حسني إبراهيم عبد العظيم
الحوار المتمدن-العدد: 8363 - 2025 / 6 / 4 - 02:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ارتبط اسم عبد الرحمن بن خلدون بالمقدمة، فأضحت مقدمة ابن خلدون علامة فارقة في تاريخ الفكر الاجتماعي العربي والإسلامي. جاءت أفكار ابن خلدون الاجتماعية والتاريخية في كتابه الشهير المعنون: (كتاب العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر). ويشتهر الكتاب في الأوساط العلمية بكتاب العبر أو تاريخ ابن خلدون.
وكتاب تاريخ ابن خلدون أو كتاب العِبر سفر ضخم مكون من مقدمة وثلاثة كتب: مقدمة في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بما يعرض للمؤرخين من المغالط والأوهام. أما الكتب أو الأجزاء الثلاثة فهي:
الكتاب الأول في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الملك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم .... الخ.
الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد، والحديث عن بعض الأمم المعاصرة لهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة.
الكتاب الثالث في أخبار البربر ومواليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان بديار المغرب خاصة من المُلك والدول.
وتشتهر المقدمة والكتاب الأول بين الباحثين بمقدمة ابن خلدون، حيث وضع في هذا الكتاب أسس علم الاجتماع الذي سماه علم العمران البشري، وقد تضمن الكتاب ستة أبواب، يحتوي كل باب على عدد من الفصول .
الباب الأول: في العمران البشري على الجملة:
وفيه ست مقدمات: الأولى في أن الاجتماع الإنساني ضروري، والثانية والثالثة والرابعة والخامسة في قسط العمران من الأرض، وفي الأقاليم، وتأثير الهواء في ألوان البشر وأخلاقهم، وشؤون معاشهم، والسادسة في الوحي والرؤيا، وفي أصناف المدركين للغيب من البشر بالفطرة أو الرياضة، وفي حقيقة النبوة والكهانة والعرافة. الباب الثاني: في العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال. (ويتضمن 29 فصلا) الباب الثالث في الدول العامة والملك والخلافة والمراتب السلطانية، وما يعرض في ذلك كله من الأحوال. ( ويتكون من 54 فصلا). الباب الرابع: في البلدان والأمصار وسائر العمران، وما يعرض في ذلك من الأحوال. (ويتشكل من 22 فصلا). الباب الخامس: في المعاش ووجوبه من الكسب والصنائع وما يعرض في ذلك كله من الأحوال. (ويحتوي على 33 فصلا). الباب السادس: في العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وسائر وجوهه، وما يعرض في ذلك كله من الأحوال. (ويشتمل على 60 فصلا).
يقول المفكر العربي جميل صليبا في كتابه تاريخ الفلسفة العربية: الحقيقة أن كل من طالع مقدمة ابن خلدون أعجب بترتيب موضوعاتها، وتسلسل معانيها، وسهولة أسلوبها، واعتماد مؤلفها على الحس والتجربة في تعليل مسائلها، فهو كلما ذكر ظاهرة اجتماعية حاول البحث عن أسبابها، وأيد ذلك بالمشاهدات والأمثلة الحسية.
والمفارقة العجيبة أن مقدمة ابن خلدون قد طواها النسيان في عالمنا العربي الإسلامي لمدة تجاوزت خمسة قرون، وعلماء الغرب هم أول من اكتشفها وذلك في نهاية القرن السابع عشر. يعد المستشرق الفرنسي "بارت دي يربلو" - أول من لفت الانتباه لابن خلدون في العصر الحديث - ففي عام 1697 كتب مقالا عن ابن خلدون في كتابه (المكتبة الشرقية) Bibliotheque Orientale كما نشر فيه مقتطفات من المقدمة، ومع أن المقال كان كثير الأخطاء، (مثل قوله إنه ولد في حضرموت ومات في سمرقند وكان قاضيا في حلب) إلا أن مجرد التفات ذلك المستشرق لابن خلدون يعد أمرا يستحق التقدير.
ثم أعيد بعثة في أوائل القرن التاسع عشر عندما نشر المستشرق الفرنسي "إسحاق سيلفستر دي ساسي" سنة 1806م ترجمة فرنسية لما جاء في المقدمة عن البيعة والملك في قاموسه المســـمى مقتطفــات عربيــــة Chrestomathie Arabe. ثم نشر دي ساسي في عام 1816 ترجمة أوفى لحياة ابن خلدون وتحليلاً للمقدمة في قاموس التراجم الشامل Biographie Universal
إلا أن الفضل الأكبر في إبراز أهمية ابن خلدون، وأهمية المقدمة يرجع إلى المستشرق النمساوي جوزيف فون هامر Joseph von Hammer الذي نشر في عام 1812 رسالة بالألمانية أشاد فيها بابن خلدون وبأبحاثه في المقدمة وأطلق عليه لقب «مونتسكيو العرب» ein arabische Montesquieu. ثم نشر مقالاً في المجلة الآسيوية عام 1822 تحدث فيه عن أصالة بحوث المقدمة وعمق تفكير ابن خلدون وأشار الى ضرورة ترجمة المقدمة .
