|
تقنيات تحارب غيبيات (2)
عادل صوما
الحوار المتمدن-العدد: 8338 - 2025 / 5 / 10 - 02:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لفهم هذا المقال أرجو من القارئ قراءة السابق، فقد دفعني ما قيل عن تسريبات صوتية بين الرئيسين عبد الناصر والقذافي والتعقيبات والمداخلات حولها، إلى كتابة هذا الجزء. جذور الحالة ملخص ما ورد في التسريبات أن الرئيس عبد الناصر سنة 1970 بدا أكثر مرونة في تشدده في مواجهة إسرائيل، وإذا صبت مداخلات الكتّاب والسياسيين والمحللين على ضرورة فتح ملف التطبيع مع إسرائيل والسلام معها، من خلال الحديث التي نُشر في الإعلام بعد خمس وخمسين سنة من وقوعه، وما تم فعلياً بعد ذلك، فأنا سأختار مداخلة أكثر شمولا، وهي جذور الحالة الإسلامية في مواجهة إسرائيل والآخر بشكل عام، والمؤكد أن عبد الناصر جزء منها. الحالة الإسلامية وأصولها الأولى في لا وعي أي مسلم لا تقبل أي دين آخر (لا يجتمع في الجزيرة دينان). حديث سياسي تماماً لا علاقة له بإيمان، فالنص القرآني ذكر المسيحية واليهودية كمرجعيات له، كما ذكر المسيح وموسى أكثر مما ذكر محمد، بل أن اليهودية وقصص بني إسرائيل يحتلون أكثر من ستين في المئة من مضمون السوّر! هذا الحديث السياسي طُبق أيضاً أينما حل المسلم بنسب تفاوتت بين مكان وآخر، وحسب قوة وضعف الحاكم الإسلامي أو مدى تقبله للآخر أحياناً، وبداهة يجب أن يُطبق على دولة إسرائيل الحديثة في منطقة الشرق الأوسط، لأن الصراع اتخذ شكلاً دينياً، رغم ما ورد في القرآن عن أحقية اليهود في الأرض المقدسة، وعدم ذكر فلسطين أو الفلسطينيين ولو لمرة واحدة، وهي مفارقة غير مفهومة، ففي سنة 135 ميلادية تم استخدام مصطلح فلسطين/سورية لتسمية مقاطعة رومانية جديدة نتيجة اندماج سورية ويهودا، وهما مقاطعتان رومانيتان، بعدما سحقت السلطات الرومانية الثائر اليهودي بارخوبا الذي إعتُبر المسيح المخلص وقاد الثورة اليهودية الثالثة ضد الرومان. سجناء الازدواجية في خطاب مكتوب نصح الرئيس عبد الناصر الرئيس جون كنيدي، بتجاوز ما يقوله الرؤساء العرب عن إسرائيل إعلاميا، لأنهم مضطرون إلى مسايرة العامة. ما يعني وجود سكيزوفرانيا دينية تجمع كل الرؤساء العرب، وتجعلهم يوجهون خطابين متناقضين تماماً؛ سياسي للسياسيين وديني لشعوبهم. الأمر محيّر حين نعرف دهشة الرئيس عبد الناصر، صاحب النصيحة إلى كيندي، عندما سأل الرئيس الحبيب بورقيبة عن نسبة المزاح في ما قاله بورقيبة عن التفكير في ضم إسرائيل مستقبلاً لعضوية جامعة الدول العربية بسنوات قبل 1967، ورد الرؤيوي بورقية: صفر. الرئيس عبد الناصر كان سجين الحالة الإسلامية الصحراوية (لا يجتمع في الجزيرة دينان) التي كانت ضرورية آنذاك لتحويل الإسلام من فرقة وُلدت من رحم اليهودية/المسيحية إلى دين جديد، تتربص به قبائل مهزومة لم تزل تقريباً على معتقداتها القديمة، أو على عدم ولائها التام لمحمد، لكن هذه الضرورة لم تعد واقعية بعدما أصبح الإسلام ديناً عالمياً والمسلمين ملياراً في ستينات القرن العشرين، ويستحيل أن يصطدموا بكل سكان الكوكب، ورغم ذلك ظلت الفكرة الصحرواية تورث في الجينات، بسبب تلقين أصحاب العمائم للعامة طوال مئات السنين. من تجليات هذه الحالة على عبد الناصر معاداته للمستعمر بالمطلق وترويجه لعدم عدم وجود أي ايجابيات فعلها أثناء احتلاله، رغم القفزة الحضارية التي فعلها المستعمر للشرق الأوسط، وشهد بها كل المؤرخين وفيهم مسلمون، كما تناسى عبد الناصر غض الإستعمار النظر عنه وعن وصول الضباط الأحرار للحكم، رغم أن 70 ألف عسكري بريطاني كان يمكنهم وأد انقلاب يوليو 1952 في اليوم الأول، ناهيك عن معاداته المطلقة غير القابلة للتفاوض أو حتى قبول دولة إسرائيل في الشرق الأوسط، ثم حربه عليها رغم أنها لم تعتد على مصر، ناهيك عن تأكيد قادته العسكريين بعدم وجود ما يريب على حدود سورية وعدم وجود حشود إسرائيلية. حرب صفرية إذا كان الزعيم المُلهم والرجل الأوحد لم يقل "حنرمي إسرائيل في البحر"*، فمن صاحب السلطة الأكبر الذي قالها ونسبها إليه وانتشرت؟ كان الموعد بعد الانتصار الصفري الذي وعد عبد الناصر به في تل أبيب، لدرجة أن أم كلثوم قالت أن حفلتها القادمة سكون هناك، ومحمد رشدي غني أغنية "يابو خالد يا حبيب.. بكره هندخل تل أبيب" احتفالا بالنصر الموعود في قاعدة أنشاص العسكرية يوم 4 يونيو 1967! ثم أفاق الجميع على فضيحة عسكرية غير مسبوقة تاريخياً، أطلق عليها عبد الناصر نكسة، ثم بدأ يوماً بعد يوم يفيق من وهم الحالة الإسلامية العسكرية الصفرية في مواجهة إسرائيل، فالعالم تغيّر وموازين القوى اختلفت، ونتيجة لشخصيته المضطربة وإيمانه وتحالفاته الورقية وتهوره، احتلت إسرائيل الجزء الغربي من أورشليم وكل سيناء وهضبة الغولان والضفة الغربية. ادرك عبد الناصر نتائج أحلام يقظته، وأوهام حربه الصفرية المرعبة، ونصح الملك حسين في مؤتمر الخرطوم بالقيام حتى بتحالفات استثنائية (مع إسرائيل) لإستعادة الضفة الغربية، وقال ما قاله في جلساته مع القذافي، وفي مؤتمر الخرطوم علانية لكل الملوك والرؤساء الحاضرين، وما لا نعرفه أعظم بكثير من المُعلن، لكن عبد الناصر نفسه لم يأخذ أي خطوة باتجاه مفاوضات مع إسرائيل، لأنه رئيس مهزوم وسيُملى عليه ما تريده إسرائيل وسادة العالم، وغروره، حتى لو إنكسر، أعظم بكثير من أن يتحمله. الخروج من الحالة حاول الرئيس السادات تحويل الصراع مع إسرائيل من حالة صفرية كانت نتيجتها كوارث وفقدان أراض وخسائر، إلى "صراع حضاري"، كخطوة أولى بناءً على إتفاق السلام معها، لكنه واجه سكيزوفرانيا الحالة الإسلامية الصفرية الرافضة تماماً لإسرائيل، التي يتغذى العامة عليها ويستحيل على أي رئيس مسلم تجاهلها، وكانت قمة هذه السكيزوفرانيا الصفرية/الإعترافية، توجيه محمد مرسي الرئيس الإخواني رسالة لرئيس وزراء إسرائيل افتتحها بقوله "صديقي العظيم"، بينما منابر مصر تدعو على الإسرائيلين بالفناء وعقم نسائهم وتبديد شملهم وتلف مزروعاتهم! الإتفاقات الإبراهيمية كل معاهدات السلام مع إسرائيل يُقال عنها أنها بين حكومات وليست بين شعوب، لأن الحالة الإسلامية الحربية الصفرية الواهمة لم تزل مسيطرة، وأحد الحلول هو ضخ الدماء مرة ثانية وبأسرع وقت في الاتفاقات الإبراهيمية التي لم تُفعّل، بغض النظر عما يحدث في غزة، فمن هذه الاتفاقات سيخرج حلا إنسانياً لأهالي غزة وليس العكس، كما يعتقد (علانية) ولي العهد السعودي ويقول عكس ما يعتقد إعلامياً. تفعيل الإتفاقات الإبراهيمية يلزمه تجييش أصحاب العمائم بقرارات سياسية بدعمها لتأثيرهم الكبير على شارع أصابوه بهوس ديني، فهم تابعون لرجال السياسة ويتخذون من الدين وسيلة للإقناع، وعلى رأسهم الأزهر الذي كان مؤسسة شيعية في بلد شيعي، ثم أصبح سُنياً في بلد سُني بقرار سياسي من صلاح الدين الأيوبي. هذه الاتفاقات ستخلق شرقاً أوسطياً جديداً ورابع أكبر اقتصاد في العالم، بين من يملكون التقنية ولديهم القدرة على الاختراع، وبين من يستطيعون الانتاج واستهلاك وتصدير فائض ما ينتجون، عوضاً عن العسكريات الغيبية الصفرية التي لم تحقق شيئاً حتى الآن سوى ما رأيناه منذ 1948 مروراً بأكتوبر 2023 حتى اليوم وأشباح "حماس"تحت الأرض يضربون بعصا السنوار! يؤمن العامة بناء على "العسكرية الواهمة الصفرية" أن إسرائيل ستزول ولو بعد خمسمئة سنة أو ألف سنة أو عشرة آلاف.. السنوات لا تهم بل الأمل وإحياء القضية بدماء الناس وترمل النساء وإعاقات الشباب ودمار الأرزاق وضياع الممتلكات. حذّر الإمام علي مِن اتباع الهوى وطول الأمل لأنهما يُنسيان الآخرة. بعيداً عن نيسان الآخرة الذي قصده الخليفة الذي خُدع سياسياً من المبشرين بالجنة، الهوى لا يجدي على الأرض لمواجهة وقائع الحياة، ويتسبب طول الأمل الذي لا يتحقق في خلق عالم مواز لا ينتمي للواقع وفناء الصحة والجهد والعمر والأجيال.
