|
مشروع قانون الإيجارات الجديد ضد حق المواطن في السكن وانتصار لأصحاب الريع على حساب حق الشعب في للتنمية
محمد حسن خليل
الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 16:15
المحور:
الادارة و الاقتصاد
مشروع قانون الإيجارات الجديد ضد حق المواطن في السكن وانتصار لأصحاب الريع على حساب حق الشعب في للتنمية في فترة تمر فيها مصر بأسوأ أزمة اقتصادية بها في تاريخها، ويتدهور وضع أغلبية السكان، فترتفع نسبة الفقراء من الثلث قبل الأزمة الأخيرة إلى ربما نصف السكان أو أكثر، وبينما يزداد الأغنياء غنى، وتشتعل الأسعار ويرتفع التضخم، يأتي مشروع قانون الإيجارات الجديد الذي قدمته الحكومة للبرلمان بتوقيع رئيس الوزراء، وكأنه يتعمد صب الزيت على نار السخط الشعبي. كما يتضح الانحياز للطبقات الريعية على حساب مقتضيات التنمية، وعلى حساب حق الشعب المصري في السكن وفي الحياة، تماما كما فعلت من قبل في قانونيّ الإيجارات الزراعية رقم 96 لسنة 1992، وقانون الإيجارات السكنية والتجارية رقم 4 لسنة 1996. إن هذا السلوك يهدد بشدة الاستقرار الاجتماعي بجعل الحياة مستحيلة لعجز الأغلبية عن الحصول على الحد الأدنى من شروط الحياة اللائقة. مشروع قانون الإيجارات السكنية الجديد ينص مشروع القانون على الزيادة الفورية لجميع الإيجارات السكنية في جميع الأماكن فورا بمقدار 20 ضعفا، بحيث لا يقل الإيجار عن 1000 جنيه شهريا في المدن و500 جنيه في القرى، بينما تزيد أجرة الأماكن غير السكنية خمسة أضعاف. بعد هذا تزيد القيمة الإيجارية لكليهما بنسبة 15% سنويا لمدة خمس سنوات. لماذا الزيادة الضخمة؟ لتعويض تآكل القيمة الإيجارية بفعل التضخم. إذن لماذا لا تعترف الحكومة بحق المواطن في زيادة الأجور بنفس النسبة، نسبة التضخم كما تدعي، للحفاظ على القوة الشرائية للمرتب؟ أم إن الحكومة تطبق علاوة التضخم لصالح المستأجرين وتتغاضى عنها عندما تكون حقا للعاملين في الدولة والقطاع الخاص؟! الأخطر من ذلك أنه بانتهاء السنوات الخمس تنتهي "تتحرر؟!" كل العلاقات الإيجارية، لتصبح في نطاق القانون المدني، وتصبح القيمة الإيجارية خاضعة للعرض والطلب، ومن حق المالك إخراج المستأجر بعدها في أي وقت بدون تعويض على يد قاضي الأمور الوقتية حتى لو رفع المستأجر قضية، لأن رفع القضية لا يترتب عليه وقف الطرد وتسليم العين للمالك. بل يحق للمالك أيضا إخلاء المستأجر بتعويض "مناسب"! هذا "التحرير" للقيمة الإيجارية ولمدة الإيجار للوحدات السكنية والتجارية وفق إرادة المتعاقدين، هو ما سبق إقراره من قبل في قانون الإيجار رقم 4 لسنة 1996 وانطبق على جميع العقود الإيجارية التي تحررت بعد صدور القانون في إبريل 1996 أو على العقود القديمة التي تنتهي بعد هذا التاريخ. وهو نفس ما انطبق من قبل على الأراضي الزراعية وفقا للقانون رقم 96 لسنة 1992 الذي جاء معدلا لبعض بنود المرسوم بقانون الإصلاح الزراعي، حيث رفع إيجارات الأراضي الزراعية من سبع أمثال الضريبة على الأرض إلى 22 مثلا، بنحو ثلاثة أضعاف، وزيادتها بقيمة أي زيادة