|
حضارة وادي السند الغامضة
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 17:11
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كانت حضارة وادي السند كياناً ثقافياً وسياسياً قد ازدهر في المنطقة الشمالية من شبه القارة الهندية بين حوالي (عام 7000 وعام 600 قبل الميلاد) . واشتُقّ اسمها الحديث من موقعها في وادي نهر السند. ويُشار إليها أيضاً باسم حضارة "السند - ساراسڤاتي" وحضارة "هاراپان". وتعود التسميات الأخيرة إلى نهر ساراسڤاتي الوارد ذكره في المصادر الڤيدية ، الذي كان يمّر بجوار نهر السند ومدينة هاراپا القديمة في المنطقة، وهي أول مدينة عُثر عليها في العصر الحديث . ورغم اعتقاد العلماء بشكل عام في أن شعوب هذه الحضارة قد طورت نظام الكتابة الخاص بها (يُعرف باسم خط السند أو خط هاراپان)، إلا أنه لم تُحل رموزه إلى الآن .
التسلسل الزمني لقد تركت جهود عالم الآثار البريطاني السير "مورتيمر ويلر" لعلماء الآثار الذين جاؤوا من بعده أساساً لتحديد تواريخ تقريبية من بداية الحضارة حتى انهيارها وسقوطها. واستند التسلسل الزمني بشكل أساسي إلى الأدلة المادية من مواقع حضارة هاراپان، بالإضافة إلى معرفة اتصالاتهم التجارية مع بلادي الرافدين والنيل . فقد كان حجر اللازورد على سبيل المثال لا الحصر، شائعاً للغاية فيها ؛رغم أن العلماء كانوا يعلمون أنه يُجلب من الهند؛ إلا أنهم لم يعرفوا مصدره بدقة حتى اكتشاف حضارة وادي السند . ورغم استمرار استيراد هذا الحجر شبه الكريم بعد سقوط حضارة وادي السند، إلا أنه من الواضح أن بعض تلك الصادرات كانت في البداية من هذه المنطقة. كما أن جميع المسميات الواردة أدناه هي حديثة، ولا يُعرف شيءٌ مؤكد عن أصل الحضارة وتطورها وانحدارها وسقوطها. ومع ذلك، فقد وضع علم الآثار الحديث تسلسلاً زمنياً وتقسيماً تاريخياً محتملاً لمراحلها :
أولاً : ما قبل هاراپان - حوالي (عام 7000 - 5500 قبل الميلاد) : وهي فترة العصر الحجري الحديث حيث يبرز أحد أفضل مواقعها "مهرگارا" وفيه تظهر أدلة على التطور في بدء الزراعة وتدجين أو ترويض الحيوانات وإنتاج الأدوات البسيطة وأعمال الطين .
ثانياً : هاراپان المبكرة - حوالي (عام 5500 - 2800 قبل الميلاد) : في تلك الفترة توطدت التجارة مع بلادي الرافدين والنيل وربما حتى مع الصين ؛ فقد تأسست مجتمعات تعيش في قرى صغيرة كان لديها موانئ وأرصفة ومستودعات بالقرب من القنوات المائية.
ثالثاً : هاراپان النامية - حوالي (عام 2800 - 1900 قبل الميلاد): حيث بناء المدن الكبرى وانتشار التحضر ، وازدهرت مدينتا هاراپا وموهينجو ـ دارو حوالي عام 2600 قبل الميلاد. كما شُيّدت مدن أخرى، مثل "گانيريوالا" و"لوثال" و"دولاڤيرا، وفقاً للتصاميم نفسها، واستمر هذا التطور في الأرض لبناء مئات المدن الأخرى حتى تجاوز عددها ألف مدينة في جميع أنحاء البلاد .
رابعاً : هاراپان المتأخرة - حوالي (عام 1900 ـ 1500 قبل الميلاد) : تزامن تراجع الحضارة مع موجة هجرة مجاميع الآريين من الشمال، وعلى الأرجح من هضبة إيران . وتشير الأدلة الأثرية إلى تغيّر المناخ الذي تسبب في فيضانات وجفاف ومجاعة. كما أُشير أيضاً إلى فقدان العلاقات التجارية مع بلادي الرافدين والنيل كسبب قد ساهم في الانحدار.
خامساً : ما بعد هاراپان - حوالي (عام 1500 - 600 قبل الميلاد): في تلك الفترة هُجرت المدن، وانتقل الناس جنوباً. وكانت الحضارة قد انهارت بالفعل بحلول الوقت الذي غزا فيه الملك الاخميني "كورش" (عام 550 ـ 530 قبل الميلاد) الهند عام 530 قبل الميلاد .
