أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - رسلان جادالله عامر - الدولة المدنية الديمقراطية هي الحل الوحيد في سوريا















المزيد.....

الدولة المدنية الديمقراطية هي الحل الوحيد في سوريا


رسلان جادالله عامر

الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 02:47
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


1- مقدمة:
2- لماذا لا تصلح الدولة الدينية في سوريا؟
3 - لماذا لا تصلح الدولة العلمانية في سوريا؟
4- ما هي الدولة المدنية؟ 3
5- دولة الخمسينيات السورية نموذجا:
6- كلمة ختامية:

1- مقدمة:
اليوم، وبعد مرور قرابة خمسة أشهر على سقوط الديكتاتورية الأسدية، التي جثمت على صدور السوريين أكثر من 54 سنة، مازال يكثر الجدل والقلق والتخوف فيما يتعلق بشكل الدولة السورية المستقبلية المنتظرة، وكثيرا ما يحتدم النقاش ويحتد بين المعسكر العلماني، الذي يريد دولة علمانية، والمعسكر الديني الذي يريد دولة دينية، ويتحول الكلام في كثير من الأحيان إلى معارك كلامية حامية، وفيها يحاول كل طرف شيطنة الآخر وحط قدره، ورفع قدر نفسه بالمقابل.
وما لا شك فيه أن حدة الجدل والتخوف بما يتعلق بمستقبل سوريا تربط بدرجة كبيرة بإسلامية السلطة الراهنة التي استلمت الحكم في البلاد بعد سقوط النظام السابق، والتي رغم عدم إعلان نيتها إقامة دولة دينية، فهي في الوقت عينه، لم تعلن، بل ولم تـُرِ أيضا، التزامها بالديمقراطية، التي غابت عن مفردات مخرجات ونص ما قدمته هذه السلطة كمؤتمر حوار وطني وكإعلان دستوري، وعلاوة على ذلك فهذا الإعلان نفسه أعطى لرئيس هذه السلطة صلاحيات تكاد تكون مطلقة، هذا إضافة إلى العديد من الإجراءات والممارسات الأخرى التي تمت من قبل هذه السلطة، والتي تتعارض أو تتناقض مع الديمقراطية بشكل مهم وواضح تماما، والتي يمكن أن يطول عنها الحديث؛ وهذا كله جعل في محصلته صورة مستقبل الدولة السورية جد ضبابية وجد مقلقة، وزاد كثيرا من حدة التوترات المرتبطة به على الساحة الشعبية.
وفي مثل هذا الجو المحموم، الذي يبدو فيه التباعد هائلا بين الطرفين العلماني والإسلامي، ويظهر معه بشكل جلي استحالة تطبيق أي من هذين الخيارين المتطرفين.. نظرا لكثرة مؤيدي كل منهما على أرض الواقع، وحدة رفضه لنموذج الآخر، يصبح من الضروري جدا البحث عن حل وسط، تتقارب عند الأطراف المتباعدة، وترضى به حلا وسطا مع الطرف الآخر، المتموضع في أقصى المسافة بين صفوف القوى الفاعلة اليوم داخل سوريا!
هذا الحل الواقعي يتمثل بـ"الدولة المدنية"، وبالأدق "الدولة المدنية الديمقراطية"!
وهذا الكلام موجه بشكل عام إلى جميع السوريين، ولكن بالدرجة الأولى، إلى الطرفين المتناقضين اليوم، الآنفي الذكر، أي كل من مريدي الدولة العلمانية ومريدي الدولة الدينية؛ وهذه الدولة، أي الدولة المدنية الديمقراطية، تستطيع أن تكون اليوم وفي المستقبل المنظور حلا وسطا يلتقي عنده هذان الطرفان وسواهما من الأطراف!
ولكنها ليست مجرد حل وسط وحسب.. وهذا ما سنعود إليه لاحقا!

