أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد حسن خليل - نرفض حل الأزمة الاقتصادية بزيادة معاناة الشعب والخصخصة















المزيد.....


نرفض حل الأزمة الاقتصادية بزيادة معاناة الشعب والخصخصة


محمد حسن خليل

الحوار المتمدن-العدد: 7358 - 2022 / 9 / 1 - 16:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لعل أبلغ دليل على عمق الأزمة الاقتصادية الراهنة، والقلق الاجتماعي الذي يمكن أن تسببه، هو ما صرح به الرئيس السيسي حينما قال: "الموضوع لم يعد يتعلق بالاستثمار، الموضوع الذي نتكلم فيه مع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والحكومة ليس استثمار، وإنما أصبح المحافظة على حالة الاستقرار في البلد هنا، لأن المواطن لو الضغط زاد عليه هيعمل ايه؟" وذكر السيسي أن دعوته المجتمع المدني للمساعدة من أجل الحفاظ على الاستقرار" ويستهدف منها حفظ نظام وليس حفظ الرئيس.
إذن فهناك قلق مشروع على حالة الاستقرار الاجتماعي في مصر شمل جميع الأطراف وامتد حتى رئاسة الجمهورية، مما يضع علينا واجب المساهمة بالرأي في تقديم الأسباب واقتراح الحلول البديلة للحلول المطروحة. ومن الهام ملاحظة أن إلقاء عبئ التسبب في الأزمة على الحرب الأوكرانية أو وباء كوفيد يبدو كشماعة، ليس لأنهما عديما الأثر في الأزمة، ولكن لأن حجم الأزمة في أي بلد يتناسب مع مدى قوة وتماسك الاقتصاد الوطني قبلها، لهذا تبدو الآثار الفادحة للأزمة على الدول ذات الوضع الاقتصادي الهش مثل مصر.
ومن المهم توضيح أن عمق الأزمة يجعلنا في غنى عن ترديد الحلول القديمة التي ثبت عمليا فشلها، ولكن أن نعيد النظر في منطلقات السياسة الاقتصادية وتوضيح خطأ بعض السياسات الخاطئة التي تكتسب حق المواطنة فقط لكثرة ترديدها، سواء من قبل مؤسسات التمويل الدولية أم من بعض المقتنعين أو المخدوعين بها. ونوضح فيما يلي بعض تلك المقولات وأهمية تجاوز أخطاء اتباعها من أجل حل المشكلة:
أولا: مقولة أن "الأولوية لتطوير المرافق من أجل أن تأتي الاستثمارات" منذ عهد الرئيس أنور السادات، ثم في عهد مبارك وحتى الآن تتبنى الدولة سياسة أولوية الاستثمار في المرافق حتى تأتي الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية للقيام بواجب التنمية. وطوال 48 عاما من تطبيق تلك السياسة منذ عام 1974 لا أتت الاستثمارات الجديدة الضخمة ولا تم حل أزمة التنمية، بل على العكس، فقد تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي، وتدهورت نسبة الاكتفاء الذاتي الغذائي فأصبحنا نستورد أكثر من نصف غذائنا، ووضحت هشاشة البناء الصناعي الموجود الذي لا يستطيع العيش ولا الإنتاج دون استيراد مستلزمات الإنتاج وقطع الغيار والآلات من الخارج نظرا لغياب تصنيع تلك السلع محليا.
حقا لقد حدث تطور في البنية التحتية؛ ولكن المفترض أن يكون فائض الإنتاج هو الذي يسمح بتمويل تلك المرافق والبنية التحتية، وفي حالة عدم وجود فائض، بل ووجود عجز في الإنتاج حتى عن توفير الاحتياجات الإنتاجية والغذائية الرئيسية، فإن تطوير المرافق الذي تم قد جاء من الاستدانة الداخلية والخارجية. وبالطبع فإن إنجاز المرافق لم يسفر عن إنتاج لسداد مثل تلك المديونيات، بل فاقم أزمة الديون.