وفي عام 1825 نشر المستشرق الألماني "فردريك إدوارد شولتز" مقالاً في المجلة الأسيوية "حول المؤلَّف التاريخي النقدي الكبير لابن خلدون " نبه فيه إلى ضرورة دراسة هذا المفكر الذي لم ينل بعد حظه من الاهتمام ، تناول فيه بحوثه وأظهر أهميتها ونادي بضرورة ترجمتها ونشرها كاملة. وفي 1858م نشر المستشرق الفرنسي كاترمير المقدمة بالعربية في باريس في ثلاثة مجلدات، وبعد طباعتها شرع في ترجمتها إلى اللغة الفرنسية ، وأنجز بالفعل ترجمة أجزاء منها، غير أنه توفي قبل أن يكمل مشروعه.
و في عام 1863م نشر البارون دي سلان De Slane ترجمة المقدمة كاملة وعلق عليها وشرح الغامض منها وقدم لها بترجمة لابن خلدون وقد جاءت هذه الترجمة في ثلاثة أجزاء نشرت على التوالي في أعوام 1863 - 1865 - 1868م. و بعد أن أصبحت المقدمة في متناول أيدي علماء الغرب تغيرت كثير من الآراء التي كانت سائدة لديهم فيما يتعلق بنشأة العلوم الاجتماعية، فاكتشفوا مثلا أن الإيطالي (جيامباتيستا فيكو) Vico لم يكن أول من بحث في فلسفة التاريخ، بل إن ابن خلدون قد سبقه بحوالي 350 عاما.
كما اكتشفوا أن أوجست كونت ليس أول من أنشأ علم الاجتماع، إنما سبقه إلى ذلك ابن خلدون بخمسة قرون تقريبا، وكانت مقدمة ابن خلدون أكثر قوة منهجية مما قدمه كونت. وقد كان من آثار ذلك أن قدم الكثير من علماء الغرب دراسات قيمة عن مقدمة ابن خلدون، وحللوا ما جاء فيها تحليلا عميقا
يقول الفرنسي ( جاكوب دي بوير) De Boer في كتابه تاريخ الفلسفة في الإسلام (1901) (في مقدمة ابن خلدون كثير من الملاحظات النفسية والسياسية الدقيقة، وهي في جملتها عمل عظيم مبتكر. أن ابن خلدون أول من حاول أن يربط بين تطور الاجتماع الإنساني وبين علله القريبة مع حسن الإدراك لمسائل البحث وتقريرها مؤيدة بالأدلة المقنعة، وهو يرى أن للمدينة وللعمران البشري قوانين ثابتة يسير عليها كل منهما في تطوره).
و كتب عالم الاجتماع الأمريكي لستر وارد Lester Ward في كتابه «علم الاجتماع النظري» Pure Sociology الصادر في عام 1903 العبارات التالية: «كانوا يظنون أن أول من قال وبشَّر بمبدأ الحتمية في الحياة الاجتماعية هو مونتسكيو أو فيكو، في حين أن ابن خلدون كان قد قال بذلك، وأظهر تبعية المجتمعات لقوانين ثابتة قبل هؤلاء بمدة طويلة في القرن الرابع عشر.
و نشر استيفانو كولوزيو Stefano Colosio في عام ١٩١٤ دراسة عن ابن خلدون بعنوان "إسهام في دراسة ابن خلدون" بمجلة العالم الإسلامي التي تصدر في باريس باللغة الفرنسية جاء فيها: ليس لأحد أن ينكر أن ابن خلدون اكتشف مناطق مجهولة في علم الاجتماع. لقد سبق مكيافيللي ومونتسكيو وفيكو إلى وضع علم جديد هو النقد التاريخي.
