات وفي ظروف ما بعد الحرب يعني في أفضل الأحوال الجهل التام بالسياق الذي يمكن أن تخلق فيه الاقتصادات الحرة أو اقتصاد السوق الحر ،فبعد الحرب أنت أقل ما تحتاجه هو اقتصاد السوق الحر ،لأن في ظروف الدمار والخراب ستضطر الدول الى تنظيم اقتصاداتها ولو بالقهر وحتى بالطريقة الستالينية الصلفة بمعنى اتباع نظام الحصص في التوزيع ولو لفترة مؤقتة وهذا لم يحدث مثلا في الاتحاد السوفيتي أو كوريا الشمالية فقط بل في أمريكا واليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية لأن إعادة بناء البنية التحتية والصناعة والزراعة تحتاج الى ادخارات ورؤية بعيدة الأمد والصبر على العوائد التي لن تتوفر مباشرة وهذا ما لا يطيقه المستثمرون الأفراد.
ليست الرأسمالية كنظام لعلاقات الإنتاج ونظام قانوني قوي يجسد لعلاقاتها في المجتمع ويمنحها بعدا اجتماعيا عميقا هي ما تتوفر عليه البلدان العربية من نظم اقتصادية مختلفة ،لو كانت الرأسمالية مطبقة حرفيا في البلدان العربية كما هو الحال في الكثير من البلدان الغربية خصوصا أمريكا وبريطانيا لما وجدنا فعليا أي احتجاج عليها أو سيقتصر الاحتجاج على مشاكل أخلاقية كاستغلال العمال وتعنيفهم وحرمانهم من حقوقهم واللامساواة الخ.. ومشاكل بيئية كتلك التي تشغل الأحزاب اليسارية في الغرب ،يرى الكثير من الليبراليون العرب أن الحل الاقتصادي والاجتماعي للتخلف في العالم العربي هو في التطبيق الحرفي للقواعد والقوانين الغربية في الملكية والضرائب ومختلف الحقوق الاجتماعية التي تؤسس دساتير الديمقراطيات الليبرالية في العالم الغربي والتي توفر البيئة القانونية الكاملة لتطور الرأسمالية وما يعقبها من تطورات تقنية واجتماعية تؤسس لمجتمع الرخاء ،والمشكلة هي في الأحزاب والايديولوجيات التي تعيق تطبيق هذا النموذج الغربي في الدول العربية وفي معظم دول العالم الثالث وفقا لأنصار هذا التيار ،فالتعصب اليساري والإسلامي الخ.. يمنع من توفر الشروط الممكنة لتطور الدول العربية وكذلك الاستبداد السياسي ..
لكن فعليا هل لم تتوفر الشروط الفعلية لنشوء الرأسمالية في الدول العربية ؟ في الحقيقة دخلت البلدان العربية في مشروع التطور الرأسمالي لاقتصاداتها ومجتمعاتها منذ فترة طويلة من السبعينيات ومن ذلك وقت لم يتأسس أي نظام اقتصادي يشبه تلك النماذج التي نجدها في أمريكا وبريطانيا مثلا ..هذا يعني أن المشكلة لم تكن على مستوى النوايا ،فكان هناك رغبة قوية لدى السادات مثلا لتحويل مصر الى ما يشبه دول شرق آسيا في إقلاعها الاقتصادي فترة السبعينيات وكان يعتقد أن ذلك ممكن بالأخذ بالنموذج الأمريكي أي تحرير الاقتصاد والسماح بالاستثمارات الأجنبية وهو في خطوته وأسر الى الصحفي أحمد بهاء الدين أنه يرغب في تحويل مصر الى هونغ كونغ أي تحويلها الى منطقة حرة ورد أحمد بهاء أن ذلك مستحيل لعدة أسباب أبرزها فارق المساحة وعدد السكان والأهم أن السادات لم يفهم فعليا الطريقة التي نهضت بها دول شرق آسيا فهي لم تنهض بالرأسمالية بما يفهم منها عادة سوق حرة وتدفق استثمارات أجنبية الخ.. على النقيض من ذلك الحكومات في دول شرق آسيا أسست الصناعات الثقيلة وحتى في أحيان الخفيفة من الصفر وتولت تطوير ونقل التقانة والقيام بالمشاريع طويلة المدى التي يأنف منها القطاع الخاص وفرضت رسوم جمركية عالية على الصناعات الجديدة الخ..
لو فهمنا الرأسمالية كسيادة الملكية الخاصة وحرية حركة السلع والنقد والعمال ،فالرأسمالية عمليا مطبقة في جميع الدول العربية ،ليس هناك في العالم العربي سيادة للملكية العامة ليس بالمفهوم السوفيتي أي اقتصاد مؤمم بأكمله بل بالمفهوم الاقتصادي الصيني حاليا بمعنى اقتصاد مختلط مع سيطرة الملكية العامة على الاقتصاد ،ليس هناك اقتصاد عربي يشبه النموذج الصيني حتى فكلها اقتصادات لا تخضع للتخطيط طويل المدى بل لتضارب المصالح العشوائية والقوى السياسية والاجتماعية المختلفة ..