2- لماذا لا تصلح الدولة الدينية في سوريا؟
سوريا مجتمع تعددي، والمجتمعات التعددية.. عندما تُحكم دينيا، فستُحكم من قبل إحدى طوائفها، وعادة الطائفة الأكبر، وهي ستُحكم بشريعة هذه الطائفة، وهذا ما سينتج نظاما طائفيا، وسينقسم الناس إلى حاكم ومحكوم على أساس ديني طائفي، وهنا سيحس أبناء الطوائف المحكومة بالغبن وعدم المساواة في وطنهم، ويشعرون بأنهم محكمون من قبل طائفة أخرى تفرض شريعتها عليهم، وعندها ستكون هذه الدولة وقانونها بنظرهم دولة الطائفة الحاكمة، التي لا مبرر لحكمها بهذا الشكل إلا لأنها أكثر عددا، وهذا لن يجعل هذا الحكم بنظرهم شرعيا.. بل سيكون ديكتاتورية أغلبية، وديكتاتورية غلبة، تقوم فقط على التفوق الكمي؛ ودولة اﻷغلبية هذه ستكون بالنسبة لهم دولة أجنبية مستبدة، وهذا سيؤجج التوتر والاحتقان الطائفيين.. ويمنع تحقيق الاستقرار في البلد.. ويقوض السلم المجتمعي فيها، ويمكن أن يؤدي إلى نزاعات طائفية .. تؤدي بدورها إلى تقسيم البلاد.
أي أن دولة دينية طائفية في سوريا تعني باختصار كارثة أخرى!
كارثة لن تنجو منها البلاد هذه المرة!

3 - لماذا لا تصلح الدولة العلمانية في سوريا؟
العلمانية في أي بلد لا تصلح عندما تكون وصفة مستوردة من الخارج، وهذا إلى حد كبير هو حالها الفعلي اليوم في المجتمع السوري الذي ما يزال بعيدا عن مستوى التطور الاجتماعي والثقافي المناسبين لعلمنة الدولة! فشرائح واسعة من عامة الناس، وهؤلاء ليسوا جميعا من طائفة معينة واحدة، لديهم رفض حاد متجذر للعلمانية، وأحد الأسباب الرئيسة لذلك هو جهلهم الكبير بالعلمانية واقتران صورتها في تصوراتهم بالعداء للدين والانحلال الخلقي، وتصحيح هذه الصورة وحده يحتاج إلى جهود جبارة!
وعلاوة على ذلك فشريحة كبيرة من "الأغلبية" السُّنية العربية في المجتمع السوري، هي اليوم في حالة غلواء دينية، وهؤلاء يريدون دولة دينية، وهم لن يرضوا قطعا بدولة علمانية، بل وسيكون من بالغ الصعوبة اليوم الاتفاق معهم حتى على دولة مدنية!
عدا عن ذلك، وهذا هام جدا، فمريدو وأنصار العلمانية، جلهم يكثرون في أوساط الأقليات الدينية والعرقية، التي تشكل أكثر من 40% تقريبا من مجموع سكان سوريا (أكراد، مسيحيون، علويون، دروز، اسماعيليون، آخرون...)؛ لكن أكثرية هؤلاء لا يريدون العلمانية لذاتها، بل ﻷنها بديل لدولة اﻷغلبية الدينية الطائفية، التي يرفضونها سواء كانت متشددة أو غير متشددة!
أي أن أكثرية المطالبين بالعلمانية في سوريا اليوم يريدونها على مبدأ "كرها بمعاوية وليس حبا بعلي"! وهم يريدون العلمانية رفضا لدولة اﻷغلبية الطائفية، وليس حبا أو قناعة بالعلمانية نفسها، وهم فعليا إلى حد كبير ليسوا جاهزين للاستجابة لمتطلبات ومفاعيل العلمانية، وإن تنازلت العلمانية لهم عن كل ما يرفضون التنازل عنه مما يتناقض أو لا يتوافق مع العلمانية، فعندها لن تعود هذه العلمانية علمانية بتاتا!
وكمثال على ما نقول، لو أننا سألنا عينة عشوائية من مريدي العلمانية من هؤلاء العامة سؤالا بسيطا.. عما إذا كان يقبلون بالمساواة بين أبنائهم وبناتهم في الميراث، وهذه ليست أخطر القضايا التي سيتواجهون مع العلمانية فيها، فسنرى من رد معظمهم الرافض بحزم لهذه المساواة كم هم بعيدون فعليا عن العلمانية!
وهكذا.. يمكن القول لكل يطالب اليوم من النخبة العلمانية بدولة علمانية أنه اﻵن يطلب الخيال.. ﻷن الشروط الذاتية والموضوعية اللازمة لإقامة نظام علماني في سوريا غير متوفرة إلى حد كبير!
وهنا يبقى أمامنا حل وحيد، وهو "الدولة المدنية"! فما هي "الدولة المدنية" إذن؟!