*ليس غريباً أن يقول عبد الناصر هذه العبارة، فسجل خطاباته مملوء بحماسيات جوفاء تشبهها، مثلما قال ووعد للأمة "حنحارب إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل".."حنهزم إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل". ورده على عدم رضا أميركا عن عبثياته السياسية: "إللي مش عاجبه يشرب من البحر المتوسط، وإذا ما عجبوش يشرب من البحر الأحمر". طلب الرئيس ليندون جونسون تفسير كلمة طظ التي قالها عبد الناصر "طظ في أميركا" قبل سنة 1967، وعندما فهم المعنى قال جونسون: "سيدفع ثمنها غالياً جداً". كما كانت خطابات عبد الناصر العلنية مليئة بالسباب وتهم الخيانة وعدم اللياقة وفقدان الإحساس بالكلمة أمام تصفيق الناس، فهو من قال عن الملك سعود في خطاب جماهيري: "ملك الجواري وملك الحريم بيعمل إيه؟ هل حيكسب؟ ملك الجوارى إللي كان بيقول السنة إللي فاتت أنه حينقل المعركة لقلب القاهرة لقاها جياله من تحت في اليمن، بيعمل إيه؟ طبعاً بيتجنن، ملك الجواري إللي دفع 7 مليون علشان يسيطر على سوريا، لقى ركبه سابت من اليمن". وقال عن الملكيّن سعود وحسين "عندنا خساير، أنا حاقول لكم عدد الخساير بالكامل، ومن أول يوم لغاية امبارح. الخساير إللي عندنا 136 ضابط وعسكري، الضباط 21 والجنود 115. كل واحد فيهم جزمته أشرف من تاج الملك سعود والملك حسين". وكان يقول عن الملك حسين تهكما متجاوزا الأعراف العربية التي تمنع سب الأم: "حسين ابن زين". وقال في خطاب آخر عن الملك حسين "الملك الفاجر العاهر". ووصف رؤية الرئيس بورقيبة الثاقبة في التعامل مع إسرائيل بدلا من عداوتها: "بيطلع بورقيبه النهارده ويأخذ هذا الخط، خط يخدم الاستعمار ويخدم الصهيونية، ما هو هدف بورقيبه؟ هدف بورقيبه في هذا أن نيأس من حاضرنا، ونقول بعد مؤتمرات القمة آدي رئيس عربي طالع أهو وبيتكلم هذا الكلام.. بورقيبه مجرم".
#عادل_صوما (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تقنيات تحارب غيبيات
-
مقاولو هدم الحضارات
-
انتهازية الدين السياسي
-
تَجَاهَل العلم ليقوى إيمانك
-
التخدير الديني سلاح النظم القمعية
-
رسائل تنتظر قرارات سياسية
-
شجرة زيتون غنّت للمتوسط
-
الردع دواء التنمّر والمزايدات
-
معايدة المسيحيين في أعيادهم
-
أحمد عدوية وازدواجية عصره
-
عندما قال فريد الأطرش: مش قادر!
-
الرعية الفاسدة تستحق الكاهن الضرير*
-
معايير المحاكم الإلهية
-
أسرى الأساطير وضحايا الواقع
-
أمراض الأمة إياها
-
أميركا تستعيد وعيها وهيبتها
-
صباح في ذاكرة ثقافة البحر المتوسط
-
التكاذب منهجهم والغيبيات واقعهم
-
الدنيا لا تقع ولن تنتهي
-
أسئلة للمؤمنين والذميين الجدد
المزيد.....
-
ما دلالات تسمية بابا الفاتيكان الجديد -لاوُنْ- الرابع عشر؟ ا
...
-
من صناديق الاقتراع إلى الفاتيكان.. البابا ليو الرابع عشر وتو
...
-
ماما جابت بيبي.. استقبل تردد قناة طيور الجنة الجديد نايل سات
...
-
تونس: زيارة معبد الغريبة ستقتصر على اليهود المقيمين في البل
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد وكيفية ضبطه لتسلية أطفالك
-
لأول مرة في الدنمارك: محاكمة متهمين بتدنيس المصحف
-
ما الذي ميز القداس الأول للبابا الجديد في الفاتيكان؟
-
كيف تابع مسيحيو الأراضي الفلسطينية القداس الأول للبابا الجدي
...
-
الفاتيكان يحدد موعد قداس تنصيب البابا لاوُن الرابع عشر رسميا
...
-
غارديان: ميتا تحجب صفحة إسلامية كبرى في الهند
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|