عبدالله سلمان
كاتب وباحث
(Abdallah Salman)
الحوار المتمدن-العدد: 8338 - 2025 / 5 / 10 - 16:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تُعتبر السيادة الوطنية أحد أبرز المبادئ التي تقوم عليها الدولة الحديثة حيث تمنح الدولة القدرة على اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية بحرية وعلى حماية حدودها ومصالحها دون تدخل من قوى خارجية. لكن عندما تواجه الدولة تحديات داخلية وخارجية قد تكون ذات طابع معقد مثل الانهيار المؤسسي أو التدخلات الإقليمية والدولية ذلك يعرض السيادة الوطنية للتآكل.
وتشكل اتفاقية خور عبد الله التميمي 2012 مثالاً حياً على هذا التحدي حيث تُظهر كيف أدى انهيار الدولة العراقية بعد 2003 إلى انتقاص سيادتها في مسألة بحرية حيوية.
اذ لم يعد العراق قادراً على الحفاظ على مؤسسات الدول منذ احتلاله في 2003 التي كانت تمثل أداة السيطرة والتنظيم في البلاد. كما ان حل الجيش العراقي وتفكيك اجهزة الدولة ترك فراغًا أمنيًا عميقًا. وعلى مستوى آخر تصاعدت الاختلالات السياسية نتيجة للصراعات الطائفية والمناطقية التي ساعدت على تمكين الميليشيات والبيشمركة لملء هذا الفراغ الأمني مما أدى إلى إضعاف السيادة الوطنية وافتقاد الدولة لسلطتها المركزية.
ان النفوذ الإيراني في العراق بعد الاحتلال أحد أبرز العوامل التي ساعدت على تمدد الميليشيات التي أصبحت تلعب دورًا مؤثرًا في صناعة القرار السياسي في العراق وان قادتها هم الأكثر استفادة من توقيع هذه الاتفاقية و بالتوازي مع هذا كان الاحتلال الأمريكي وتدخلات القوى الدولية الأخرى العاملين الرئيسيين في تقويض قدرة العراق على اتخاذ قراراته المستقلة.
اتفاقية خور عبد الله التميمي المزعومة: تقييد السيادة العراقية مستقبلا
في عام 2012 تم التوقيع على اتفاقية الملاحة البحرية المزعومة في خور عبد الله التميمي بين العراق والكويت والتي شملت تنظيم الملاحة البحرية في الخليج وتحديد الحدود المائية بين البلدين. لكن سرعان ما أثار هذا الاتفاق جدلاً واسعًا في الساحة السياسية العراقية خصوصًا في سياق فقدان السيادة العراقية على جزء من إقليمها المائي الحيوي فإن الاتفاقية لا تعكس مصلحة العراق بل تمثل تنازلاً استراتيجيًا عن جزء مهم من الإقليم البحري للعراق.
تتمثل أبرز المخاوف القانونية في أن اتفاقية خور عبد الله التميمي التي تضمنّت ترسيم حدود بحرية جديدة تقيد حرية العراق في التنقل والتجارة البحرية عبر الخليج العربي. علاوة على ذلك فإنّ التزام العراق بموجب الاتفاقية قد يؤدي إلى تحجيم قدرته على استغلال موارده البحرية في المستقبل سواء في ما يتعلق بالموانئ و الملاحة أو الحقوق الاقتصادية المرتبطة بالجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة.
استنادًا إلى هذه المخاوف الجوهرية يمكن إلاشارة الى ثلاثة أسس من القانون الدولي رئيسية تمسّ جوهر السيادة العراقية .
أولا:- مخالفة مبدأ السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية والمنافذ البحرية
الاتفاقية بحسب فقهاء القانون الدولي تُعد انتقاصًا لحق العراق في السيادة الكاملة على منافذه البحرية خاصة أن خور عبد الله يُعتبر منفذًا استراتيجيًا وحيويًا للعراق إلى الخليج. التنازل أو تقليص حقوق العراق في هذا الشريان الحيوي يخالف مبدأ السيادة الدائمة على الموارد والممرات الطبيعية المعترف به في القانون الدولي.
ثانيا:-غياب التوازن في المكاسب بين الطرفين
الاتفاقيات الدولية كي تكون مشروعة ومُلزمة قانونًا بشكل مستقر تفترض توازن المصالح بين الدول . غير أن تحليل بنود اتفاقية خور عبد الله التميمي المزعومة يُظهر رجحان مصلحة الجانب الكويتي في تنظيم الملاحة والحد من حرية العراق في الاستخدام مقابل مكاسب محدودة للعراق وان المسوؤلين عن توقيع الاتفاقية بشخوصهم واحزابهم سبب هذا الاختلال ويندرج هذا الحال ضمن مفهوم الاتفاقية المجحفة (Unequal Treaty)، التي اثارت جدلًا حول شرعيتها.
ثالثا:- التوقيع في ظل إرادة سياسية منقوصة (الإكراه غير المباشر)
القانون الدولي يعترف بأن الاتفاقيات الموقعة تحت ضغوط سياسية غير متكافئة أو في ظروف هشاشة سيادية (مثل احتلال أو ضعف مفرط للدولة) تكون قابلة للإبطال أو المراجعة. العراق وقت توقيع الاتفاقية كان يمر بظروف تفكك داخلي وتدخلات إقليمية واسعة وهو ما يضعف حجية الرضا الكامل (Free Consent) المفترض في المعاهدات.