مشكلة الليبراليين أنهم يريدون نقل النموذج الغربي الى العالم العربي كما انتهت اليه الدول الغربية وليس بالطريقة التي بدأت فيه حتى وصلت الى ما هي عليه الآن ،ليس هناك دولة غربية واحدة نهضت باقتصاد السوق الحر باستثناء (جزئي) وهي إنكلترا وقلت جزئي لأن حتى إنكلترا خضعت لتقييد السوق في فترة معينة قبل تحرير اقتصادها والأمر الأكثر أهمية أنه كلما تأخر لحاقك بالعالم المتقدم كلما احتجت أكثر ان تبتعد عن نموذج رأسمالية السوق الحر كما حلل ذلك بشكل فذ غيرشينكرون الأستاذ الأمريكي للتاريخ الاقتصادي ومادة تاريخ الاقتصاد مغفلة في كليات الاقتصاد لذلك يتكرر تطبيق النماذج الفاشلة على الدول النامية ويتكرر تعثرها .
قد يستشهد البعض ببعض تجارب دول الخليج للتدليل على تفوق الرأسمالية وخصوصا تجربة دولة الإمارات فيذكر هنا تجربتها الناجحة في تنويع اقتصادها لكن هذا كلام مغلوط جملة وتفصيلا ،اقتصاد الامارات هو اقتصاد ريعي 100 بالمئة ،والتنويع الذي استحدثته الامارات هو تنويع لمصادر الريع والأهم أن هذه القطاعات الأخرى كالسياحة والخدمات المالية والعقارات الخ.. تعتمد كليا على عوائد النفط ولو انخفضت أسعار النفط ستتأثر هذه القطاعات تباعا وستضعف قدرة الدولة على ادامة عمل هذه القطاعات وتجديدها ،فالاستثمار العقاري هو استثمار ريعي وكذا السياحة ،هذه تختلف عن الزراعة وبدرجة أكبر الصناعة ،فدولة ككوريا الجنوبية مثلا التي تحتل مستوى مرتفع في سلاسل الإنتاج هي تحتكر موقعا مميزا يضمن لها عائدا مرتفعا على الدوام لأن الخدمات والسلع التي تقدمها نادرة في السوق العالمي قياسا الى السلع والخدمات الأخرى ،لهذا لا قيمة لتنويع الاقتصاد إن لم يستند على الصناعة وهذه الصناعة تنعش قطاع الخدمات التي تدر عوائد مرتفعة كالتصميم والبرمجة التي تساهم في ترقية الصناعة وتقوية تنافسيتها عالميا ،أما الاستثمار في السياحة والعقارات فهذه تتوفر عليها كل دولة ولن تنتعش الا بوجود قطاع انتاجي يسندها النفط في حالة امارة أبو ظبي بالنسبة الى امارة دبي ..
لكن هل يفهم من هذا أن الرأسمالية عملت بشكل سيء في العالم العربي؟ هل الرأسمالية أو اقتصاد السوق الحر في العالم العربي هو مماثل لذلك الذي في دول كأمريكا وبريطانيا وألمانيا؟ الإجابة ببساطة لا ،ليس هناك رأسمالية حقيقية في العالم العربي والسبب في ذلك أن الرأسمالية العالمية لا تسمح بتطور رأسماليات متقدمة في المنطقة العربية ،هناك تقسيم دولي صارم للعمل وتوزيع أدوار بين الدول في سلاسل الإنتاج والقيمة ،.
ليس هناك إمكانية فعليا لتطور نظام ديمقراطي ليبرالي رأسمالي مماثل لذلك الموجود في العالم الغربي ،وذلك يرجع لظروف المنطقة العربية كما أن الصين مثلا بتاريخها الفريد وظروفها الجيوسياسية ليست مؤهلة الى ان تتبع المسار الغربي ،الحديث عن تحويل البلاد العربية الى ما يشبه دول كسويسرا او بريطانيا هو كلام فارغ ومستحيل ،الرأسمالية كنظام عالمي لن تبقى اذا حدث ذلك أصلا .
والاقتصاد اليوم لم يعد كما كان سابقا قبل العصر النيوليبرالي ،حيث أن عملية الإنتاج أصبحت عالمية فصناعة السيارات مثلا مقسمة على عدد أجزائها والشركة الأم تقتصر في مهامها على صناعة أجزاء المحرك والتوزيع والتسويق والتصميم ،أما مهام تجميع أجزاء السيارة وتجميع المحرك مثلا هذه تترك للبلدان النامية كالمكسيك والبرازيل والصين وماليزيا الخ..
ختاما..
يمكن القول أن نظرية التبعية قدمت نظرية واقعية للعلاقات الاقتصادية بين الدول ،فالتقدم المضمون للجميع هو نظرية خيالية يتبناها العلم الاقتصادي الذي يدرس بالجامعات ،ففي هذا العلم نجد أنه ليس هناك خاسرين في المنافسة سواء بين الشركات على المستوى القومي او في المبادلات التجارية بين الأمم ؛فالجميع يربح والأرباح تتلاشى حتى وتقدم السلع والخدمات بسعر التكلفة بنهاية المنافسة! ،لكن نظرية التبعية أخطأت عندما تصورت ان هذا التخلف دائم وان الدول النامية ستبقى فيه ولا يمكن لهذه الدول ان تستفيد من العولمة وهو ما لم نشهده في حالة الصين أو تايوان وكوريا الجنوبية والى حد ما ماليزيا وتركيا ،يمكن للدولة أن تتجاوز التخلف البنيوي المشكل في العلاقات الاقتصادية العالمية وذلك باتباع السياسات الحصيفة وتجنب النهج النيوليبرالي الذي يفكك المؤسسات ويفصل بين قطاعات الاقتصاد فيحول قسم من هذه القطاعات الى مجرد مقاول من الباطن للشركات الأجنبية ،من هذا الفهم يمكن الاستنتاج أن الرأسمالية بشكلها الغربي غير قابلة لأن تطبق في العالم العربي وكذا ملحقها السياسي الديمقراطية التمثيلية.
#عبدالرحمن_مصطفى (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