وبالطبع فالدرس المستفاد هو أن الاستثمار في الإنتاج والاستثمار غير المباشر بتوفير المرافق لابد وأن يسيرا يدا بيد وليس كمرحلتين، وأن ندرك فشل سياسة أولوية الخدمات، التي لم تسفر سوى عن الأزمة الراهنة. إن تحديد مجالات الاستثمار وفق الاحتياجات التنموية لابد وأن يبدأ من الاستثمارات الحكومية في القطاعات الاستراتيجية؛ لابد من المضي بتنمية الإنتاج وتطوير المرافق معا وليس كمرحلتين، مع فتح المجال بالطبع أمام القطاع الخاص للعب الدور المنتظر في التنمية.
ثانيا: مقولة أنه "لابد وأن يقتصر دور الدولة على تهيئة المجال المناسب للاستثمار الخاص، مع ترك الاستثمار الإنتاجي للقطاع الخاص بأقسامه المحلى والعربي والأجنبي". أيضا بدأت الدعوة بتقليص دور الدولة في الإنتاج منذ بداية الانفتاح الاقتصادي، وزادت بعد الاتفاق مع صندوق النقد والبنك الدوليين عام 1991 بالنص على خصخصة القطاع العام؛ ثم تحدث الآن الطفرة الكبرى مع وثيقة ملكية الدولة التي تعلن الانتقال من سياسة إدارة مشروعات ملكية الدولة إلى إدارة رأس مال الدولة، وانسحاب الدولة من الكثير من مجالات الإنتاج، والكثير من الخدمات أيضا، والخصخصة الواسعة لأملاك الدولة الإنتاجية والخدمية. وكما هو واضح تنتمي تلك الأفكار إلى مفهوم الدولة الحارسة التي تكتفي بتهيئة بيئة الاستثمار الخاص، وتعتبر أن حرية الاستثمار الخاص سوف تؤدي -ليس فقط إلى اغتناء المستثمرين- ولكن إلى اغتناء الشعب كله وفقا لما يسمى بنظرية تساقط الثمار.
ولكن هل خبرة بلادنا وخبرة بلاد العالم بالفعل تجسد حقيقة التقدم في التنمية عن طريق تقليص دور الدولة؟ هل إعمال قوانين حرية السوق بكافٍ وحده لتحقيق التنمية؟ في بلادنا لم تنشأ صناعات ثقيلة مثل صناعة الحديد والصلب إلا بتدخل الدولة، وكانت طفرة تطور القطاع العام الصناعي في مصر أساسا هاما في توفير الكثير من احتياجاتنا في السوق المحلية. وهذه هي نفس الخبرة العالمية، ليست فقط الخبرة القديمة، ولكن القديمة والمتجددة دوما مع كل أزمة. في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية تدخلت الدولة بقوة وأممت صناعات غير مربحة ولكنها ضرورية للتنمية، ونشأ اتحاد الصلب والفحم الأوروبي من تحالف قطاعات دولة أوروبية.
نفس الخبرة في اليابان، وفي كوريا الجنوبية، وفي الصين، عندما كان تدخل الدولة يمثل دفعة قوية لتطوير الهيكل الإنتاجي، بالذات الهيكل الصناعي. وحتى أثناء أزمة انفجار فقاعة الرهن العقاري في الولايات المتحدة عام 2008 لجأ بوش، اليميني الجمهوري، بعد إفلاس بنكين خاصين، إلى تدخل الدولة بتأميم بنوك، والتدخل لمساعدة بنوك ومشروعات أخرى. لقد استقر في الفكر الاقتصادي أن حافز الربح على أهميته لا يكفي وحده لتوجيه الإنتاج، ولكن تدخل الدولة ضروري، وتزداد ضرورته بالذات في مرحلة الإنشاء وفي مرحلة الأزمات.
ولهذا لابد من أن تنبني التنمية على القطاعات الثلاثة: العام والخاص والتعاوني كما ينص الدستور المصري. لن يقوم قطاع استثماري خارجي بالذات على اقتحام مجالات الصناعات الثقيلة والصناعات عالية التكنولوجيا إلا لو كانت هناك قاعدة لهذا النوع من الصناعات في الوطن وعمالة مؤهلة لهذا. وأمثلة مجالات استثمار رأس المال الأجنبي توضح الفارق البارز بين دورها في بلاد كبلادنا عن دورها في بلاد ذات هيكل إنتاجي متطور مثل كوريا الجنوبية والصين وغيرهما.