غالباً ما تُقارن حضارة وادي السند الآن مع الحضارات الأكثر شهرة في بلادي الرافدين والنيل ؛ إلا أن هذه المقارنة قد جاءت حديثة نسبياً. حيث كان اكتشاف هاراپا عام 1829 ميلادي أول مؤشر على وجود محتمل لحضارة من هذا القبيل في الهند .غير أنه في ذلك الوقت كان الاهتمام مركزاً على الرموز الهيروغليفية المصرية لحلّها ، وترجمة الكتابة المسمارية ، والانغماس بعمليات التنقيب في المواقع الأثرية لبلادي الرافدين والنيل . لذلك، فإن بداية التنقيبات الأثرية لحضارة وادي السند كانت متأخرة بشكل كبير.
كانت أشهر مدينتين مُكتشفتين من هذه الحضارة هما "هاراپا" و "موهينجوـ دارو" (تقعان في باكستان الحديثة)، ويُعتقد أن نفوس ساكنيها كان يتراوح مابين (40,000 و50,000 ) نسمة ، وهو أمرٌ مذهلٌ بالنظر إلى أن معظم المدن القديمة كان متوسط حجم نفوسها لا يتجاوز العشرة آلاف نسمة . ويُعتقد أن إجمالي عدد سكان الحضارة قد تجاوز الخمسة ملايين نسمة، وامتدت أراضيها لأكثر من (1,500 كيلومتر) على طول ضفاف نهر السند ثم الى جميع الاتجاهات نحو المناطق البعيدة . وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فقد عُثر على مواقع حضارة وادي السند بالقرب من حدود النيپال وفي أفغانستان وعلى سواحل الهند وحول دلهي . وتقريباً مابين عامي (1900 و 1500 قبل الميلاد) ، بدأت الحضارة في الانحدار لأسباب مجهولة. وفي أوائل القرن الماضي، كان يُعتقد أن السبب يعود إلى غزو الشعوب ذات البشرة الفاتحة من الشمال والمعروفة باسم "الآريين"، التي غزت شعباً داكن البشرة، ويُعرّفهم علماء الغرب بـ "الدراڤيديين ؛ ولكن دُحضت هذه الفكرة المعروفة باسم "نظرية الغزو الآري" . ويُعتقد الآن أن الآريين الذين ترتبط أصولهم العرقية بالفرس الإيرانيين قد هاجروا إلى المنطقة طواعية ومزجوا ثقافتهم مع ثقافة السكان الأصليين؛ بينما يُفهم مصطلح "دراڤيدي" الآن على أنه يشير إلى أي شخص من أي عرق يتحدث إحدى اللغات الدراڤيدية.
لا يُعرف سبب تراجع حضارة وادي السند وانهيارها، ولكن يعتقد العلماء أن ذلك ربما كان له علاقة بتغير المناخ، أو جفاف نهر ساراسڤاتي ، أو تغيّر اتجاه هبوب الرياح الموسمية التي كانت تجلب الأمطار لإرواء المحاصيل، أو بسبب الاكتظاظ السكاني في المدن، أو تراجع التجارة مع بلادي الرافدين والنيل ، أو جميع لكل ما سبق . وفي الوقت الحاضر، تستمر أعمال التنقيب في العديد من المواقع التي عُثر عليها حتى الآن، وقد تُقدم بعض الاكتشافات المستقبلية مزيداً من المعلومات حول تاريخ هذه الحضارة الغامضة وانحدارها.