وكتب عالم الاجتماع النمساوي «لودوفيج جومبلوفيتش» Ludwig Gumplowicz بحثًا هامًّا عن ابن خلدون عام 1928 بعنوان: «ابن خلدون عالم اجتماع عربي، في القرن الرابع عشر»، “Ibn Chaldun, ein arabischer Soziolog des XIV. Jahrhunderts وذلك في كتابه مقالات سوسيولوجية: علم الاجتماع والسياسةSoziologische Essays, Soziologie und Politik, قال فيه فيما قاله — بعد أن أشار إلى أن ابن خلدون لم يُعْرَف إلا قليلًا:
"إن ابن خلدون يجوز أن يعتبر مفكرًا عصريًّا بكل معنى الكلمة من وجوه عديدة. »، إنه لم يقع في الخطأ الذي وقع فيه مفكرو القرن الثامن عشر في صدد تقرير منشأ الفروق التي تشاهَد بين الأقوام.»«، لقد درس ابن خلدون الحوادث الاجتماعية بعقل هادئ رزين، وأبدى في هذا الموضوع آراءً عميقةً جدًّا، ليس قبل «أوجست كونت» فحسب، بل قبل «فيكو» أيضًا.»، والحقيقة أن ما كتبه ابن خلدون هو ما نسميه نحن اليوم علم الاجتماع.»
و نَشَرَ «ناتانيل شميث» أستاذ اللغات السامية والتاريخ الشرقي في جامعة كورنيل الأمريكية كتابًا عنوانه «ابن خلدون، مؤرخ وعالم اجتماع وفيلسوف.» عام 1930 يقول فيه:: "أربعمائة سنة كانت قد انقضت على موت ابن خلدون عندما نُشِرت عام 1806 بعضُ الأجزاء من كتاباته، مترجمة إلى اللغة الفرنسية، خلال هذه القرون العديدة، كان أعظم مؤرخي العرب يكاد يكون مجهولًا في أوروبا.»
ثم يستطرد قائلا:
«إن المفكرين الذين وضعوا أُسس علم الاجتماع من جديد، لو كانوا قد اطَّلعوا على مقدمة ابن خلدون في حينها، فاستعانوا بالحقائق التي كان قد اكتشفها، والطرائق التي كان أوجدها ذلك العبقري العربي قبلهم بمدة طويلة؛ لاستطاعوا أن يتقدَّموا بهذا العلم الجديد بسرعة أعظم مما تقدَّموا به فعلًا.» ثم يقول : إن ابن خلدون قد تقدم في علم الاجتماع إلى حدود لم يصل إليها أوجست كونت نفسه في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ويعد جاستون بوتول Gaston Bouthoule الأستاذ في مدرسة الدراسات الاجتماعية العليا بباريس، من أشد العلماء اهتمامًا بمقدمة ابن خلدون. فقد نشر سنة ١٩٣٠ كتابًا عن «ابن خلدون: فلسفته الاجتماعية»، وكتب سنة ١٩٣٤ مقدمةً قيِّمةً للطبعة الثانية من ترجمة مقدمة ابن خلدون للغة الفرنسية. وعندما نشر كتابه في «علم الاجتماع» سنة ١٩٤٦، خصَّص فيه لابن خلدون حيزا معتبرا من فصل «تاريخ علم الاجتماع»، وأشار في كتابه عن «علم الحرب الاجتماعي" سنة ١٩٥١ إلى آراء ابن خلدون في الحروب خلال مختلِف الأبحاث.
وفي كتابه «تاريخ علم الاجتماع» سنة ١٩٥٠ أكد على دور ابن خلدون في تأسيس علم الاجتماع، وناقش أهم القضايا الواردة في مقدمته. يقول بوتون " كان لابد أن ننتظر قرابة عشرة قرون لنرى بعث الفكر الاجتماعي الذي توقف منذ وفاة القديس أوجستين، فابن خلدون كان عبقرية لامعة في الفكر الشرقي. وبهذه الكتابات المختلفة ساعد بوتول على إشاعة ذكر ابن خلدون بين علماء الاجتماع من ناحية، وبين محبي العلم والأدب من ناحية أخرى.
أما المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي A. Toynbee فيعد ابن خلدون من العباقرة، ويرى في مقدمته دلائل ساطعةً على «سعة النظر، وعمق البحث، وقوة التفكير»، ويمتلئ إعجابًا بها. يقول في كتابه الأشهر دراسة للتاريخ A study of History الصادر في عام 1934 "لقد أدرك ابن خلدون في المقدمة التي كتبها لتاريخه العام وتصور وأنشأ فلسفة التاريخ، وهي بلا شك أعظم عمل من نوعه خلقه أي عقل في أي زمان ومكان).
في النهاية نقول إن ما ذكرناه مجرد نماذج قليلة وغيض من فيض مما كتب عن ابن خلدون وكلها تؤكد على أهمية المقدمة وريادة ابن خلدون في تأسيس علم الاجتماع. وهناك في الوقت الراهن دراسات كثيرة ومتنوعة عن ابن خلدون في الفكر الغربي بمختلف تجلياته
#حسني_إبراهيم_عبد_العظيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