البديل المطلوب هو تطوير الاستثمارات الإنتاجية الزراعية والصناعية. لقد نجحت الدول الأسيوية كثيفة السكان في الوصول إلى السيادة الغذائية بتطوير الزراعة حتى على المياه المالحة، والاهتمام بالمحاصيل الغذائية وليس المحاصيل التصديرية. كما أنه من المهم العودة للإرشاد الزراعي ترشيدا للإنتاج، والعودة للدورة الزراعية. كما يجب تطوير الصناعة المحلية وليس تصفيتها وخصخصتها، وإنقاذ صناعاتنا الاستراتيجية والثقيلة مثل الحديد والصلب والكوك والأسمدة وغيرها.
ثالثا: مقولة أنه "في وقت الأزمة لابد من سياسة تقشفية، ولابد وأن يتعاون الشعب من أجل عبور الأوقات الصعبة". إن أزمة الديون الخانقة لابد وأن تفرض التقشف حتى نتمكن من تجاوز الأزمة، بالذات حينما نرفض الحل السهل بالمزيد من الاستدانة من أجل سداد الديون بديون جديدة. ولكن الطبيعي أن نتساءل: تقشف على من؟ إن الحل الذي تتبعه الحكومة منذ البدء بالأخذ بسياسة الانفتاح الاقتصادي هو فرض التقشف على الشعب، أي على الطبقات الفقيرة والمتوسطة، فتتوسع باستمرار في الضرائب غير المباشرة التي يقع عبؤها على تلك الطبقات. في موازنة العام الذي نحن فيه تبلغ قيمة ضريبتين فقط من الضرائب المفروضة على الطبقات الشعبية والمتوسطة، أعني ضريبة القيمة المضافة وضريبة المرتبات، تبلغان معا 54% من الإيرادات الضريبية! والمساهم الثاني في الإيرادات الضريبية هو الدولة، حيث تمثل حصيلة الضرائب على قطاعات البترول وقناة السويس والبنك المركزي وحدها 13% من الإيرادات الضريبية! أما الضرائب التي يدفعها المستثمرون بكل أنواعهم، من ضرائب الأرباح الجارية والصناعية، والضرائب العقارية، والضرائب المهنية، فتقل عن ربع الإيرادات الضريبية. يتمتع الأثرياء بإعفاءات ضريبية وامتيازات. لقد استندت تلك السياسات إلى أن التيسير على المستثمرين ينمي الاستثمار ويوفر فرص العمل ويقود لرخاء الجميع فيما يسمونه تساقط الثمار سيئة الذكر التي أوضحناها أيضا.
إلا أن تطبيق تلك السياسات طوال نصف قرن لم تؤدِ إلى تساقط الثمار على الفقراء ولكن إلى تساقط الفقراء وتزايدهم حتى وصلوا إلى نحو ثلث الشعب، غير ثلث آخر على حافة الفقر. ويقودنا هذا إلى رفض التقشف على الشعب كما يتم حاليا، ولكن أن يتم التقشف على الأغنياء والمستثمرين. إن المستثمرين والأغنياء قد بنوا ثرواتهم من العمل في هذا الوطن، وعليهم الواجب الأخلاقي لنجدته في أزمته. لابد من سياسة مالية تقشفية على القطاعات الغنية من المصريين مع حق الشعب المصري في أجور وخدمات تكفي حياة كريمة. لقد فرضت الولايات المتحدة مؤخرا ضريبة إضافية مقدارها 15% على أرباح الشركات التي تزيد عن مليار دولار، علما بأن أعلى شريحة ضريبية هناك هي 37% ضريبة فيدرالية، غير ضريبة الولايات التي قد تصل إلى 12%. ونحن نقتصر على حد أقصى للضريبة 25%!
بدلا من زيادة الضرائب غير المباشرة على الجمهور وزيادة أسعار الوقود وأساسيات المعيشة لابد من رفع مستوى الضرائب على الأرباح والفوائد والدخول الريعية، شاملة الضريبة التصاعدية وضريبة على أرباح البورصة. كما يجب إعادة الضريبة على التركات كما تطبقها معظم دول العالم. التقشف على الأغنياء وتوفير الضروريات للفقراء لابد أن يكون عنوان فترة الأزمة، حتى لو اقترحنا خطة طوارئ لمدة 3 سنوات، وتطبق خلالها الإجراءات الضريبة الاستثنائية، مثل الضريبة على الثروة لمرة واحدة، ويتم وقف كل أوجه الإسراف الحكومي، وتفرض ضرائب على الإسراف السفيه، ففي أزمة الوطن هناك أفراح بالملايين وعشرات الملايين وحفلات فنية بتذاكر بالآلاف وعشرات الآلاف!