في ضريبة الأرض، وبعد خمس سنوات "تتحرر" العلاقة الإيجارية، بدون حد أقصى للمبلغ، وبدون حد أدنى لمدة الإيجار. أخطر بند في مشروع قانون الإيجارات الجديد، ومعه القانونين المشار إليهما أعلاه، هو ترك الحكم الوحيد "للسوق"؛ لا يمكن الادعاء بالطبع أن السوق حر، وأنه عرض وطلب بين المؤجر والمستأجر، لأن الأرض والمساكن محدودة، ولا يتيسر دائما حيازتها إلا بتكلفة عالية، وكذلك لعدم تساوي المراكز التنافسية، حيث يتمتع المؤجرون بميزة احتكار الثروة العقارية، حيث هم قلة، في مواجهة المستأجرين، وهم كثرة مجردة من عناصر القوة. معنى "تحرير" العلاقة الإيجارية هنا هي الخضوع لتحكم المالك، المتحرر من أي قيد سوى تحقيق أقصى حد من الربح ممكن. هذا ما نراه في الإيجارات الحالية للأراضي الزراعية وإيجارات الشقق قانون جديد: سوق الملاك وليس المستأجرين دائما! حق السكن ودور الدولة أقر الدستور المصري حق السكن، حيث نصت المادة 59 منه على: ”تكفل الدولة للمواطنين الحق في السكن الملائم والآمن والصحي بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية“. المسؤول المنوط بتنفيذ الدستور هو الدولة المصرية بالطبع؛ حيث يفترض أن دورها أن تحمي الأغلبية الضعيفة من سطوة الأقلية المالكة، ولا حدود لرغبتها في الربح. تتدخل معظم الدول لتحديد حد أقصى للقيمة الإيجارية منعا لهذا الاحتكار. كما إن تحديد حد أدنى لمدة الإيجار يحمي حق المستأجر في الاستقرار. أما بالنسبة للأرض الزراعية، فمدة الإيجار الزراعي تؤثر على قيام المزارع بإجراء التحسينات على الأرض التي يستقر بها، بدلا من استهلاكها بشكل جائر، وإضعافها. في فرنسا هناك حد أقصى لقيمة إيجار الأرض الزراعية في كل منطقة حسب درجة خصوبة التربة، كما إن هناك حدأ أدنى لمدة الإيجار بتسع سنوات، من أجل استقرار مصدر دخل الفلاح المستأجر، ومن أجل الحفاظ على الأصل الإنتاجي المتمثل في الأرض. عالميا، بالنسبة للسكن، هناك حلان من أجل التوفيق بين حق المواطن، الفقير، في السكن والاستقرار، وحق المالك إذا تعارضا. في إنجلترا هناك قدر أوسع من حرية سوق الإيجارات، ولكن لكل من يقل دخله عن قدر معين الحق في الحصول على شقة إسكان من المحليات بإيجار زهيد. في فرنسا، تدفع الحكومة إعانة سكن لكل من يقل دخله عن حد أدنى، تسمى بدل سكن، تكفل له توفير الحق في السكن والاستقرار. وفي كل الأحوال، فإن هذه "الحرية" المطلقة للأقلية الثرية في التحكم في مصير الأغلبية غير موجودة بشكل مطلق وفق منطق السوق الحرة كما تَدَّعي الحكومة، وإلا فُقِد الضبط الاجتماعي، وحدث إخلال جسيم بحقوق الإنسان الأساسية. واقع المواطن المصري وعلاقته بالقانون الجديد أما بخصوص الزيادة الضخمة في قيمة الإيجار في قانون الإيجار الجديد، فالحكومة تنطلق في تبريرها بالتضخم رغم ثبات القيمة الإيجارية لعقود كثيرة. واقع التضخم حقيقي بالطبع، لكنه يشكل أزمة يسأل عنها النظام الاقتصادي الذي تتبعه الحكومة. كما إن التضخم حق ولكن يراد به باطل، وهو وضع المستأجر في وضع استحالة العيش. لماذا؟ لأن قانون الإيجارات القديم للأماكن السكنية هو الصادر في عام 1981، وبالنسبة للأماكن التجارية، هو الصادر عام 1996، والتضخم هائل في تلك الفترة، مما يعصف باستقرار النظام الاجتماعي كله. في الحقيقة إن متوسط ما يدفعه المواطن في السكن عالميا يتراوح بين 20 إلى 30% من أجره، وهو تقريبا ما يدفعه في مصر فقط المواطن جيد الدخل، إذا كان الإيجار جديدا بالطبع. لكن هل يكفي هذا لتبرير الزيادات الضخمة في الأجر؟ بالقطع لا. لقد كان تأثير انهيار القيمة الشرائية للجنيه المصري، أي التضخم، تأثيرات متعددة على أنماط الإنفاق، ليس فقط على تضاؤل القيمة الشرائية للإيجار القديم، ولكن أيضا على التأثير على أنماط الإنفاق على جميع الجوانب الأخرى. مثال واضح: متوسط الإنفاق على الطعام في الأسرة المصرية هو 31% من الدخل، وتصل نسبة الإنفاق على الطعام والشراب في أفقر 10% من سكان الجمهورية إلى 45% من دخلهم (1) . للمقارنة فإن نسبة الإنفاق على الطعام في الولايات المتحدة هي 11.2% (2) ؛ بينما هي نفس النسبة، 11.2% في إنجلترا (3)، وإن ارتفعت في أفقر 20% من السكان إلى 14.4%، لهذا ضج الجميع بالشكوى ! لقد ارتفعت بنود الإنفاق الأخرى مثل المواصلات والعلاج والتعليم.. الخ بنفس النسب، وترتبت على ذلك أنماط معينة لإنفاق الأسر المصرية. إن تضخم نسبة الإنفاق على الغذاء إلى هذا الحد هو نمط إنفاق الفقر، والذي يستتبعه بالضرورة تضاؤل الإنفاق على الاحتياجات الأخرى مثل العلاج والتعليم (المسمى زورا بالمجاني!)، ناهيك عن الإنفاق على الاحتياجات الثقافية والترفيهية التي اختفت من حياة أغلب المواطنين. فعندما يتضخم بند الإنفاق على الإسكان بهذا القدر فجأة فهو قد يدفع إلى اليأس العديد من القطاعات العريضة من الشعب، وهو بالطبع ما لابد من أن يؤثر على القرار المتخذ في موضوع القيمة الإيجارية. لعل في مثال ما حدث عند تطبيق قانون الإيجارات الزراعية عام 1997، وما حدث عند طرد الفلاحين من الأرض، هو مثال صارخ لانفجار السخط على الإيجارات الجديدة الذي يجب تجنبه. أنظر للاقتباس التالي لتعرف: " وقد سجل مركز الأرض لحقوق الإنسان جزءًا منها (يقصد التداعيات). فما بين أكتوبر 1997 ومايو 1998 وثّق مركز الأرض لحقوق الإنسان اشتباكات عنيفة في أكثر من 100 قرية، كما سُجِّلت 32 حالة وفاة بالإضافة إلى إصابة 751 فلاح واعتقال 2410 فلاح بالريف المصري نتيجة الاحتجاجات والصدامات مع الشرطة والملاك جراء تنفيذ ذلك القانون. وقد تعرض الكثير من الفلاحين للترهيب والاحتجاز غير القانوني والتعذيب من جانب قوات الشرطة. (4) " ولعل في هذا الحادث تحذيرا كافيا من تعريض المواطنين لزلزال يعصف بمقومات استقرارهم السكني بمثل ذلك التغيير المفاجئ. الوضع الحالي لمسألة السكن في مصر ما هو الموقف الحالي للسكان في مصر من ناحية نوع السكن؟ سنحاول هنا أن نعطي لوحة إجمالية للسكن في مصر، رغم الصعوبة الشديدة لذلك، حتى بالاعتماد على الوثائق الرسمية. ولعل أهم مصادر إحصائيات السكن هي إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة الإحصاء . تقول الإحصائيات أن الوحدات السكنية في مصر تبلغ نحو 42 مليون وحدة (5)، مقسمة بالتساوي بين الريف، 21.3 مليون، والمدينة، 21.6 مليون. بينما تبلغ الوحدات غير السكنية 4.9 مليون وحدة، يقع منها 3 مليون في الحضر، و1.9 مليون وحدة في الريف. لكنه يقول أن عدد الشقق السكنية في مصر هو 29.4 مليون شقة فقط. السبب في الفرق بين التقديرين، والبالغ 12.5 مليون وحدة، أنها تشتمل، على 4.5 مليون مسكن كامل (أي مبنى مستقل)، يستخدم في غرض واحد، و2.9 مليون حجرة مستقلة، و1.2 مليون وحدة تشمل دورا كاملا أو أكثر من دور، و4.4 مليون دكان، ونحو 440 ألف جراج، غير أكشاك وعوامات وغيرها بأعداد ضئيلة. يقدم لنا الإحصاء التفصيلي للحضر أن العدد الكلي للوحدات هو، 21.6 مليون، أن المستخدم للسكن بالحضر منها 16.8 مليون شقة، أو 19 مليون وحدة، إذا أضفنا لهم الذين يسكنون في منزل كامل (0.8 مليون) أو في دور أو أكثر (0.3 مليون) أو حجرة واحدة أو أكثر، أي قسم من شقة، (0.7 مليون). أما المستخدم للعمل، فلا يتجاوز 0.4 مليون شقة، غير 110 ألف شقة مستخدمة للسكن والعمل معا. لا تكتمل الصورة دون أن نذكر أن الجهاز المركزي يدرج نحو 2.9 مليون وحدة سكنية تحت بند (مغلق لوجود مسكن آخر للأسرة (؟!) وفي ترجمتها الإنجليزية يكتفي بكلمة مغلقة Closed! من المنطقي افتراض أنها تشمل مدن الأشباح الجديدة التي تصل نسبة الإشغال في الكثير منها أقل من خمسة في المائة؛ ولا يهم إن كانت مباعة اشتراها أصحابها للمتاجرة و"التسقيع" أو غير مباعة. بل ويضع 1.2 مليون شقة أخرى تحت بند "مغلق لوجود الأسرة بالخارج". لا يوضح الجهاز هنا موقع الشقق المغلقة غير المستخدمة، بالذات المستأجرة بإيجار قليل والمستأجر يقيم في مكان آخر ويحتفظ بها نظرا لإيجارها الزهيد، فلا يتركها لانتفاع الغير. أما فيما يخص نوع الحيازة في وحدات السكن من حيث تقسيمها إلى وحدات تمليك، ووحدات إيجار، ونوعه (قانون قديم، قانون جديد)، فتقدمه لنا دراسة أخرى هامة لنفس المصدر، الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (6) . ونظرا للاختلاف الشديد بين نمط التوزيع وفق هذا المؤشر بين المدينة والريف، سنفرق بينهما ونركز على الحضر لسبب سيتضح سريعا. يتضح أن النمط الغالب هو ملكية الوحدة السكنية. في الريف كل الوحدات تقريبا (97%) ملك لحائزها، و3% تخضع للإيجار الجديد. وبالطبع لا يوجد إيجار قديم في الريف، لأن قوانين الإيجارات القديمة، على عكس مشروع القانون الحالي، لا تنطبق إلا على المدينة وحدها. نأتي للموضوع الحاسم المطلوب بالنسبة لموضوع قانون الإيجارات: ففي المدينة تصل نسبة التمليك إلى 68%. ونريد أن نوضح هنا أن الإحصاء يفرق بين الوحدات المملوكة لحائزها، والوحدات التي تقع تحت تسمية "الهبة". ولما كنا لا نعتقد أن هناك فرقا جوهريا بين أن يكون شاغل المكان قد حصل عليه بالشراء من ماله الخاص أو إنه هبة، عادة من أحد الوالدين (عندما يبني مبنى للأسرة لكل ابن شقة، أو عندما يشتريه لابنه، بعد أو قبل أن يتزوج)، لهذا فقد جمعنا المساكن