4- ما هي الدولة المدنية؟
لو عدنا إلى مصطلح "مدني" فسنجد أن له أكثر من معنى.
فـ"مدني" يمكن أن تعني "متمدن" أي غير "بدائي" أو "غير بدوي" (بالمفهوم الواسع لصفة "بدوي")؛ و"مدني" يمكن أن تعني "غير عسكري"؛ ومدني يمكن أن تعني "غير حكومي".. كما في قولنا "مجتمع مدني"؛ و"مدني" أيضا يمكن أن تعني "غير كهنوتي" أو "ليس من المؤسسة الدينية"؛ ومدني يمكن أن تعني أيضا "غير ديني".. بمعنى أنه متمايز أو مختلف عما هو ديني.
وهذه المعاني جميعها تدخل بأشكال ودرجات مختلفة في صياغة وطرح مشروع الدولة المدنية!
لكن البعض يرى أن مصطلح "دولة مدنية" هو مجرد تورية لمصطلح "دولة علمانية".. يستخدمها بعض العلمانيين تفاديا لإشكالية مصطلح العلمانية الذي يقترن خطأً بأذهان الكثيرين بتصور معاداة الدين والانحلال اﻷخلاقي، كما سلف الذكر!
فهل ستفيد هذه التورية اللفظية أو الحيلة الاسمية؟
فعليا.. لا، ﻷن المشكلة لا تقترن فقط بالتسمية المستخدمة.. وعند محاولة تطبيق المبادئ العلمانية في السياسة والاجتماع والميادين الأخرى عمليا تحت أي مسمى آخر، فهذه المحاولة ستواجَه بشدة وعلى نطاق واسع من قبل الفئات الدينية والمحافظة المتشددة، التي سترفض فصل الدولة عن الدين والمفاعيل المترتبة عليه، وبالتالي فهذه التورية الاسمية ستكون في ميدان العمل تماما بلا جدوى!
وبالمقابل، ففي الطرف المقابل نجد من يرى أن الدولة المدنية هي دولة تقوم على الشريعة الإسلامية.. ولكن لا يحكمها "رجال الدين"، بل "رجال الدولة" ولكن بالشريعة الإسلامية، ولذا فهم يستخدمون مصطلحات مثل "مدنية شرعية" أو "شرعية مدنية".. للدلالة على مفهومهم لهذه الدولة!
وهذا أيضا طرح بلا جدوى، فهذه الدولة فعليا ستبقى دولة دينية طائفية، وفي الوضع السوري الراهن هناك درجة كبيرة من التشدد، بل وحتى الغلو الديني في أوساط الأغلبية الطائفية السُنية، وهذا سينعكس بقوة على هذه الدولة لتكون دولة دينية طائفية متشددة، إن لم تكن متطرفة، أي أنها ستكون "دولة أغلبية دينية طائفية متشددة" ولا فرق عندها إن حكمها رجال دين أو رجال دولة، وهذه الدولة ستكون مرفوضة تماما من قبل اﻷقليات والنخبة العلمانية، بل وحتى من قبل المعتدلون من أبناء الطائفة السُنية نفسها، بسبب الطبيعة الدينية الطائفية المتشددة لهذه الدولة، بصرف النظر عن تسميتها أيا كانت هذه التسمية!
ومن المهم جدا ذكره هنا أيضا، أن الأمر لن يختلف كثيرا، حتى إن افترضنا إمكانية قيام "دولة دينية معتدلة".. وهنا قد يقدم البعض من الأقليات وغيرهم شيئا من التنازل ويقبلون بها، ولكن هذه الدولة ستبقى بشكل عام مرفوضة من قبل الأقليات الدينية، وسيرون فيها "دولة أغلبية" رغم اعتدالها، وسيشعرون بأنها دولة مختلفة هويويا عن هوياتهم، ولا تعبر عن هوياتهم وانتماءاتهم، وبالتالي ستنشأ بينها وبينهم حالة اغتراب وغربة، وسيغدو ابن الأقلية غريبا عنها وغريبا فيها.
والحال أيضا لن يختلف عند الشرائح العلمانية والليبرالية في مجتمع هذه الدولة، فهذه الدولة ستكون فعليا بعيدة عن ثقافاتهم وهوياتهم ومعاييرهم، وبالتالي ستكون بالنسبة لهم أيضا دولة غريبة مرفوضة.
وعندما تكون الدولة القائمة مرفوضة من قبل شرائح واسعة في مجتمعها، فهؤلاء سيشعرون بأنها دولة قسرية بالنسبة لهم، وفي وضع كهذا لن يتحقق السلم الأهلي والوحدة الوطنية والاستقرار السياسي، ولن تكون هذه الدولة دولة جامعة وقائدة لأبناء شعبها وموحدة لطاقاتهم لبناء بلد عصري موحد، بل على العكس من ذلك ستكون دولة مفرِّقة لهم ومسببة للتناقض بينهم ومثيرة الخصام والنزاع بينهم.
وإضافة إلى الفريقين المذكورين آنفا، ثمة فريق ثالث يرى أن "الدولة المدنية" هي دولة وسطية أو هجينة بين الدولتين الإسلامية والعلمانية المتطارفتين".. وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكنه مع ذلك لا يستنفد قطعا ماهية هذه الدولة، وهذا ما يمكن أن يطول فيه الحديث اﻵن دون أن يخدم الغاية السياسية التي نتغياها من أطروحة الدولة المدنية في هذا المقال!
ولذا سنقتصر في ما سيلي من الحديث عن تجربة من التاريخ السوري الحديث.