إن وضع حد لمظاهر الترف الشديدة مثل بيع الفيلات والشقق والقصور بعشرات الملايين من الجنيهات يبدد الفائض الاجتماعي في أنماط استهلاك سفيهة مبعدا إياه عن المساهمة في الاستثمار المنتج. إن وقف استيراد السيارات التي تزيد سعتها عن 2000 سنتيمترا لمدة 3 أعوام لن يضير بلدنا، ولكنه سيمنع تخلينا عن أصول الدولة. كما أن فرض ضريبة حتى لو وصلت إلى 100% على الأفراح التي تتكلف أكثر من مليون جنيه هو أكثر من معقول، وقد فرضت اليابان ضرائب على الإقامة في الفنادق التي يزيد سعر الغرفة عن عشرة آلاف ين في الليلة، وعلى المطاعم الفاخرة التي يزيد فيها سعر الوجبة للفرد عن 5000 ين.
كما أن التقشف مطلوب بشدة في الإنفاق الحكومي، وأمثلة الإنفاق الزائد وغير الضروري كثيرة: منها مثلا تضخم قمم الجهاز الإداري للدولة فيما يعرف بوظائف الإدارة العليا. عندنا الآن 34 وزيرا بينما في اليابان هناك قانون يمنع زيادة عدد الوزراء عن 17 وزيرا، وعدد أعضاء مجلس الوزراء 15 وزيرا في كل من فرنسا وأمريكا، وعشرين في إنجلترا. هذا غير المئات من وكلاء الوزارات والوكلاء الأول، غير الأعداد الضخمة من المستشارين الذين يرتبط تعيينهم بالمجاملات وليس بأي احتياج حقيقي بمثل هذا القدر من الضخامة.
كما أن ميزانية الأجور تعاني من خلل خطير في التوزيع. في السنة الوحيدة التي تم الكشف فيها عن أجور الإدارة العليا مقابل أجور بقية الموظفين، في تطبيقه على سنة 2010، تبين أن ميزانية الأجور التي كانت تبلغ وقتها 136 مليار جنيه موزعة بين 82 مليارا مخصصة لحوالي 5.9 مليون عامل وموظف، بينما تبلغ مرتبات وإجمالي مستحقات الإدارة العليا، التي لا يتجاوز عدد أفرادها عشرين ألفا، تبلغ 54 مليار جنيه! أي أن ثلث الواحد في المائة يصرف حوالي 40% من إجمالي ميزانية المرتبات، بينما تبلغ ميزانية 99.7% من الموظفين 60% فقط من ميزانية المرتبات!
يعود الكشف عن تلك الحقائق إلى هيئة مراجعون ضد الفساد التي نشأت بعد الثورة من موظفين بالجهاز المركزي للمحاسبات يملكون الاطلاع على تلك البيانات. نتيجة لهذا ارتفعت أثناء الثورة، الأصوات وقتها تطالب بتنفيذ حد أقصى للأجور لا يزيد عن 20 مثلا للحد الأدنى، على أن يتم ربط كل دخل يصل لموظفي الإدارة العليا برقمه القومي ووضع حد أقصى للصرف لا يجوز الصرف بعده! ولكن لم يحدث هذا، وكل ما حدث هو التنكيل بأعضاء "مراجعون ضد الفساد" بالنقل والتشريد، ولم تتم أي محاولة لنفي صحة الأرقام بإظهار الأرقام الصحيحة، كما لم يتم الكشف بعدها عن نهائيا عن نسبة أجور الإدارة العليا إلى إجمالي بند الأجور كأنه سر حربي في انتهاك صارخ للشفافية الضرورية لممارسة الديمقراطية.