المملوكة بالشراء مع المساكن التي تم الحصول عليها عن طريق الهبة، حيث هو الأنسب لنوع الغرض المطلوب من التقسيم هنا. أما النسبة الباقية، فتقسم بين الإيجار القديم، بنسبة 14.4%، والإيجار الجديد بنسبة 16.6%. أي إن المخاطبين بالقانون الجديد من سكان وحدات القانون القديم والقانون الجديد هم 31% من سكان الحضر؛ علما بأن سكان الحضر في مصر هم 46.2 مليون نسمة، يمثلون 42.9% من سكان الجمهورية. وإذا استبعدنا منهم نسبة الملاك (68%) فنسبة المخاطبين منهم بالقانون الجديد، 31% من السكان، أي 13.3 مليون نسمة، أو 3.4 مليون أسرة. ويبلغ مستأجرو القانون القديم منهم 6.2 مليون نسمة أو 1.6 مليون أسرة؛ بينما يبلغ مستأجرو القانون الجديد 7.1 مليون نسمة، أو 1.8 مليون أسرة. وحيث إن القانون الجديد، إذا تم سريانه لا قدر الله، سيجعل كل مستأجري القانون القديم يصبحون مستأجرين قانون جديد بعد خمس سنوات، فإن هؤلاء كلهم هم الذين يجب الدفاع عنهم، والانتصار لحق السكن على حساب زيادة ريع الملاك؛ وهم كما سبق القول، 3,4 مليون أسرة تضم 13.3 مليون نسمة. إننا في دفاعنا عن حقوق المصريين لا يجب أن نقتصر على الدفاع عن مستأجري القانون القديم الذين يحاول مشروع الحكومة الإطاحة باستقرارهم، ولكن يجب أن ندافع عن حق المسكن اللائق للمصريين، والذي يستهلك نسبة معقولة وبنسبة مقدور عليها من دخلهم، سواءً الذين لجأوا إلى الإيجار الجديد الظالم المقر منذ عام 1996، قانون رقم 4، أو المهددون باللحاق بهم من شاغلي الأماكن المهددين بالقانون الجديد. الموقف من قضية الريع تبقى نقطة شديدة الحيوية، لا يمكن التعرض لموضوع السكن دون التعرض لها، وهي مسألة الموقف من الريع العقاري. الريع العقاري موجود سواءً في الأراضي الزراعية، ريع الأرض، أو في المساكن (الريع العقاري السكني)، أو في المناجم والمحاجر (الريع المنجمي)، أو في بعض المجالات الأخرى. السمة الأساسية التي جعلت الريع نوعا مستقلا من الاستثمار. والسبب في تمييز شكل الريع عن الأشكال الأخرى من عوائد التملك، الربح الصناعي والتجاري، والفائدة على الأموال، هو ملاحظة أن استثمار مبلغ معين، مليون جنيه مثلا، يعطي مردودا متوسطا في أي مشروع صناعي أو تجاري حسب موقف السوق، ولنقل مثلا بنسبة 10% من رأس المال المستثمر. أما في المجال العقاري بأنواعه (زراعة، إسكان، مناجم... الخ) فإن نفس المبلغ يعطي عائدا أعلى بكثير، فلنقل 15 إلى 25%. يعود هذا إلى أن مساحة الأرض الزراعية، وأراضي المدن، محدودة في النهاية وليست لانهائية، بينما في الصناعة يمكن دائما توسيعها بقدر حاجة السوق (المحلي أو العالمي). هذا ما يفرض نوعا من الاحتكار، وهو أساس الريع. يعتقد البعض أن انتقاد الريع جاء مع الفكر الاشتراكي، ولكن الحقيقة هي أن نقد الريع بدأ مع ظهور الرأسمالية! ومؤسس الاقتصاد الرأسمالي، آدم سميث، انتقده بشدة في كتابه الشهير "ثروة الأمم"؛ وكذلك ديفيد ريكاردو، ومعظم مفكري الرأسمالية منذ نشأتها. السبب هو التناقض بين أصحاب الريع وبين أصحاب الربح الصناعي والتجاري، لأنه