5- دولة الخمسينيات السورية نموذجا:
"الدولة المدنية" التي نطرحها في هذا المقال، هي ليست مجرد أطروحة نظرية، فلدينا في تاريخنا السوري الحديث نموذج فعلي متميز من هذه الدولة، فدولة الخمسينيات التي قامت في سوريا بين عامي1954 - 1958، وأنهاها قيام الوحدة مع مصر، ثم جرت محاولة استعادتها ببين عامي 1961- 1963 بعد سقوط دولة الوحدة وحتى قيام انقلاب البعث، وكانت - أي تلك الدولة- تقوم على دستور 1950، لم تكن مجرد دولة تخلط وحسب عناصرا من العلمانية والإسلام، وإنما كانت دولة على درجة جيدة من الديمقراطية والحداثة، ويمكن أيضا أن نقول عنها بدرجة مماثلة أنها كانت "ليبرالية محافظة"، فهي كانت دولة دستور وقانون، وتسمح بتداول السلطة، وبالتعددية السياسية، وبالنشاط المجتمعي المدني، وبالحريات الإعلامية والمعتقدية والثقافية؛ ولكن في الحدود التي لا تتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية، التي كانت عمليا مصدرا أساسيا من مصادر التشريع .. إضافة إلى مصادر أخرى كالليبرالية.
هنا قد يعترض معترض، ويقول أن هذه الدولة كانت تحتوي على فقرات تميز الإسلام والمسلمين في دستورها! وهذا صحيح! فهي قالت أن الفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع.. ولكنها مع ذلك أبقت الباب مفتوحا أمام المصادر الأخرى، فأخذت من الليبرالية مثلا كما بينا؛ وصحيح أيضا أنها حددت دين رئيس الجمهورية بالإسلام، ولكنها كانت دولة برلمانية، والقضاء قيها مستقل، والبرلمان فيها هو من يختار رئيس الدولة ويمنح الثقة للحكومة ولديه صلاحية إحالة الرئيس إلى المحكمة العليا إن اقتضى الأمر، وفيها رئاسة البرلمان ورئاسة مجلس الوزراء والنيابة والقضاة لم يكن يشترط فيهم الإسلام؛ وقد أوصلت هذه الدولة في انتخابات 1954 أول نائب شيوعي في العالم العربي إلى البرلمان وهو خالد بكداش؛ وهي كانت نسخة مطورة عن دولة الأربعينيات التي استقبلت عهد استقلالها برئيس وزراء مسيحي هو فارس الخوري!
وبالطبع، هذا لا يعني موافقتنا، كعلمانيين واقعيين سياسيا ويقبلون من منطلق واقعي عملي بالدولة المدنية، من حيث المبدأ على وجود فقرات دينية في دستور تلك الدولة، ولكن علينا ألا نجتزئ ذلك عن السياق العام لدستور تلك الدولة وأسلوب عملها، وألا نبالغ ونضخم المفاعيل السلبية لتلك الفقرات؛ وموقنا هذا لا يسعى إلى تجميل صورة تلك الدولة، بل يتعامل معها بشكل نقدي إيجابي بناء، ويبين ما لها وما عليها، في قراءة نقدية لحالها ضمن ممكنات ومعطيات واقعها التاريخي.
وعدا عما ذُكر آنفا، فتلك الدولة يمكن أن يؤخذ عليها أنها أبقت قانون اﻷحوال الشخصية قانونا دينيا.. وهذا اعتراض وجيه، ولكن في تلك الفترة.. في المجتمع السوري المحافظ آنذاك، تلك كانت هي حدود الممكن؛ والمجتمع السوري الراهن ليس أفضل قطعا، بل على العكس وبكثير! ولذا.. فتلك التجربة يمكن أن نجد فيها اليوم مخرجا من الاستقطاب العلماني/الإسلامي والخلاف الطائفي - الإثني الحادين.
وبالطبع هذا الطرح لا يعني حكما استنساخ تلك التجربة من الماضي ولصقها على الحاضر بشكل ميكانيكي، فهذا بهذا الشكل أيضا سيكون شكلا من سلفية من نوع آخر، والمطلوب اليوم الاقتداء بهذه التجربة، والاسترشاد بها، مع نقدها إيجابيا، والبحث عن سبل تطويرها بما يتناسب مع متطلبات وظروف الحاضر؛ وعلى سبيل المثال الفقرة التي تقول في المادة الثالثة من دستور 1950 "الفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع"، في ظروف الواقع الراهن المختلفة جدا عن ظرف الخمسينيات يجب تعديلها، فاليوم بخلاف الخمسينيات هناك حالة واسعة من التشدد الديني في أوساط الأغلبية السنية، وهناك درجة كبيرة من الاحتقان الطائفي وفقدان الثقة بين الجماعات المختلفة في المجتمع السوري بعد حرب داخلية كارثية استمرت عشر سنوات، أما فترة الخمسينيات فقد تميزت بوجود حالة من الاستقرار الداخلي والثقة المتبادلة ونمو الروح الوطنية الديمقراطية، ولذا فهذه الفقرة في ظروف اليوم يمكن أن يكون لها مفاعيل سلبية شديدة مختلفة كثيرا عن مفاعيلها في الخمسينيات حيث كانت محكومة بالجو الوطني الديمقراطي السائد حينها في البلاد، أما اليوم فضمن حالة اتساع رقعة وعمق التشدد الديني من ناحية والاحتقان الطائفي من ناحية أخرى، قد تغدو، أي تلك الفقرة الآنفة الذكر، ذريعة لدى بعض المتشددين الدينيين للسعي إلى تحويل الدولة إلى نمط "الشرعية المدنية"، وجعلها "دولة دينية" وهذا ما سيصطدم بقوة برفض من لا يريدون هذه الدولة الدينية، هذا عدا عن شدة إثارة تلك الفقرة بحد ذاتها في ظروف الاحتقان الشديد وغياب الثقة الراهنة للحفيظة والقلق والغضب في أوساط الأقليات، وما يمكن أن ينجم عنه من مفاعيل خطيرة، وفي محصلة كل ذلك ذلك يمكن أن تتقوض مساعي إقامة الدولة السورية!
وبناء على ذلك، فهذه الفقرة يجب أن تعدل بحيث لا تعطي أية إمكانية لاستغلالها للسعي إلى "تديين الدولة"، وربما يكون مفيدا وضعها بصيغة "الفقه الإسلامي هو مصدر أساسي للتشريع"، ما يتيح فرصة الاستخدام الفاعل لمصادر تشريعية أخرى، تلبي ضرورات تطور المجتمع السوري ولا تتصادم مع خصوصيته.

