عبدالله سلمان
كاتب وباحث
(Abdallah Salman)
الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 21:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حين يحتقر الأبناء مجد الآباء لا يكونون بذلك أكثر وعيًا أو تحررًا بل يكشفون هشاشة في وعيهم التاريخي وضحالة في فهم سنن الحضارات، إنهم يُسارعون إلى دفن تراثٍ لم يقرؤه وتحقير تاريخٍ لم يدركوا عظَمته وكأنهم يُرضون عقدة نقص تجاه حاضر متعثر لا يُداوى بنكران الماضي بل بفهمه والبناء عليه.
ففي زوايا منصات التواصل الاجتماعي يتصاعد ضجيج لا يهدأ من أقلام أو بالأحرى أنامل امتلأت ثقة وافتقرت معرفة ، هجومٌ ممنهج يطال تاريخ العرب والمسلمين يُصوّره البعض على أنه أربعة عشر قرنًا من الفراغ والركود والانكفاء على الذات وكأن حضارةً امتدت من الأندلس إلى تخوم الصين لم تكن سوى استراحة قاحلة بين عصرين.
المضحك المبكي أن أغلب هؤلاء "النقّاد الجدد" لا يعرفون من التاريخ إلا تغريدة مبتورة ولا من الحضارة إلا صورة معدّلة بهوس شعوبي معادي للعرب يقارنون واقع أمتهم المنهكة اليوم بأوروبا التي قطعت قرونًا من التراكم العلمي والمؤسسي دون أن يسألوا أنفسهم من الذي أوصل شعلة الحضارة إلى الغرب حين كان غارقًا في ظلمات العصور الوسطى؟
نحن هنا لا لنبكي على الأطلال بل لنسوق الحجة بالحجة ونضع بين أيديهم مرآةً عاكسة تقول لهم، لسنا نحن من يجهل التاريخ بل أنتم من يجهل أنكم تجهلونه.
في الوقت الذي كانت فيه بغداد تصنّف الكتب كما تُصنّف النجوم وكانت قرطبة تنير شوارعها بمصابيح المعرفة قبل أن تعرف شوارع لندن معنى التبليط كان الغرب يتخبّط في ظلمات الجهل ويعلّق الأمراض على الأرواح الشريرة ويحرق العلماء بتهمة الهرطقة. أوروبا التي يتغنى بها "الساخرون من الماضي" اليوم كانت يومًا تسأل المسلمين كيف تُحسب الكسوف وتُركّب الأدوية وتُدار المدن وتُترجم الحكمة.
لم يكن العرب مجرد ناقلين بل صانعين ومطوّرين ومجددين فابن الهيثم أسس المنهج العلمي التجريبي قبل أن يُولد ديكارت وابن رشد شرح أرسطو بما لم يفعل اليونان أنفسهم وابن خلدون كتب علم الاجتماع قبل أن يخطر على بال أحد أن للمجتمعات قوانين كقوانين الطبيعة.
أما الذين يرون ذلك "ماضٍ لا يُؤكل خبزه"، فنقول لهم الحضارات لا تُقاس بضعفها العابر بل بمساهمتها الكلية في مسيرة الإنسان ومَن لا يملك عدلاً في الميزان التاريخي فهو أبعد ما يكون عن فهم الواقع.
عندما تَخْجل الحقيقة... يتحدث المزورون
في معرض تمجيد الحضارة الغربية يتناسى الكثير عن جهل أو تجاهل أن كثيرًا من أعمدة "نهضتها" العلمية ما هي إلا لبناتٌ وُضعت بأيادٍ شرقية ثم نُسبت زورًا إلى غير أهلها. هل تعلمون مثلًا أن كوبرنيكوس الذي يُحتفى به كمحرّر علم الفلك من قبضة الكنيسة استقى نظريته عن مركزية الشمس من أبحاث فلكيين مسلمين أمثال البتاني والطوسي وابن الشاطر؟ لكنها نُقلت إلى أوروبا عبر الترجمة ثم مُحيت الأسماء كما يُمحى الحبر عن ورق قديم.