يحكمهم في تحديد الحد الأدنى للأجور. فالحد الأدنى للأجر لا يقل عن الحد الأدنى للحفاظ على الحياة، بما فيها تجديد قوة العمل، أي الزواج والإنجاب والاستقرار السكني. إنه سعر تكلفة الغذاء والسكن وبقية ضروريات الحياة. وكلما تضخم الريع كلما زادت تكلفة أجور العمال اللازمة للحفاظ على حياتهم. ومن الطبيعي أن ينحاز أنصار الاقتصاد الرأسمالي، التقدمي في ذلك الحين، إلى أهمية دفع الاستثمار الصناعي على حساب تقليل العوائد الريعية من أجل تخفيض قيمة الحد الأدنى للأجور. ولنعد إلى المثال المصري. لقد كان هناك سبب رئيسي لتحجيم الريع العقاري الزراعي، وهو دفع الملاك للاستثمار في الصناعة. بالنسبة لإيجارات المساكن فقد بدأت في أعقاب أزمة الحرب العالمية الأولى بالقانون رقم 4 لسنة 1921، كما صدرت عدة قوانين بسبب أزمة الحرب العالمية الثانية، وأهمها قانون حكومة النقراشي رقم 121 لسنة 1947. بعد الثورة صدرت قوانين لتحديد الإيجارات طوال تلك الفترة حتى عام 1981. بالنسبة للزراعة، خلال الأزمة الاقتصادية للركود التضخمي في مصر بعد الحرب العالمية الثانية، تكاثرت الدعوات لتحديد حد أقصى للملكية الزراعية ووصلت للبرلمان. ثم تم بعد الثورة تم إصدار عدد من القوانين في أعوام 1952، 1961، 1969 للإصلاح الزراعي، والتي اشتملت، فضلا عن نزع ملكيات وتوزيعها على الفلاحين، على تحديد الإيجارات الزراعية. ما فعلته مصر هو ما فعلته جميع محاولات النمو أو التنمية فيما يسمى بالعالم الثالث، دعما للتطور الرأسمالي على حساب أصحاب الريع. والغرض منها هو تعبئة مزيد من الفائض الاجتماعي لصالح تطوير الإنتاج الصناعي، وتحسين طرق استغلال الأراضي الزراعية بدلا من استثمار المبالغ الفائضة في اقتناء أراضي جديدة. وسبب آخر هام هو حل أزمات مجتمعية، بالذات ملاحظة ارتباط الأزمات الاقتصادية أثناء خلال وبعد الحربين العالميتين بإصدار قوانين تحمي حق السكن لمحدودي الدخل. تغير الموقف بعد التخلي عن محاولة التنمية وإلحاق مصر بنظام التبعية للعالم الغربي. تم إطلاق عنان راس المال في الربح، وإطلاق حرية أصحاب الريع في الاستحواذ على أكبر ريع يمكن تحصيله، كما رأينا في تحرير إيجارات الأماكن الزراعية عام 1997، وتحرير الإيجارات السكنية للعقود الجديدة أو عند انتهاء العقود القديمة، التي تتم بعد إبريل 1996، وما صاحب كل ذلك من زيادة عوائد رأس المال والريع على حساب تفاقم مشاكل العاملين والجمهور. للحكومة غرض آخر غير الانتصار لجشع أصحاب الريع، وهو زيادة حصيلتها من الضرائب على الإيرادات المتوقعة، والتي تقدر بمائتي مليار جنيه في بعض التقديرات، لحل مشاكل العجز المزمن في الإيرادات الحكومية. بالطبع زيادة الحصيلة الضريبية عن هذا الطريق هي من النصائح الثابتة لصندوق النقد الدولي، تدعيما لل"حرية الاقتصادية" وتعويض الحكومة عن نقص إيراداتها المتواصل نتيجة للخصخصة وبيع الأصول الحكومية الرابحة. لكن الحكومة هنا تلعب بالنار بمفاقمتها لحالة الجماهير الشعبية التي تئن أصلا من الغلاء الشديد والإفقار المتواصل لها.