6- كلمة ختامية:
ختاما نتوجه إلى دعاة الدولة العلمانية ونقول لهم من منطلق واقعي عملاني محض.. كونوا واقعيين وعملانيين! إن أطروحة الدولة العلمانية اليوم هي أطروحة غير قابلة للتنفيذ، وتشبثكم بها يبعد الكثير من السوريين عنكم وعن الحل الصحيح المتمثل بالدولة المدنية الحقيقية، ولذا ركزوا طرحكم السياسي على الدولة المدنية الديمقراطية كحل واقعي؛ وهذا لا يمنعكم عمليا من مواصلة نشاطكم العلماني في نقد الواقع السوري بجوانبه المختلفة من منظور علماني، ومواصلة التعريف بالعلمانية والدفاع عنها والدعوة العامة إليها بما يتناسب مع الواقع السوري وما شابه؛ ولكن كبرنامج عمل لحظي عليكم اﻵن التركيز على الدولة المدنية، أما المستقبل فدعوه للمستقبل!
أما في ما يتعلق بـ"مشروع الدولة الدينية"، فهو فعليا أخطر بكثير من "أطروحة الدولة العلمانية"، حيث أن هذه اﻷطروحة بحد ذاتها هي اليوم دعوة نظرية، وهذه اﻷطروحة بحد ذاتها أيضا ليس فيها أي خطر خاص، فلن يحاول أي علماني اليوم فرض العلمانية قسرا وبالقوة على المجتمع السوري، لكن من العواقب الخطيرة لهذه اﻷطروحة أنها تشتت الجهود وتستفز المتدينين، وتضعف إمكانية تشكل قوة كبيرة داعمة لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية، وهذا ما يمكن أن يستغله أصحاب مشروع الدولة الدينية، وأخطر ما في هذا المشروع -أي مشروع الدولة الدينية- هو أنه قابل لمحاولة التنفيذ، وقد يُخيل ﻷصحابه أنه يمكن فرضه قسريا وبالقوة على كامل المجتمع السوري، وهنا ستكون الكارثة.. التي ستؤدي إلى النزاع الطائفي أو تقسيم البلاد، أو كليهما معا وهذا هو الأرجح..
لكن هذا ليس الاحتمال الوحيد، إذ يمكن في نهاية المطاف أن يمرر مشروع الدولة الدينية مترافقا بصيغة تحاصصية طائفية ما، وهنا سنحصل في المحصلة على دولة ثيوقراطية استبدادية تحاصصية هشة ومفككة وفاشلة!
إذن.. فمن يريد الخير لسوريا اليوم وغدا، عليه أن يسعى اﻵن إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية، فهذا اليوم أفضل ما يمكننا فعله، وهو ما يضمن لنا السير في الاتجاه الصحيح لبناء دولة وطنية حديثة موحدة، قادرة على البقاء والاستجابة لضرورات العصر، وضامنة لحقوق أبنائها بالعيش فيها بشكل متساو حياةً إنسانية حرة كريمة آمنة!