الاكتشافات والتنقيبات المبكرة لا تزال الرموز والنقوش على القطع الأثرية لشعوب حضارة وادي السند والتي فسرها بعض العلماء على أنها نظام لكتابة غير مفهومة؛ لذا يتجنب علماء الآثار بشكل عام تحديد أصل هذه الحضارة، لأن أي محاولة ستكون مجرّد تخمين لا أكثر . وكل ما يُعرف عن هذه الحضارة حتى الآن جاء من الأدلة المادية التي عُثر عليها في المواقع الأثرية المختلفة. وبالتالي؛ فإن قصة حضارة وادي السند عُرف عنها من خلال اكتشاف بعض آثارها في القرن التاسع عشر الميلادي . كان جيمس لويس (المعروف باسم تشارلز ماسون، عام 1800-1853 م) جندياً بريطانياً من صنف المدفعية في كتيبة حماية "شركة الهند الشرقية"، وعندما فرّ في عام 1827 م مع جندي آخر من الخدمة، ولتجنّب اكتشافه من قبل السلطات؛ غيّر اسمه إلى "تشارلز ماسون" وشرع في سلسلة من الرحلات في جميع أنحاء الهند. وقد كان ماسون هاوياً شغوفاً بجمع العملات ( العملات المعدنية ) ، و مهتماً بشكل خاص بالعملات القديمة، وانتهى به الأمر إلى التنقيب في المواقع القديمة بمفرده. وكان أحد هذه المواقع "هاراپا"، الذي عثر عليه في عام 1829 ميلادي . ويبدو أنه قد ترك الموقع بسرعة بعد أن ذكره في دفتر ملاحظاته ؛ ولعدم معرفته مَنْ الذي شيّد تلك المدينة، لذا فإنه نسبها خطأً إلى "الإسكندر الكبير" خلال حملاته على الهند حوالي عام 326 قبل الميلاد . وعندما عاد ماسون إلى بريطانيا بعد جولاته الاستكشافية (وبعد أن عُفي عنه لهروبه من الجيش)، نشر كتابه "حكاية الرحلات المختلفة في بلوشستان وأفغانستان والپنجاب" في عام 1842 ميلادي، الذي جذب اهتمام السلطة الاستعمارية البريطانية في الهند، وخاصة الجنرال المهندس ألكسندر كانينگهام ( عام 1814-1893 م). حيث أسس كانينگهام الشغوف بالتاريخ القديم هيئة المسح الأثري للهند (ASI) في عام 1861 م، وهي جهة مكرّسة للحفاظ على حقوق الحفر والتنقيب في المواقع التاريخية الهندية. ثم بدأ كانينگهام أعمال التنقيب في موقع هاراپا ونشر نتائجه في عام 1875 م ؛حيث أطلق عليها اسم "كتابة السند" ، ولكن هذا الاستنتاج كان غير مكتملاً ويفتقر إلى التعريف؛ لأن هاراپا استمرت معزولة دون صلة مع أي حضارة سابقة معروفة يمكن أن تكون قد أسستها. في عام 1904م، عُيّن "جون مارشال"(1876 ـ 1958م) مديراً جديداً لمعهد الآثار الهندي الذي زار هاراپا وخلص إلى أن الموقع يُمثل حضارة قديمة لم تكن معروفة من قبل . كما أمر مارشال بالتنقيب الكامل في الموقع، وفي الوقت نفسه تقريباً سمع عن موقع آخر على بُعد كيلومترات قليلة يُطلق عليه السكان المحليون اسم "موهينجوـ دارو" (هضبة الموت)، لاحتوائه على عظام بشرية وحيوانية إلى جانب قطع أثرية متنوعة. ثم بدأت أعمال التنقيب في موهينجوـ دارو ( عام 1924 ـ 1925م) ، وتم التعرّف على أوجه التشابه بين الموقعين؛ حيث تم اكتشاف مايسمّى حضارة وادي السند.