ومن المهم الإشارة إلى أن اتفاقية تنظيم الملاحة لعام 2012 تضمنت بنوداً إشكالية اخرى أبرزها ما ورد في المادة 2 المتعلقة بترسيم الحدود بعد العلامة 162 باتجاه مدخل خور عبدالله وصولاً إلى الخليج العربي. هذا التحديد يُعد خطأً كبيراً ينطوي على تدليس واضح وضغط سياسي على ممثل العراق لقبول هذا الطرح. ويُضاف إلى ذلك أن هذه الاتفاقية أُرفقت ببروتوكولات أمنية تعود لعام 2008، والتي تناولت في جزئها الثاني رسم الحدود من العلامة 162 صعوداً حتى العلامة 135 باتجاه الزبير، بينما كان الجزء الأول قد تم ترسيمه استناداً إلى قرار مجلس الأمن 833. وقد جرت هذه العملية دون إشراك وزارة الخارجية العراقية أو ممثلي الوزارات الأخرى المعنية مما يثير شكوكاً حول نزاهة الإجراءات.
ورغم ذلك صادق البرلمان العراقي على الاتفاقية منتصف عام 2013 أعقبها توقيع اتفاقية أخرى في تشرين الثاني 2013 لتنظيم الملاحة وقد جاء الهدف منها تقييد نشاط الصيادين العراقيين وأعمال الكري ومنعهم من مزاولة أنشطتهم التي أقرّها لهم القرار الدولي 833، والمتوافقة مع اتفاقية قانون البحار لعام 1982.
ان الاتفاقية لم تلغى لكنها تحتاج تصويت البرلمان العراقي عليها من اجل حصول ثلثي الأصوات وان لم يحصل ذلك سيعاد النظر بالاتفاقية والمداولة للتعديل عليها لذا ليس هناك ما يستوجب تحرك الكويت المحموم لحشد دعم لها من الأمم المتحدة والمؤتمر الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي و الجامعة العربية . وهنا نطرح سؤال ان كانت الكويت لم تدلس في الاتفاقية ولم ترشي أحدا لماذا كل هذا التحشيد؟ ما يثير حدة الريبة حول الاتفاقية ان الكويت مارست الرشوة والتدليس من اجل إتمام هذه الاتفاقية فان كان ذلك حقها الطبيعي لماذا تستغل الجو العام للفساد المستشري في بنية النظام السياسي.
من زاوية أخرى ان الاتفاقية تمثّل تقييدًا دائما لحرية العراق في استخدام أحد أهم ممراته المائية وهي بذلك تقيد سيادة الدولة على إقليمها البحري كما أنها تؤسس سابقة قانونية قد تُستخدم لاحقًا في مفاوضات دولية مماثلة للضغط على العراق للتنازل عن حقوق سيادية أخرى.
إن اتفاقية خور عبد الله التميمي ليست مجرد اتفاقية بحرية فحسب بل هي علامة على أزمة السيادة في العراق فكما يبرز في تحليل الاتفاقية فإن هشاشة الدولة العراقية هي العامل الرئيسي الذي سهل تمرير هذه الاتفاقية التي تمس مستقبل العراق الاقتصادي وأمنه السيادي على المدى البعيد. إن التقليل من قدرة العراق على التحكم في مياهه الإقليمية يعزز من هيمنة القوى الإقليمية سواء كانت الكويت أو دول أخرى ويجعل العراق أكثر عرضة للتأثيرات السياسية والاقتصادية الخارجية.
إن سيادة الدول لا تتجسد فقط في حدودها الجغرافية أو في قواتها المسلحة بل تمتد إلى قدرتها على اتخاذ قراراتها بحرية بعيدًا عن الضغوط الخارجية. ان العراق اليوم وبسبب مرحلة اللا دولة التي يعيشها منذ 2003 أصبح أكثر عرضة للضغوط الخارجية ما أدى إلى انتقاص سيادته بشكل ملحوظ فكلما استمر الوضع العراقي على هذه الحال تبقى السيادة العراقية في غياب تام وقد نصل في المستقبل إلى مرحلة يصعب فيها استعادة الحقوق السيادية التي فقدت بفعل التنازلات المستمرة.
إن استمرار انتقاص السيادة العراقية ليس قدراً محتوماً بل نتيجة مباشرة لمنظومة 2003 وارتهان قرارها السياسي لمصالح خارج إرادة الشعب فان اتفاقية خور عبد الله التميمي المزعومة ليست سوى واحدة من تجليات هذا الانهيار وقد عمّقت قناعة العراقيين بأن حكوماتهم لا تدافع عن حقوقهم بل عن مصالح أحزابها فبدون دولة تمثل إرادة شعبها ستبقى السيادة مجرد شعار تُفرغه التنازلات المتكررة من محتواه.
#عبدالله_سلمان (هاشتاغ)
Abdallah_Salman#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