في الولايات المتحدة الأمريكية مرتب الوزير لا يزيد عن 14 مثلا للحد الأدنى للأجور، والمرتبات معلنة، والإقرار الضريبي لرئيس الجمهورية نفسه موضوع على الإنترنت لاطلاع المواطنين! إن المطلوب هو سياسة تقشفية ضد الإنفاق الحكومي الزائد، وضد تبديد الفائض الاجتماعي للأثرياء على مظاهر ترف مسفة. ولكن لابد وأن يرتبط هذا برفض السياسة التقشفية الحالية على الشعب، لأنه ضرورة هامة لتعبئة الشعب من أجل المساعدة في تجاوز الأزمة. لابد من ضمان حد أدنى عادل للأجور يكفل حياة كريمة للمواطن، وتوفير إنفاق على الصحة والتعليم مستوف للنسبة الدستورية من الناتج المحلي الإجمالي، لأن هذا حق للمواطنين، كما أنه ضرورة تنموية ضرورية للدخول في تطوير الإنتاج إنقاذا لاقتصادنا.
رابعا: مقولة أن "إن تحرير الأسواق وتحرير الأسعار يقود إلى الكفاءة في تخصيص الموارد وعلاج التشوهات في الأسعار". ورغم شهرة تلك المقولة، إلا أن ما تتضمنه شديد الخطورة. إن ما يسمى بالأسعار الحقيقية، أي المعبرة عن التكلفة زائد السعر الزائد هي الكفيلة وحدها بإعطاء المنتج الأكفأ الفرصة، ولا عزاء للمنتج الأقل كفاءة حتى لو أفلس. ولكن أولا أن اعتبارات الربح لا يمكن أن تكون المعيار الوحيد، فهناك مصلحة المستهلك. وإذا كان المستهلك لا يستطيع دفع كلفة سلعة ضرورية، وإذا كانت الحكومة مستعدة، أو يجب عليها تدعيمها، فهذا مرفوض من الصندوق لأنه "تشويه للسوق"!
كذلك الحال في نظام التسعير. لقد فرضت التسعيرة الجبرية في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية حينما استغل بعض التجار ندرة بعض السلع في المبالغة في سعرها، ولكن صندوق النقد يرفض أي تسعيرة جبرية لتشويهها السوق أيضا، حتى لو وصلنا للوضع الحالي في مصر، حيث سوق تجارة الجملة مثلا يبلغ متوسط نسبة الربح من 35% إلى60%! ولكن أخطر ما في ذلك القاعدة التي يفرضها الصندوق بأهمية تطبيق تلك القاعدة على السوق الدولية، فيعتبر أن بيع النفط أو الكهرباء أو غيرها في مصر بأقل من سعرها العالمي، يعد أيضا تشويها للسوق! ويعتبر الفرق بين سعرها العالمي وسعرها الداخلي "دعما" يجب رفعه!
حتى الآن وأثناء الأزمة الراهنة فمازال صندوق النقد الدولي يطالب بتحرير سعر الوقود والكهرباء بالكامل وصولا للسعر العالمي، وهو ما كان سببا فيما مضى وسيكون سببا فيما سيأتي من غلاء فاحش في أسعار جميع المنتجات، حتى لو كنا نحن الذين ننتج الغاز والبترول من أرضنا، وتكلفته ليس إلا جزءا ضئيلا من سعر بيعه! وتتضح خرافة السعر العالمي حينما ننظر إلى سعر قوة العمل، أي الأجور، في مصر: فالحد الأدنى للأجور في مصر، 2400 جنيه شهريا أو 28800 جنيه سنويا، تساوي حوالي 1500 دولار سنويا، أي مجرد عشر الأجور في الولايات المتحدة الأمريكية، وأقل من العشر في أوروبا الغربية. ومع ذلك يطالب الصندوق بأن يدفع المواطن هنا نفس سعر الطاقة الذي يدفعه المواطن الأمريكي! فلا عجب إذن أن أدى تطبيق برامج إصلاح صندوق النقد الدولي التي تم تطبيقها مع كل اتفاقية قرض سابقة إلى أن أصبح ثلث السكان تحت خط الفقر الأول، وثلثيهم تحت خط الفقر الأول والثاني!
تطبيقا لتلك القاعدة يعاير بعض ممثلي الحكومة الآن شعبنا بأن سعر الغاز عندنا أصبح عشر سعره العالي بينما لابد من التقشف الداخلي وزيادة تصدير الغاز من أجل العملة الصعبة. الغاز والثروات الطبيعية ملك للشعب وليس للحكومة، وليس لها حرية أن تبيعها على أساس المكسب وفقا لنظرية الفرصة البديلة! لم يسمع هؤلاء عن "قاعدة أخرى" تسمى الإنسان قبل الأرباح!