أما الدورة الدموية الصغرى تلك التي تُنسب خطأً إلى ويليام هارفي فكان قد شرحها ابن النفيس بدقة لا تخطئها عين عالِم قبل أن يُولد هارفي بثلاثة قرون وماذا عن جابر بن حيان أب الكيمياء الذي وضع أسس علم لا تزال أوروبا تفاخر به؟ سُرقت كتبه تُرجمت ثم أُعيد طبعها باسم "Geber" وكأنما لم يكن بشرًا عربيًا مسلمًا يتنفس العلم في الكوفة!
كل هذا التزوير لم يكن وليد الصدفة بل نتيجة منظومة أرادت أن تبدأ التاريخ من عندها ولا تعترف لمن سبقها إلا بنصوص فلسفية جافة أما العرب فحين صنعوا التاريخ لم يتوقفوا ليلصقوا أسماءهم عليه لأنهم كانوا مشغولين بصناعته لا بتسويقه.
من السخاء إلى الأنانية: قصة العلوم المسروقة
حين قدّم العرب والمسلمون علومهم للعالم لم يفعلوا ذلك بتعالٍ ولا بشروط ولم يحتكروها ولم يضعوا عليها "براءة اختراع" بل بسطوها أمام البشرية كما تُبسط المائدة في وجه الجائع وتُرجمت كتبهم إلى اللاتينية ونُقلت من قرطبة إلى باريس ومن بغداد إلى روما فتعلّم الغرب الطب من الرازي والجبر من الخوارزمي والبصريات من ابن الهيثم دون أن يُمنع أو يُقصى أو يُسأل عن دينه أو لونه.
لكن حين دارت عجلة الزمن وتقدّمت أوروبا بفضل ما نهلته من تلك العلوم لم ترد الجميل بل اختارت أن تحتكر ما أخذته بسخاء فطمست أسماء العلماء المسلمين وحرّفت نسب النظريات وأعادت طباعة الكتب بأسماء جديدة وكأن التاريخ يبدأ عندها وحدها، لم يكن ذلك مجرد نسيان بل سياسة أنانية ممنهجة أرادت أن تُقنع العالم أن النهضة وُلدت من فراغ وأن العقل الغربي أوجد نفسه بنفسه دون الاعتراف بمن أشعل له شمعة الطريق.
رغم ما يروّج له الغرب من شعارات الانفتاح وحرية المعرفة فإن الواقع يكشف عن وجه آخر أكثر أنانية وانتقائية فان طلاب من جنسيات عربية وإسلامية وحتى من دول "العالم الثالث" عمومًا يُمنعون صراحة أو ضمنيًا من دخول تخصصات بعينها في جامعات غربية مرموقة خاصة في مجالات مثل علوم الفضاء، الطاقة النووية، الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا السلاح والاتصالات المتقدمة بحجة "الاعتبارات الأمنية" أو "حماية المصالح الوطنية"، تُرفض طلبات دراسات عليا أو تُعطّل تأشيرات أو يُشترط على الطالب تغيير تخصصه فقط لأنه يحمل جنسية "غير موثوق بها" وفق تصنيف استعماري جديد.
وقد رأينا كيف أُفرغ العراق بعد احتلاله من علمائه في الذرة والهندسة الحيوية وتكررت هذه السياسة بأساليب ناعمة أو خشنة مع دول أخرى في محاولة واضحة لاحتكار المعرفة الحساسة وحرمان الأمم الأخرى من وسائل النهوض الحقيقي.
هكذا يتعامل الغرب مع العِلم لا كرسالة للبشرية بل كسلاح استراتيجي يُمنح أو يُمنع حسب الجغرافيا والهوية.
بينما لم تكن الأندلس وقتذاك مجرد ولاية إسلامية في الغرب بل كانت الجامعة الكبرى المفتوحة التي دخل منها الغرب إلى عالم العلم ففي مكتبة قرطبة وحدها وُجد أكثر من 400 ألف كتاب في زمن كانت أكبر مكتبة في أوروبا لا تملك أكثر من ألفين كتاب في الجامعات الأوروبية الوليدة مثل أوكسفورد وبولونيا التي أُسست بعد قرون من نشأة المدارس والجامعات الإسلامية مثل الزيتونة والقرويين والأزهر والمستنصرية.
