أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نهله آسيا - البقاء معجزة














المزيد.....

البقاء معجزة


نهله آسيا

الحوار المتمدن-العدد: 8357 - 2025 / 5 / 29 - 08:17
المحور: الادب والفن
    


المشهد الأول

بينما كانت الآلية العسكرية تطلق سمومها في كل مكان، تنفث نيرانها كوحش ميكانيكي أعمى، تعالت صرخات الأمهات، وتراكمت الغيوم السوداء فوق حيٍّ كان بالأمس يعجّ بالحياة. محمد، الطفل الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة، كان يقف عند مدخل الزقاق الضيق، يلف جسده النحيل معطف قديم أعطاه إياه والده ذات شتاء. لقد تأخر والده في العودة من عمله منذ ساعات، والقلق بدأ يأكل قلبه الصغير.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يسمع فيها محمد دوي القصف، لكنه كان يشعر هذه الليلة بشيء مختلف. شيء مخيف يتسلل إلى صدره كخنجر بارد. اختفت الضحكات التي كان والده يرسمها على وجهه كل مساء، وغابت الحكايات التي يرويها له عند النوم. كانت والدته تبكي بصمت في الركن البعيد من الغرفة، تخاف أن تنهار أمامه، لكنه كان يدرك كل شيء.
"سأذهب لأبحث عن أبي"، قالها بصوت خافت، لكن بعزيمة أقوى من عمره. تجاهلت والدته توسلاته للحظة، ثم نهضت فجأة، أمسكت بذراعه وقالت: "لا، محمد... لن تذهب، هذا طريق لا عودة منه!" لكنه أفلت يدها بلطف، نظر في عينيها، وقال: "بابا وعدني أنه لن يتركني، وأنا وعدته أني سأنتظره دائما... بس اليوم، لازم أروح له."
غادر البيت متسللا كظل في الليل. الشوارع كانت تنزف، وأجساد الناس تحمل على عربات خشبية متهالكة. ومع كل خطوة يخطوها، كان محمد يتنفس دخان الحرب، ويحمل على كتفيه عبء قلب صغير قرر أن يقاوم الكوابيس.
مر بجانب المدرسة التي تهدمت نصفها، كان قد كتب فيها أول حروف اسمه على سبورة الصف الرابع. ثم عبر السوق المهجور، حيث كانت يد والده تشده نحو بائع الحلوى في كل مساء جمعة.
في قلب المدينة، وبين الحجارة المحترقة، لمح معطفا يعرفه... رائحة لا تخطئها ذاكرته، وحذاء بلي من كثرة السير.
اقترب... وصرخ.
لكنّ ما رآه لن يمحى من ذاكرته، ولا من ذاكرة المدينة التي أكلتها النار.

المشهد الأول


غزة كانت تنزف. لا شيء فيها يشبه الحياة سوى صراخ الأطفال الذين نجوا من تحت الأنقاض. كانت الطرقات مملوءة بالركام، وأشجار الزيتون العتيقة قُطعت كأنها أجساد بشرية لا قيمة لها. محمد سار وسط هذا الجحيم، يبحث عن وجه أبيه بين العيون المتعبة والوجوه المغبرة.
عند مشفى الشفاء، اكتظت الممرات بالمصابين، والجرحى، والأمهات الباحثات عن أبنائهن. وقف محمد على رؤوس أصابعه، نادى: "يابا؟"، لكن صوته ضاع في الزحام. اقترب من أحد الأطباء المنهكين، سأل بصوت مرتجف: "فيه أسماء للي إجوا اليوم؟ أبوي كان يشتغل بالهلال الأحمر...
أمسك الطبيب بلائحة طويلة، فيها حبر سال بفعل دموع الأمهات. بدأ يقرأ الأسماء بصوت خافت. وعند كل اسم، كان محمد يحبس أنفاسه. وحين توقف الطبيب فجأة عند أحد الأسطر، نظر إليه وقال: "شو اسم والدك الكامل؟"
"ماهر الحسن، مسعف."
صمت الطبيب، ثم أشار بيده نحو الجهة الشرقية من المشفى: "تعال معي."
كان الجناح الذي دخله محمد هادئا على غير عادة المستشفى. لا ضجيج فيه، فقط أنين ضعيف وعيون مغلقة. وهناك، على سرير معدني، كان وجه والده مغطى بضمادة على الجبهة، لكنه حي.
"يابا!" صرخ محمد وهو يركض نحوه، لم يكن يعرف إن كان يسمح له بالعناق، لكنّه فعل. وضع رأسه على صدر والده وسمع النبض... بطيء، لكنه مستمر.
ابتسم ماهر بصعوبة، رفع يده المرتجفة ولمس شعر ابنه: "رجال... مثل ما توقعتك."
في تلك اللحظة، وسط ركام الحزن، ووسط مستشفى لا يكاد يجد فيه الأمل مكانا، بكى محمد. لا خوفا، بل امتنانا. لأن في غزة، البقاء على قيد الحياة... معجزة



#نهله_آسيا (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل نحتاج إلى نظام عالمي جديد أكثر عدالة؟
- من لم يغيره 7 أكتوبر ... فلن يتغير
- الأنظمة العربية بين هاجس البقاء ...ونداء الكرامة
- ترتيلة 1
- هذه البلاد
- لعنة
- حظيرة النساء
- حلم
- موزة والملاك ... قصة قصيرة
- صحراء العرب
- عشق من نوع آخر
- اليك عني
- بين يدي فنانة
- لغتي
- مجموعة تراتيل - 1
- تراتيل ( 2 )
- المعتصم
- ابو لهب
- وضوء وعشق
- عطر السماء - شعر


المزيد.....




- بعد تكرميه بجائزة الثقافة في مالمو 2025 - محمد قبلاوي ”صناعة ...
- هوليوود.. نهاية حلم صناعة السينما؟
- اكتشاف أثري تحت الركام.. ما مصير القرى الأثرية بعد سقوط نظام ...
- أعلام في الذاكرة.. حكايات شخصية مع رموز ثقافية عراقية وعربية
- -القسطنطينية- يفتتح الدورة السابعة لمهرجان -بايلوت- الروسي ( ...
- بيان رسمي بعد نزاع بين ملحن مصري وحسين الجسمي
- من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شم ...
- مايك تايسون يتلقى عرضا مغريا للعودة إلى الحلبة ومواجهة أحد أ ...
- من غرناطة إلى تستور.. كيف أعاد الموريسكيون بناء حياتهم في شم ...
- فنانة وإعلامية مصرية شهيرة تعلن الصلح مع طبيب تجميل شوه وجهه ...


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نهله آسيا - البقاء معجزة