خامسا: مقولة أن "الحل الوحيد أمامنا في أزمتنا الحالية هو الاقتراض من الصندوق". في الحقيقة هذا هو الحل السهل الذي تطبقه الحكومات المصرية منذ عام 1977. لقد كانت انتفاضة الخبز في يناير من هذا العام هي النتيجة المباشرة للأخذ بتوصيات صندوق النقد الدولي من أجل قرض 186 مليون دولار، ونتج عن تطبيقها رفع سعر الخبز والغاز والكهرباء وغيرها فقاد للانتفاضة الشهيرة. وعند مراجعة مسارنا مع الصندوق وتنفيذ سياساته طوال نحو نصف قرن سنجد أن أهم توصياته تقع في 3 مجالات:
أولا: السياسات التقشفية بتقليل الإنفاق الحكومي على الأجور والدعم (كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي)، وتقليل الإنفاق على الخدمات الاجتماعية من تعليم وصحة.
ثانيا: خصخصة أملاك الدولة، وبيع القطاع العام، وخصخصة الخدمات
ثالثا: تخفيض قيمة العملة، وتحرير التداول بها، ورفع سعر الفائدة.
وفي ظل تلك السياسات رأينا النتيجة المتمثلة في زيادة الاستقطاب المجتمعي في توزيع الثروة بزيادة نسبة الفقر، مع زيادة الغنى الفاحش ومظاهر الإسراف الباهظة. رأينا أيضا فقدان أصول معظم شركات القطاع العام، وخصخصة الخدمات، وتدهور قيمة العملة. لقد بدأ مسار الانفتاح والدولار يساوي نحو 40 قرشا، والآن سعر الدولار يتجه إلى العشرين جنيها، أي أن الجنيه المصري قد فقد 98 من قوته وأصبح لا يساوى سوى 2% من قيمته بالنسبة للدولار عند بداية الانفتاح، أي زاد سعر الدولار 50 ضعفا خلال خمسين سنة من الانفتاح!
وأمامنا مثل في الأزمة الحالية، التي لابد وأن يدفعنا تأمل دروسها إلى مراجعة السياسات المسئولة وصياغة سياسات بديلة للخروج من الأزمة؛ فمنذ أواخر العام الماضي وخلال بضعة شهور حدث خروج سريع لعشرين مليار دولار من الأموال الساخنة التي ِقَدمت للمضاربة في البورصة. وبالطبع يحتاج هؤلاء المستثمرون إلى تحويل هذا المبلغ الضخم إلى الخارج بالدولار. وإذا أضفنا على هذا احتياجاتنا العادية للدولار من أجل استيراد الغذاء ومستلزمات الإنتاج، وكذلك لسداد أقساط وفوائد الديون المستحقة علينا، لأدى ذلك إلى تآكل كامل الاحتياطي النقدي للدولة الذي يساوى تقريبا قيمة الاحتياطي، أي حوالي 40 مليار دولار! كما يهدد هذا الدولة المصرية بخطر الإفلاس إذا عجزت عن تدبير النقد الأجنبي الكافي لمواجهة تلك الالتزامات. هذا مثال على أثر تحويل تلك الأموال الساخنة المضاربة التي تخرج من الاستثمار (والكثير منها في القروض الدولية الدولارية) عند وجود أي أزمة داخلية أو خارجية.
تمثل الحل السريع في لجوء مصر إلى الدول الخليجية لمعاونتها في التغلب على أزمة العملة الصعبة، وبالفعل تعهدت السعودية والإمارات وقطر بتخصيص 22 مليار دولار لمصر، منها خمس مليارات وديعة سعودية تستحق أداؤها عام 2026، والباقي، أي 17 مليار دولار يخص قطر منها خمسة بلايين دولار، والإمارات بليوني دولار، والسعودية عشرة مليارات دولار، فتم تخصيصها لشراء أصول ثمينة في مصر، بالذات من قبل صناديق الاستثمار السعودي والإماراتي. نتيجة لذلك تم خلال الشهور القليلة الماضية بيع شركات: سماد أبو قير (من أكبر عشر شركات أسمدة في العالم) وسماد موبكو، وفي المجال المالي بيع حصة في البنك التجاري الدولي وشركة فوري لتكنولوجيا البنوك والمدفوعات الإلكترونية، وشركتي الجيش صافي للمياه والوطنية للوقود.