هاراپا و موهينجوـ دارو كانت النصوص الهندوسية المعروفة باسم الـ "ڤيدا"، بالإضافة إلى مؤلفات عظيمة أخرى من التراث الهندي مثل الـ "ماهابهاراتا" والـ "رامايانا" ، معروفة جيداً لدى علماء الآثار الغربيين، بيد أنهم يجهلون الثقافة التي أنتجتها. وبسبب عنصريتهم المقيتة فقد امتنعوا من نسب هذه المؤلفات إلى الشعب الهندي، وأشاروا إلى أن مدينة هاراپا الأثرية كانت مستعمرة تابعة للسومريين في بلاد الرافدين !. ولكن معالم هاراپا ليس فيها أوجه شبه مع التخطيط العمراني الرافديني ولا حتى مع المصري ، إذ لم يُعثر فيها على أي معابد أو قصور وأبنية ضخمة، ولا أسماء ملوك وملكات أو نحوت وتماثيل تخص الأسر الحاكمة. وقد امتدت المدينة على مساحة (1500 متر مربع) من منازل صغيرة مبنية من الطابوق ذات سقوف مسطحة مصنوعة من الطين. وكانت هناك قلعة وأسوار، وشوارع مُصممة بشكل شبكي، مما يُظهر بوضوح مهارة عالية في التخطيط الحضري . وبدراسة موقع المدينتين (هاراپا و موهينجوـ دارو)، اتضح للمنقّبين أنهم يتعاملون مع حضارة متقدمة للغاية. كانت منازل المدينتين فيها مراحيض مزودة بشطّافات، ونظام صرف صحي. وكانت البالوعات التي على جوانب الطرق جزءاً من شبكة الصرف الصحي المتطور التي كانت أكثر حداثة حتى من الشبكات الصحية للرومانيين الأوائل . كما نُصبت تراكيب بصناعة بسيطة ولكنها عملية للغاية على سطوح المنازل والأبنية الحكومية تسمى " مصدات الريح" للاحتفاظ بالبرودة في الداخل . وفي موهينجوـ دارو، كان هناك مغطس مائي واسع محاط بفناء مع سلالم تؤدي إليه. مع اكتشاف مواقع أخرى، ظهر أن هناك تشابه بالدقّة والمهارة فيما بينها، مما رسّخ القناعة لدى الآثاريين في أن جميع هذه المدن كان مُخطط لها مسبقاً على عكس مدن الحضارات الأخرى التي نشأت من مجتمعات ريفية أصغر. فقد كانت مدن حضارة وادي السند مُخطط لها بعناية، وذلك من خلال اختيار الموقع المناسب ووضع التصاميم الهندسية قبل الشروع في بنائها؛ إضافة إلى أنها قد أظهرت بالمجموع توافقاً في التصميم والتنفيذ ، مما أوحى بوجود حكومة مركزية قوية ذات إدارة فعّالة قادرة على تخطيط وتمويل وبناء مثل هكذا مدن . وقد أشار البروفيسور جون كاي الى هذا الجانب كما في المقطع أدناه : " أن جميع تلك المدن القديمة ذات السمة المميزة في المئات من المواقع الأثرية الهاراپية المعروفة حالياً، هو تشابهها الظاهر. وأن انطباعنا السائد عنها هو في تماثلها الحضاري على مرّ القرون عندما ازدهرت فيها الحضارة الهاراپية على امتداد المساحة الشاسعة التي شغلتها. فعلى سبيل المثال، كان جميع الطوب المستخدم في كل مكان ذو أبعاد موحدة . كما أن مكعبات الحجر التي استخدمها الهاراپيون لقياس الأوزان هي أيضاً موحدة وقائمة على النظام المعياري . ويتشابه اتساع الشوارع والطرق الجانبية في القياسات أيضاً ،والتي عادة ما تكون أكثر اتساعاً حيث يصل للضعف عن تلك الأرصفة المخصصة للمنازل والابنية الحكومية ، بينما الشوارع والطرق الرئيسية تكون واسعة بمقدار ضعف ونصف أكثر من الشوارع الجانبية أو الفرعية. كما أن معظم الشوارع مستقيمة وتمتد إما من الشمال إلى الجنوب أو من الشرق إلى الغرب. لذا فأن تصاميم ومخططات المدن كانت مُنسقة بشكل مُتقن لتتناسب مع مفهوم المدن ذات التصميم الشبكي المنتظم ، ويبدو أنها قد حافظت عليه من خلال مراحل البناء المتعددة ." (ص9) استمرت أعمال التنقيب في كلا الموقعين بين عامي ( 1944 و 1948م) تحت إشراف عالم الآثار البريطاني السير "مورتيمر ويلر" (عام 1890ـ1976 م) ، الذي صعّبت عليه عقيدته العنصرية المتشددة قبول فكرة أن ذوي البشرة الداكنة هم من شيّدوا تلك المدينتين . ومع ذلك، فقد نجح في تحديد مراحل هاراپا ووضع أسس التقسيم الزمني اللاحق لحضارة وادي السند .