خلاصة واستنتاجات تجتاز مصر حاليا ربما أكبر أزمة اقتصادية واجتماعية في تاريخها، وتتكاثر على المواطن كل المشاكل، من تضخم، وإفقار، وعجز عن الوفاء باحتياجاته واحتياجات أسرته الأساسية. إن إقرار قانون الإيجارات الجديد في تلك الظروف يكفي لكي يشعر المواطن بأنه لم يصبح له مكان في هذا العالم، وهو ما يمكن أن يفجر الوضع الاجتماعي الهش. لهذا فإننا، كمدافعين عن حق شعبنا في الحياة، نضع برنامجنا البديل من أجل مستقبل هذا الشعب وأبنائه، وحقهم في الحياة وفي التنمية: • لا يمكن للدولة أن تتخلى عن دورها في تحديد القيمة الإيجارية وعدم تركها للعرض والطلب أو قوانين السوق التي تنص على البقاء للأقوى، من أجل إقامة الحد الأدنى من التوازن الاجتماعي. لا يمكن ترك الإيجارات لتحديدها من قبل أصحاب الريع. لابد من نظام اجتماعي يتفق عليه ديمقراطيا للتوفيق بين حق المواطن في السكن وفي الحياة، وتطوير القيم الإيجارية القديمة التي لم تعد تساوي شيئا. الوسيلة الوحيدة لاتفاق أقرب للعدالة هي الاستماع الديمقراطي للسكان والملاك، والتفاوض الجماعي الديمقراطي شاملا أحزاب المعارضة وجمعيات الدفاع عن حقوق المواطنين، مع الحرص على إقرار التناسب بين الدخل والإنفاق. • طرح منذ بضع سنوات عند مناقشة قانون الإيجارات، طرح اقتراح بإنشاء صندوق يتم تمويله من 10% من عائد الملاك من الإيجارات الجديدة بعد تحديدها تحديدا جديدا وليس تحريرها. يتولى هذا الصندوق دفع الفرق بين الإيجار الحالي والحد المتفق عليه الجديد للأسر التي لا يكفي دخلها للوفاء باحتياجاتها، مثل أصحاب المعاشات وكبار السن. وبالتالي كل مالك يدفع، وكل مالك يأخذ في حدود. إنها بمثابة ضريبة مخصصة لغرض معين ear marked tax، تعين من لا يقدر على الإيجار الجديد المتفق عليه. وعندما تنتهي تلك الأوضاع المؤقتة، تستمر تلك الضريبة وتكون مهمة الصندوق هي دعم الإسكان الشعبي الذي توفره الحكومة. • لا يجب أن تتخلى الدولة عن دورها في توفير الإسكان الشعبي، على أن يكون شعبيا بحق، بمعنى ألا تكون للأرض سعرا لأنها ملك للشعب وليس للحكومة، وبدون حتى تحمل أعباء المرافق، حيث تمثل قيمتها مساهمة من الدولة في حل مشاكل السكن للفقراء. يمكن إجراء الحظر الكامل لتراخيص الإسكان الفاخر لعدة سنوات، حيث إن هناك فائضا كبيرا في العرض تدل عليه أعداد الوحدات كاملة التشطيب المغلقة؛ فهذا يشجع الإسكان الشعبي والمتوسط. • لابد من إصلاح ضريبي شامل، يقلل من عبء المواطن من الضرائب غير المباشرة، ويزيد شريحة الضريبة على الأغنياء، بدءا بإعادة حدها الأقصى لما كان عليه منذ عشرين عاما، أي 40%، وهو ما يمثل وعاء إيراد جديد، على أن تلتزم الدولة بإخضاع الإنفاق للرقابة الشعبية، واستبعاد كل بنود الإنفاق غير الضرورية. • النظر في منح تيسيرات لتعاونيات المواطنين الفقراء الساعين لحيازة سكن واحد لإقامتهم، وفي قيامهم هم بالبناء على الأراضي الممنوحة بالمجان مزودة بالمرافق وممولة تمويلا ميسرا من البنوك بسعر فائدة مخفض، وسداد على 30 سنة. إن هذا سيؤدي إلى تخفيض تكلفة إنشاء المساكن، حيث يبنيها من سينتفع بها، دون أعباء بيروقراطية، ودون أي أشكال للتربح أو للفساد. المصادر:
(1) "أهم مؤشرات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك 2019/2020" الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2020، وهو أحدث بحث صدر وانقطع صدوره من حينها. وهو موجود على الرابط: https://www.capmas.gov.eg/Pages/StaticPages.aspx?page_id=7183
(2)انظر دراسة: “Food Pricing and Spending”, 2025 على الرابط: https://www.ers.usda.gov/data-products/ag-and-food-statistics-charting-the-essentials/food-prices-and-spending
(3) أنظر الدراسة: “Accredited official statistics. Family Food FYE 2023” على الرابط: https://www.gov.uk/government/statistics/family-food-fye-2023/family-food-fye-2023
(4) النص منقول من دراسة: "محو آثار الإصلاح الزراعي والازدراء الاجتماعي للمستأجرين الزراعيين" على الرابط: chrome-extension://efaidnbmnnnibpcajpcglclefindmkaj/https://mksegypt.org/storage/pdfs/report-arabic-a4-edit-87123.pdf
(5) أنظر: " الكتاب الإحصائي السنوي". الجهاز المركزي للمحاسبات-2024. الفصل السابع، الإسكان، على الرابط: https://www.capmas.gov.eg/pages/staticpages.aspx?page_id=5034
(6) "أهم مؤشرات بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك... مصدر سبق ذكره
#محمد_حسن_خليل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل مصر دولة فقيرة؟
-
نصف قرن من تطور التبعية في مصر
-
فلتتوجه جميع البنادق الفلسطينية والوطنية العربية تجاه الكيان
...
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
-
مبادرة تنموية لجمعية أهلية لصالح صغار الفلاحين وتعويض انسحاب
...
-
ماذا ستفعل مصر في أزمة ديونها الخارجية؟
-
ملاحظات مبكرة حول معركة -طوفان الأقصى- و-السيوف الحديدية-
-
أفريقيا الفقر والاستغلال والانقلابات
-
عالم اقتصاد من طراز خاص رحيل الأستاذ الدكتور محمد دويدار
-
الموقف من أولويات الاستثمارات العامة وسياسة ملكية الدولة
-
موازنة الديون والتضخم والتقشف على المواطنين
-
أزمة الديون وبدائل الصندوق
-
كلمات حول المشكلة السكانية في مصر
-
نرفض حل الأزمة الاقتصادية بزيادة معاناة الشعب والخصخصة
-
وثيقة ملكية الدولة في مصر ومستقبل التنمية
-
ليبيا بين الانتخابات والتقسيم الإخواني
-
مجلس النواب اللبناني الجديد والثورة والانهيار
-
تونس: قيس سعيد، والنهضة، والثورة، والشعب!
-
الانتخابات الرئاسية مرآة للأزمة المجتمعية في فرنسا
-
قراءة في الموازنة العامة لمصر للعام المالي 2022- 2023
المزيد.....
-
ارتفاع العجز التجاري لأمريكا إلى مستوى قياسي
-
الديون العالمية عند قمة غير مسبوقة بأكثر من 324 تريليون دولا
...
-
شي يدعو الاتحاد الأوروبي للتكاتف ضد الأحادية الأميركية
-
الجزائر.. التنازل عن العقارات للمستثمرين يدخل حيز التنفيذ
-
رافينيا يكشف أسماء مرشحيه لنيل الكرة الذهبية
-
كافو: الكرة الذهبية بين رافينيا وصلاح ولامين جمال يستحق الجو
...
-
الجزيرة السورية.. من تراجع الزراعة إلى خطر الأمن الغذائي
-
شركة -أوبن إيه آي- للذكاء الاصطناعي تتخلى عن مشروع الشركة ال
...
-
قبيل تطبيق رسوم ترامب.. العجز التجاري الأميركي بمستوى قياسي
...
-
أنور إبراهيم: الرسوم الجمركية الأميركية بنيت على ادعاءات باط
...
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|