وفي الأندلس كان المسيحيون واليهود يتعلمون إلى جانب المسلمين يدرسون على أيدي فقهاء وعلماء المسلمين دون تمييز حتى الراهب جربرت الذي أصبح لاحقًا البابا سيلفستر الثاني تعلم في قرطبة وأخذ منها علم الرياضيات والفلك ثم عاد إلى روما حيث قُدّم على أنه أول "بابا مثقف"، دون أن تُذكر أصول علمه.
خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر نشطت حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية عبر مراكز مثل طليطلة وصقلية لكن هذه الترجمات لم تكن دائمًا أمينة فبينما كان الهدف المعلن هو نقل العلم كان ما يحدث غالبًا طمسًا للهوية الأصلية للمؤلفين.
قبل أن يحدثنا البعض عن "التقدم الغربي" ليتهم يراجعون أوروبا الغربية نفسها في خمسينيات القرن العشرين أي قبل أقل من 80 عامًا حين كانت المرأة لا تملك حق العمل ولا الحساب البنكي وتُعامل ككائن تابع يُطلب منه الصمت والطاعة لم تكن المرأة في معظم دول الغرب سوى ظل لرجل يقرر عنها ويحق له قانونًا "تأديبها" أما في القرون التي سبقت ذلك فحدّث ولا حرج كانت تُعامل كخادمة تُباع وتُشترى وتُورَّث وتُحبس وتُستعمل في الحدود العقابية كأداة للتشهير لا كإنسان له كرامة.
وعن العبيد؟ أوروبا بنت اقتصاداتها الحديثة على ظهورهم فرنسا، بريطانيا، بلجيكا، إسبانيا وهولندا جميعها شاركت في أسواق العبيد وسفك الدماء في المستعمرات ومعاملات لا تختلف كثيرًا عن منطق "داعش" الإجرامي بل فاقته في التخطيط والاستمرار والوحشية المقنّنة.
وإذا أردتم رمزية أقوى فكرة القدم اللعبة التي توحّد الشعوب اليوم كانت بحسب مصادر تاريخية قد بدأت عندما كان الجنود الإنجليز يركلون جماجم الجنود الفرنسيين المهزومين في ساحة المعركة. فهل هذه بداية حضارية؟ أم دموية تُلمّع بطلاء أخلاقي زائف؟
نحن هنا لا نكتب مرثيةً للماضي ولا نحاول تجميل صورة العرب اليوم نحن نعي تمامًا أن العالم العربي يمرّ بمرحلة مأساوية تحتاج ثورة شاملة في الفكر والاقتصاد والسياسة والتعليم لا ننكر تراجعنا ولا نتجاهل حجم الكارثة الحضارية التي نعيشها بل نواجهها بوعي وصدق.
لكن كل أمة تمرّ بمراحل صعود وهبوط. ان الحضارات لا تولد كاملة ولا تموت فجأة فاوروبا نفسها مرت بعصور مظلمة من الجهل والاستبداد والاقتتال ثم نهضت حين امتلكت أدوات الوعي والمعرفة كثير منها جاءها من العرب أنفسهم وكذلك حالنا اليوم لسنا عاجزين عن النهوض فنحن أمة حيّة تحمل في تاريخها ومقدّراتها كل مقوّمات النهوض ولسنا قدرًا محكومًا بالهزيمة أو التراجع الأبدي غير أن أول طريق للعودة يبدأ بإعادة الثقة بجذورنا الحضارية وفهم موقعنا الحقيقي في مسار التاريخ فبدلًا من أن نهدم ما مضى بسخرية الجاهلين ينبغي أن نبني عليه بوعي الحالمين العاملين لأن الأمم التي تجهل ماضيها تهيم في حاضرها وتضيع في مستقبلها.
#عبدالله_سلمان (هاشتاغ)
Abdallah_Salman#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