الجوانب الحضارية يبدو أن شعب حضارة وادي السند كانوا من الحرفيين و المزارعين والتجار في المقام الأول . ولم يُعثر على أدلّة بوجود جيش نظامي، ولا قصور، ولا معابد. كما يُعتقد أن المغطس الواسع والكبير في موهينجوـ دارو كان يُستخدم لطقوس الطهارة المرتبطة بالمعتقدات الدينية، ولكن هذا مجرّد تخمين؛ فمن الممكن أن يكون مسبحاً عامّاً للترفيه. وعلى ما يبدو أن لكل مدينة حاكمها الخاص، ويُفترض أنه كان هناك شكل من أشكال الحكومة المركزية لتحقيق وحدة المدن. وقد أشار البروفيسور جون كاي الى بعض المهارات كما في المقطع أدناه : "تشير الأدوات والأواني وبعض اللقى بوجود هذا الانطباع بالتجانس بين أفراد المجتمع. ولعدم معرفتهم بالحديد( الذي لم يكن معروفاً في الألفية الثالثة قبل الميلاد) فقد كانوا يقطعون ويكشطون ويثقبون المعادن بمهارة فائقة باستخدام مجموعة أدوات خاصة مصنوعة من الصوان؛ وهو نوع من الكوارتز أو خليط من النحاس والبرونز . وكان هذا الأخير إلى جانب الذهب والفضة؛ المعادن الوحيدة المتاحة في ذلك الوقت والتي استُخدمت في صناعة الأواني والتماثيل الصغيرة ، وفي صنع مجموعة متنوعة من السكاكين، وسنّارات الصيد، ورؤوس السهام، والمناشير، والأزاميل، والمناجل، والدبابيس، والأساور." (ص10)
من بين آلاف القطع الأثرية المكتشفة في مختلف المواقع، توجد أختام صغيرة من حجر الصابون ( الحجر الأملس)، يزيد قطرها قليلاً عن (3 سم)، ويعتقد علماء الآثار أنها كانت تُستخدم لتحديد الهوية الشخصية للتجّار مثل تلك الأختام الأسطوانية المعروفة في بلاد الرافدين . ويُرجّح أن الأختام كانت تُستخدم في تصديق العقود وفي بيع وشراء الأراضي والعقارات، والتحقق من منشأ البضائع وشحنها واستلامها في التجارة الخارجية. وفي مجال النقل ، فقد طُورت العجلة والعربات التي تجرها الماشية ، و القوارب ذات القاع المسطح والواسعة بما يكفي لنقل البضائع التجارية، وربما أيضاً حتى عمل الشراع . وفي الزراعة استخدموا تقنيات الرّي والقنوات والمعدات المختلفة، وأنشأوا مناطق متنوعة لرعي الماشية وزراعة المحاصيل. وربما كانت طقوس الخصوبة تُمارس أثناء عملية الحصاد ، بما في ذلك الاهتمام الكبير على ما يبدو في النساء الحوامل من خلال وجود عدد من المنحوتات والتمائم والتماثيل الصغيرة التي تمثل المرأة الحامل . ويُعتقد أن شعب الحضارة قد عبد الإلهة الأم ، أو إله ذكر عندما صُوَّر على أنه شخصية ذات قرون برفقة حيوانات برية. ومع ذلك، فإن المعتقدات الدينية للحضارة غير معروفة بشكل عام ، وأية أفكار أخرى تبقى مجرّد تكهنات . يتجلى مستوى المهارات الفنية لشعوب الحضارة من خلال كثرة الاكتشافات للتماثيل وأختام الحجر الصابوني والسيراميك والمجوهرات . وأشهر الأعمال الفنية هو التمثال البرونزي الصغير الذي يبلغ ارتفاعه (10 سم) والذي أُطلق عليه اسم "الفتاة الراقصة"، عندما عُثر عليه في موهينجوـ دارو عام 1926م . حيث تمثل المنحوتة صبية تضع يدها اليمنى على وركها، واليسرى على ركبتها، ورقبتها مرفوعة. ومن القطع الأخرى المثيرة للإعجاب تمثال من الحجر الصابوني يبلغ ارتفاعه (17 سم) ، أُطلق عليه اسم "الملك الكاهن"، ويُمثل رجلاً ملتحياً يرتدي عصّابة رأس وسواراً منقوشاً. من الجوانب المثيرة للاهتمام في العمل الفني ظهور على ما يبدو أنه حصان وحيد القرن على أكثر من 60% من الأختام الشخصية. وهناك العديد من النقوش المختلفة على هذه الأختام، وكما أشار البروفيسور كاي إلى أن حصان وحيد القرن قد ظهر على "1156 ختماً ونقشاً من أصل 1755 عُثر عليها في مواقع هاراپان القديمة" (ص17) . وأضاف إلى أن الأختام بغض النظر عن الصورة التي تظهر عليها، تحمل أيضاً رموز فُسِّرت على أنها مكتوبة بخط السند، مما يشير إلى أن "الكتابة" تحمل معنى مختلفاً عن الصورة. وربما كان "حصان وحيد القرن" يمثل عائلة الفرد أو قبيلته أو مدينته أو انتمائه السياسي، أو حتى معلوماته الشخصية .