#رسلان_جادالله_عامر (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفكار وجيزة في العلمانية
- بشرى الحياة
- هل كانت ديكتاتورية اﻷسد حكما علويا أو بعثيا أو علمانيا ...
- ديالكتيك العَلمانية
- ما هي العلمانية؟
- التناقض الجوهري بين الدولة المدنية الديمقراطية ونظام المحاصص ...
- ما هي -الدولة المدنية الديمقراطية-؟
- الكتابة عن الحب والجنس في موضع جدل
- إشكالية الاختلاف، دور النظام الاجتماعي وإمكانية الحل
- ما هي -ما بعد العلمانية-؟
- بناء الثقة والأمن: البريكس والنظام العالمي
- إثنان من كارل ماركس
- العملية الحربية الخاصة وتغيير النظام العالمي
- عبد عدوه لا ينصر أخاه...
- كيف تتعامل العلمانية مع المسألة الجنسية؟
- تحليل الحمض النووي يثبت أن القديس لوقا هو من يقولون أنه هو
- الطائفية بين عصبية الطائفة وتردي المجتمع
- قصة حب ميهاي إمينيسكو وفيرونيكا ميكلي
- الديكتاتورية.. تقزيم الشعب وتأليه الزعيم
- مشكلة الزي بين المرأة العصرية والمؤسسة الدينية التقليدية


المزيد.....




- خامنئي يقيم المفاوضات النووية مع أمريكا.. ماذا قال عن وقف تخ ...
- هروب مترجم الوفد الأوكراني في مفاوضات اسطنبول
- وزير الدفاع الإسرائيلي: الشاباك أحبط محاولة إيرانية لاستهداف ...
- إسبانيا تفكك شبكة إجرامية هرّبت 41 ألف طن من البلاستيك غير ا ...
- المبادرة المصرية تشارك في المؤتمر الإقليمي حول حرية الدين وا ...
- استعان بشات جي بي تي لتنفيذ خطته.. فتى يطعن 3 طالبات في مدرس ...
- اشتباكات عنيفة بين الجيش السوداني والدعم السريع في أم درمان ...
- ألمانيا: ارتفاع عدد الجرائم ذات الدوافع السياسية بنسبة 40 با ...
- -ناشينال إنتريست-: دعم -الناتو- قيد قدرات أوكرانيا العسكرية ...
- زاخاروفا: روسيا تشعر بخيبة أمل من قرار تكثيف عمليات إسرائيل ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - رسلان جادالله عامر - الدولة المدنية الديمقراطية هي الحل الوحيد في سوريا