وفي مارس الماضي تقدمت مصر بطلب قرض جديد من صندوق النقد الدولي، وبدأت تباشير تنفيذ قروضه متمثلة في رفع أسعار الوقود، ورفع سعر تذاكر المترو والتراجع فيها ولكن إلى حين (حيث تحدثوا عن تأخير تنفيذها وليس إلغاؤها). كما تعلن الحكومة عن نية خصخصة ما قيمته 40 مليار دولار خلال أربع سنوات من أصول إنتاجية وخدمية! ويتردد أن الحوار الآن يدور حول تخفيض ضخم لسعر الجنيه قال البعض تخفيضه ب 25% من قيمته، ومطالبة الصندوق بإلغاء دعم الطاقة والغذاء شاملا رغيف الخبز كليا ورفض الحكومة لإدراكها ما يمكن أن يسببه هذا من مشاكل في الاستقرار الاجتماعي، وبالتالي فهي تدعو كبديل لهذا إلى الرفع التدريجي!
والبديل في رأينا يتمثل في رفض الاستمرار في زيادة الاستدانة وخصخصة الأصول الإنتاجية والمرافق الخدمية، بالذات الاستراتيجية منها. والمقابل هو تعبئة الموارد المحلية وفق خطة تقشفية مؤقتة لمدة ثلاث سنوات، تقشفية على الأغنياء وأصحاب الدخول العالية كما أوضحنا، وتغيير الهيكل الضريبي كما أوضحنا. ولابد أن يقترن هذا بتعبئة طاقات الشعب في مواجهة الأزمة بالحرص على توفير مستوى لائق للحياة من خلال هيكل أجور عادل وخدمات اجتماعية جيدة خصوصا في مجالي التعليم والصحة. أيضا لابد من مراجعة السياسات النقدية التي أدت إلى تلك النتيجة.
إن أزمة الدولارات التي دفعتنا للاستدانة والخصخصة تحتاج منا لإخضاع الدولار للرقابة، وتجميع الموارد الدولارية وحصرها في البنوك والصرف منها فقط بإشراف البنك المركزي وفي البنود التي يقرها. يقتضي هذا وقف استيراد كل سلع الترف من سيارات فارهة وأكل قطط وكلاب وغيرها، وهذا ممكن أيضا وفقا لسياسات منظمة التجارة العالمية التي تجيز هذا في حالة الأزمة وبشرط ربطه بمدة معينة، واتخاذ تلك السياسة في فترة تجاوز عنق الزجاجة في الأزمة لمدة 3 سنوات ممكن جدا.
ويتضمن هذا أيضا وضع القيود على حرية حركة الأموال الساخنة التي تأتي من أجل المضاربة في البورصة وتخرج من مصر عند وجود أي مشكلة عالمية أو داخلية. إن منع المضاربة ليس إلغاءً للانفتاح، ولكن تقييده. ونظام الرقابة على الصرف، الذي أقرته مصر بالقانون رقم 80 لسنة 1947 في عهد حكومة النقراشي، وفي أزمة ما بعد الحرب العالمية الثانية (وكانت أقل حدة من الأزمة الحالية) شمل مصدري القطن (قطاع خاص) بإيداع حصيلتهم الدولارية في البنك واستلام مقابلها بالعملة المصرية مع منحهم امتيازات محدودة في الاستيراد، وعدم الصرف من تلك الحصيلة الدولارية إلا بإقرار الحكومة. وما أحوجنا الآن إلى مثل هذا الإجراء. كما يجب منع شركات الصرافة، التي تحقق أرباحا طائلة من المضاربة على قيمة العملة. علينا مركزة الموارد من العملة الأجنبية والتصرف فيها بحكمة ووفق أولويات واضحة، لكي نتمكن من سداد ديوننا، واستيراد السلع الضرورية فقط، واستبعاد خطر الأموال الساخنة المضاربة.

وفي الختام نركز على أن خلاصة ما نهدف إليه هو تجاوز الأزمة الراهنة بأخف الأضرار، عن طريق سياسات تقشفية حكومية ضد الإسراف الحكومي، ووقف المشروعات غير الضرورية ضرورة عاجلة حتى تستقر الأمور، مثل مشاريع الطرق والكباري وغيرها، وتحميل عبء الأزمة للقادرين من خلال نظام للضرائب التصاعدية وضرائب على مظاهر الاستهلاك السفيه، وضريبة التركات، وضريبة ثروة لمرة واحدة. ويترافق هذا مع توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة للشعب والاهتمام بالخدمات الأساسية وعلى رأسها التعليم والصحة.