نظرية سقوط الحضارة طالما لاتوجد إجابة قاطعة ومؤكدة على سؤال ماهية الأختام أو ما يمثله "حصان وحيد القرن"، أو كيف كان الناس يعبدون آلهتهم؛ لذا فإنه ليس هناك سبب معروف لتدهور هذه الحضارة وسقوطها. وما بين عامي (1900 و1500 قبل الميلاد) تقريباً، هُجرت المدن بشكل مطرد، وانتقل الناس إلى الجنوب . وكما ورد عن الباحثين المختصين، فإن هناك عدد من النظريات المتعلقة بهذا الأمر، إلا أنها ليست نظريات مُقنعة بالكامل . ووفقاً لإحداها ؛ فقد كان أحد الأسباب هو جفاف نهر "گهاگار- هاكرا"، الذي يُعرف بنهر ساراسڤاتي الوارد ذكره في المصادر الڤيدية عندما كان يجري بجوار نهر السند حوالي عام 1900 قبل الميلاد، مما استلزم نزوحاً كبيراً للمجتمعات التي كانت معتمدة عليه. كما أشار التحليل البيئي للطمي الكبير في مواقع مثل موهينجوـ دارو إلى فيضان كبير قد حدث، والذي اُعتبر سبباً للانحدار . هناك احتمال آخر وهو شحة السلع التجارية الضرورية. حيث كانت كل من بلاد الرافدين وبلاد النيل يعانيان من مشاكل داخلية خلال نفس الفترة؛ مما أدّى إلى اضطراب كبير في التجارة الخارجية . وتتوافق فترة هاراپان المتأخرة تقريباً مع فترة العصر البرونزي الوسيط في بلاد الرافدين (عام 2119-1700 قبل الميلاد) ؛ فقد كان السومريون هم الشركاء التجاريون الرئيسيون لشعب وادي السند؛ إلا أنهم انشغلوا في طرد الغزاة الگوتيين في تلك الفترة ، إضافة إلى أن الملك حمورابي (عام 1792-1750 قبل الميلاد) قد غزا دول ـ مدن جنوب بلاد الرافدين أثناء توسيع إمبراطوريته الممتدة . وفي بلاد النيل ، تتوافق نفس الفترة مع الجزء الأخير من المملكة الوسطى (عام 2040-1782 قبل الميلاد) عندما كانت الأسرة الثالثة عشرة الضعيفة في سدة الحكم قبيل غزو الهكسوس وفقدانها للنفوذ والسلطة. ولكن السبب الذي استند إليه علماء أوائل القرن العشرين الميلادي لم يكن أياً من هذه الأسباب، بل زعموا في أن شعب وادي السند قد تعرض للغزو والطرد جنوباً على يد عِرق متفوق من الآريين ذوي البشرة الفاتحة.
نظرية الغزو الآري كان العلماء الغربيون منهمكون في ترجمة وتفسير النصوص الڤيدية للهند لأكثر من 200 عام ؛ بنفس الوقت الذي كان فيه ويلر يُنقّب في المواقع المحتملة . وقد توصلوا إلى تطوير نظرية مفادها إلى أن شبه القارة الهندية قد تم غزوها في فترة ما من قبل عِرق فاتح البشرة يُعرف باسم "الآريين" الذين أسسوا ثقافة عالية في جميع أنحاء البلاد. تطورت هذه النظرية ببطء، فقد كانت البداية في عام 1786م عندما أعلن عالم اللغات البريطاني السير "ويليام جونز" (عام 1746-1794 م) عن فكرته (وهو قارئ نهم للغة السنسكريتية) ؛ في أن هناك أوجه تشابه ملحوظة بينها وبين اللغات الأوروبية ، ورأى أنه يجب أن يكون هناك أصل مشترك لجميعها؛ أطلق عليه اسم " پروتو- هندو- أوروبي" . وفي وقت لاحق، حاول علماء الغرب تحديد "الأصل المشترك" لجونز، وخلصوا إلى أن عِرقاً فاتح البشرة من الشمال ( في مكان ما حول أوروبا ) قد غزا أراضي الجنوب ولا سيما الهند، وأسس ثقافته ونشر لغته وعاداته ؛ رغم عدم وجود أي دليل موضوعي يدعم هذا الرأي . كما روّج كاتب نخبوي فرنسي يُدعى "جوزيف آرثر دي گوبينو" ( عام 1816-1882 م) لهذا الرأي في كتابه "مقال عن عدم المساواة بين الأعراق البشرية" نشر عام 