كما نؤكد على أهمية السياسات النقدية القائمة على تقييد الصرف الأجنبي وإخضاعه للرقابة لمنع تبديده وتحديد أولويات صارمة لإنفاق ما هو متوافر منه. ولكن كل هذا لن يستمر ما لم يصاحبه سياسة تطوير الإنتاج الصناعي والزراعي، والسعي للاكتفاء الذاتي الغذائي، وتطوير التصنيع بالذات في مجال صناعات السلع الوسيطة والإنتاجية والآلات. إن كل ما سبق هو ملامح لرؤية لحل الأزمة العاجلة، ولابد من فتح حوار ديمقراطي حولها بين كل من الحكومة وكل القوى بما فيها المستثمرين والنقابات والأحزاب.
إن بناء إجماع وطني على سياسة للخروج من الأزمة الحالية هو ضرورة استراتيجية لتحقيق الرضاء الشعبي والاستقرار الاجتماعي. وينبني هذا في رأينا على إقرار سياسة رفض التوسع الضخم في القروض والخصخصة، ورفض توصيات صندوق النقد الدولي ومؤسسات التمويل الدولية، والاعتماد على الذات لتوفير الموارد، ونقل عبئ الأزمة على الأغنياء وليس على الفقراء الذين يجب الحرص على توفير حياة كريمة لهم. أما على المستوى الاستراتيجي والبدائل الاستراتيجية فلها حديث آخر، وأول الطريق هو التصدي الصحيح والعاجل للأزمة الراهنة وإنقاذ مصر منها بأخف الأضرار.
دكتور محمد حسن خليل
1 سبتمبر 2022



#محمد_حسن_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وثيقة ملكية الدولة في مصر ومستقبل التنمية
- ليبيا بين الانتخابات والتقسيم الإخواني
- مجلس النواب اللبناني الجديد والثورة والانهيار
- تونس: قيس سعيد، والنهضة، والثورة، والشعب!
- الانتخابات الرئاسية مرآة للأزمة المجتمعية في فرنسا
- قراءة في الموازنة العامة لمصر للعام المالي 2022- 2023
- خطاب الرئيس السيسي والأزمة المجتمعية والحل المطروح
- الحرب في أوكرانيا وعلى ساحة العالم
- الجزر النيلية في مصر والاستثمار العقاري
- القاهرة من جديد وتخطيط المدن
- ميزان المدفوعات المصري بين الديون والخصخصة
- بدايات خصخصة شركة أبو قير للأسمدة
- قراءة في تقرير التنمية البشرية في مصر 2021 مع التركيز على ال ...
- مرحلة حرجة من عمر الثورة السودانية
- إيران والغرب والعرب
- أفغانستان بين النجاح والفشل
- نظرة سريعة على وباء كوفيد 19 في منتصف عام 2021
- حرائق، فيضانات، أعاصير
- الحق في الحياة والأجور في مصر
- ملاحظات على أثر أزمة كورونا على السياسات الاقتصادية العالمية


المزيد.....




- السعودية تعلن ضبط أكثر من 25 شركة وهمية تسوق للحج التجاري با ...
- اسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت إلى كييف ومركبات مدرعة ودب ...
- السعودية.. إغلاق مطعم شهير في الرياض بعد تسمم 15 شخصا (فيديو ...
- حادث جديد يضرب طائرة من طراز -بوينغ- أثناء تحليقها في السماء ...
- كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية
- مجلس جامعة كولومبيا الأمريكية يدعو للتحقيق مع الإدارة بعد اس ...
- عاجل | خليل الحية: تسلمنا في حركة حماس رد الاحتلال على موقف ...
- الحوثيون يعلنون استهداف سفينة نفط بريطانية وإسقاط مسيّرة أمي ...
- بعد الإعلان التركي عن تأجيلها.. البيت الأبيض يعلق على -زيارة ...
- ما الذي يحمله الوفد المصري إلى إسرائيل؟


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد حسن خليل - نرفض حل الأزمة الاقتصادية بزيادة معاناة الشعب والخصخصة