1855م، مؤكداً فيه على أن الأعراق المتفوقة ذات البشرة الفاتحة لها "دم آري" وأنها تميل بطبيعتها إلى حكم الأعراق الأدنى منها مستوى . وقد أعجب الموسيقار والملحن الألماني ريتشارد فاگنر (عام 1813-1883 م) بكتاب گوبينو ، والذي أخذ صهره البريطاني المولد هيوستن ستيوارت تشامبرلين (عام 1855-1927م)، بنشر هذه الآراء في مؤلفاته والتي أثرت في نهاية المطاف على الزعيم الألماني أدولف هتلر و ألفريد روزنبرگ (عام 1893-1946م) مهندس العقيدة النازية. كما مُنحت هذه الأفكار العنصرية مزيداً من المصداقية من قبل عالم لغوي وباحث ألماني آخر وهو "ماكس مولر" (عام 1823-1900م)، الملقّب بـ "مؤلف نظرية الغزو الآري" الذي أصر في جميع مؤلفاته؛ على أن الآرية لها علاقة باختلاف اللغة وليس العِرق . لم يكن ما قاله مولر ذا أهمية تُذكر، لأنه بحلول ذلك الوقت (أربعينيات القرن الماضي) الذي كان فيه ويلر يُنقّب في المواقع الأثرية؛ كان الجمهور الأوروبي قد تبنّى النظريات العنصرية لأكثر من 50 عاماً . ومضت عقودٌ أخرى قبل أن يبدأ غالبية العلماء والباحثين والأكاديميين في إدراك أن كلمة "آري" تشير في الأصل إلى فئة من الناس (لا علاقة لها بالعِرق ) وعلى حد تعبير عالم الآثار جيمس مالوري؛ "باعتبارها تسمية عرقية، فإن كلمة [آري] تقتصر بشكل أدق على الهنود الإيرانيين" (فاروخ،ص 17). وقد عرّف الإيرانيون الأوائل أنفسهم على أنهم "آريون" بمعنى " نبلاء ،أو أحرار ،أو متحضرون"، واستمر استخدام المصطلح لأكثر من ألفي عام حتى أفسده العنصريون الأوروبيون لخدمة أجنداتهم الخاصة. استند تفسير ويلر للمواقع إلى "نظرية الغزو الآري"، ثم زعم بإثبات صحتها. وكان الآريون معروفين بالفعل أنهم قد ألّفوا نصوص الڤيدا وغيرها من الأدبيات؛ لكن تواريخ وجودهم في المنطقة كانت متأخراً جداً بحيث لا تتوافق مع فكرة أنهم من قاموا بإعمار وبناء المدن الرائعة؛ بل ربما هم الذين من دمرّها. لقد كان ويلر بالطبع على دراية بنظرية الغزو الآري كأي عالم آثار آخر في ذلك الوقت، ومن خلال هذا المنظور؛ فسّر ما عثر عليه من الآثار ليدعم صحة نظرية الغزو التي اكتسبت شعبية وقبولاً أكبر في العالم الغربي .
الخاتمة على الرغم من أن نظرية الغزو الآري لا تزال يُستدل بها إلى الآن وتُروّج لها جهات عدة ذات أجندة عنصرية متشددة، إلا أنها فقدت مصداقيتها في ستينيات القرن الماضي، لاسيما بفضل عمل عالم الآثار الأمريكي جورج ديلز الذي راجع تفسيرات ويلر، وزار المواقع التي نقّب فيها مسبقاً ؛ إلا أنه لم يجد أي دليل يثبت صحتها . ولم تُظهر الهياكل العظمية ايّة إشارات أو علامات من هذا القبيل التي فسّرها ويلر على أن أصحابها قد ماتوا ميتة عنيفة في المعارك ، ولم تظهر على المدن أي أضرار مرتبطة بالحروب . علاوة على ذلك، لم يُعثر على أي دليل من أي نوع عن تحشيد جيش كبير من الشمال، ولا على أي غزو في الهند حوالي عام 1900 قبل الميلاد. فقد كان الفرس العرق الوحيد الذي يُعرّف نفسه بأنه آري ، وكانوا أقلية في الهضبة الإيرانية بين عامي ( 1900 ـ 1500 قبل الميلاد) ، ولم يكونوا في وضع يسمح لهم بشن أي غزوات . لذلك، يُرى أن "الغزو الآري" كان على الأرجح هجرةً للإيرانيين الهنود الذين اندمجوا بسلام مع السكان الأصليين للهند، و تزاوجوا، وتوغلوا في ثقافتهم .
مع استمرار أعمال التنقيب في مواقع حضارة وادي السند؛ لا شك أن المزيد من المعلومات سوف يساهم في فهم تاريخها وتطورها بشكل أفضل. وقد تزايد الاعتراف بإنجازات هذه الحضارة الكبيرة ومستوى التكنولوجيا والتطور الذي وصلت إليه، لذا فقد اكتسبت اهتماماً استثنائياً. وعبّر البروفيسور جيفري لونگ عن رأيه كما في هذه العبارة : "هناك انبهار كبير بهذه الحضارة نظراً لمستوى تقدمها التكنولوجي العالي" (ص198). وتُعتبر حضارة وادي السند بالفعل واحدة من أعظم ثلاث حضارات في العصور القديمة، إلى جانب حضارة بلاد الرافدين وحضارة بلاد النيل، ومن شبه المؤكد أن التنقيبات المستقبلية سترفع مكانتها إلى مستوى أعلى بكثير ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ هانا أرندت ـ اصول الشمولية ـ مارينر للكتب الكلاسيكية ـ 1973 . بورجور أڤاري ـ الهند: الماضي القديم ـ روتليدج للنشر ـ 2016 . كاڤيه فاروخ ـ ظلال في الصحراء: بلاد فارس القديمة في حالة حرب ـ دار أوسبري للنشر ـ 2009 . جون كاي ـ الهند: تاريخ ـ هاربر بريس للنشر ـ 2010 . جون كولر ـ الفلسفات الآسيوية ـ روتليدج للنشر ـ 2018 . رودريك ماثيوز ـ السلام والفقر والخيانة: تاريخ جديد للهند البريطانية ـ طباعة جامعة أوكسفورد ـ 2021 . جيفري لونگ ـ القاموس التاريخي للهندوسية ـ دار رومان و ليتلفيلد للنشر ـ 2020 . آلبرت أولمستيد ـ تاريخ الأمبراطورية الفارسية : الفترة الأخمينية ـ طباعة جامعة شيكاغو ـ 1959 .
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية
-
عبادة الإله مثرا
-
التحنيط عند المصريين القدماء
-
مذكرات جندي أمريكي عن درب الدموع
-
من هم الأمورّيون ؟
-
هذا ما كتبه هيرودوت عن بابل القديمة
-
شخصية هرقل في الأساطير اليونانية والرومانية
-
بطل ملحمة گلگامش بين الحقيقة والأسطورة
-
نرگال (مسلامتيا) إله الموت والحرب والدمار
-
الكريسماس عبر التاريخ
-
قصة اكتشاف الأشعة السينية (X)
-
طقوس الشاي في الصين واليابان القديمتين
-
هنود السهول الأصليين في أمريكا
-
ليلة السكاكين الطويلة
-
ديانة المايا: النور الذي أتى من البحر
-
الموت وحياة الآخرة في بلاد فارس القديمة
-
الفينيقيون شعب أرجواني
-
عنخ رمز بلاد النيل
-
دعوى قضائية لعبد يهودي أمام محكمة بابلية
-
نينهورساگ الإلهة الأم في الأساطير السومرية
المزيد.....
-
-تعالوا نعانق بعضنا البعض-..هل لا يزال الأمريكيون مُرحبًا به
...
-
لدولة أجنبية -صديقة-.. كشف تفاصيل فخ نصب وقبض فيه على موظف ا
...
-
دب أسود يسترخي على درب زوار منتزه.. شاهد رد فعلهم حين رؤيته
...
-
ما هي مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة وإسرا
...
-
تفاصيل خطة أمريكية مقترحة لوقف إطلاق النار في غزة
-
متى سينسحب ترامب من عملية التسوية بشأن أوكرانيا وماذا سيحدث
...
-
ماسك يكشف عن خلاف مع إدارة ترامب
-
مدينة ألمانية تقدم سكنا مجانيا لمن يريد العيش فيها!
-
بن غفير يحرض نتنياهو على -استخدام كل قوته في غزة-
-
حواجز الاحتلال في القدس.. نقاط عسكرية لعزل المدينة وإهانة أه
...
المزيد.....
-
برنارد شو بين الدعاية الإسلامية والحقائق التاريخية
/ رحيم فرحان صدام
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
المزيد.....
|