أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداعيات














المزيد.....

توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداعيات


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 12:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


د.حمدى سيد محمد محمود
شهدت الدولة العثمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تحولات جوهرية في بنيتها السياسية والاجتماعية والفكرية، تمثلت في محاولات تحديث واسعة استهدفت مؤسسات الدولة والجيش والإدارة والتعليم. وقد مثلت هذه التحديثات، التي جاءت في ظل ضغوط خارجية متزايدة من القوى الأوروبية، مناخًا ملائمًا لتغلغل الأفكار العلمانية داخل البنية السلطانية، حيث بدأت النخبة العثمانية، المتأثرة بالنموذج الغربي، تتبنى تدريجيًا تصورات جديدة حول مفهوم الدولة، والشرعية، ومصادر القانون، والعلاقة بين الدين والسياسة.

بدأت مظاهر العلمانية تتسلل إلى جسد الدولة العثمانية من خلال سلسلة من الإصلاحات المعروفة باسم "التنظيمات" (1839–1876)، والتي أطلقها سلاطين آل عثمان، أبرزهم السلطان عبد المجيد الأول. فقد نص "خط كلخانة" (1839) و"الخط الهمايوني" (1856) على مبادئ المساواة بين الرعايا المسلمين وغير المسلمين أمام القانون، دون اعتبار للهوية الدينية، وهو ما شكّل نقطة تحول جذرية في نظام الحكم الذي كان يقوم على التفوق الديني للمسلمين بوصفهم "أمة الغلبة" ضمن نظام الملل. كما شهدت هذه الفترة إضعافًا تدريجيًا لموقع الشريعة الإسلامية بوصفها المصدر الأساسي للتشريع، حيث تم إنشاء مجالس قضائية مدنية (عرفية) تسير وفق قوانين وضعية مقتبسة من فرنسا وأوروبا.

وقد تزامنت هذه التوجهات مع صعود تيار من المثقفين والمفكرين العثمانيين المتأثرين بالأفكار الليبرالية الغربية، أمثال نامق كمال وضياء باشا، والذين دافعوا عن مبادئ "الدستورانية" و"القانونية" و"المواطنة" بمعزل عن الانتماء الديني. وأدى هذا المسار إلى إصدار أول دستور عثماني عام 1876، والذي جاء ليحد من السلطات المطلقة للسلطان، ويؤسس لنظام برلماني، في خطوة وصفها بعض المؤرخين بأنها تأصيل دستوري أولي للعلمانية السياسية داخل الفضاء الإسلامي.

لكنّ توغل العلمانية لم يكن مجرد قرار داخلي طوعي، بل جاء في إطار بنية أوسع من الضغوط الاستعمارية الغربية، التي مارست نفوذًا واسعًا على السلطنة، خصوصًا من خلال الامتيازات الأجنبية، ومطالب حماية الأقليات المسيحية، وفرض شروط القروض المالية والسيطرة الاقتصادية. وقد أدى هذا التداخل بين الضغوط الخارجية والتوجهات الداخلية إلى تنامي النزعة التغريبية في أوساط النخبة، لا سيما في عهد "جمعية الاتحاد والترقي" التي سيطرت على الدولة منذ 1908، وتبنت رؤى قومية علمانية راديكالية، بلغت ذروتها مع سياسات التتريك والإقصاء الديني.

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، وسقوط العاصمة إسطنبول تحت الاحتلال، والانهيار الكامل للنظام السلطاني، ظهرت الجمهورية التركية الحديثة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي قاد عملية علمنة شاملة جذرية، ألغى فيها الخلافة الإسلامية، وحلّ المحاكم الشرعية، وأغلق المدارس الدينية، وفرض الأبجدية اللاتينية، والزي الغربي، والتشريعات الوضعية الكاملة. ويمكن القول إن هذا التحول لم يكن مفاجئًا، بل كان امتدادًا منطقيًا لمسار طويل من العلمنة التدريجية بدأ منذ أوائل القرن التاسع عشر.

هل أدى توغل العلمانية إلى سقوط الدولة العثمانية؟

يثير هذا السؤال جدلًا عميقًا بين المؤرخين، فبينما يرى بعض الباحثين أن العلمانية لم تكن سببًا مباشرًا في سقوط الدولة، وإنما نتيجة للأزمات البنيوية والسياسية والعسكرية التي كانت تعصف بها، يرى آخرون أن تبني العلمانية ساهم في تفكيك المشروعية الدينية التي كانت تمثل الأساس الأيديولوجي لوحدة الإمبراطورية. فمن جهة، أدت السياسات العلمانية، خاصة تلك التي مست موقع الإسلام في الدولة، إلى إضعاف الرابط الذي كان يجمع بين شعوب الإمبراطورية المختلفة، ما أدى إلى تصاعد النزعات القومية والانفصالية. ومن جهة أخرى، خلقت العلمانية فجوة بين السلطة والجماهير الإسلامية التقليدية، التي شعرت بأن النظام العثماني قد خان رسالته الإسلامية، ما زاد من فقدانه للشرعية في أعين قطاعات واسعة من المسلمين.

وفي المحصلة، يمكن القول إن توغل العلمانية لم يكن العامل الوحيد في سقوط الدولة العثمانية، لكنه ساهم – بلا شك – في تسريع الانهيار عبر إضعاف وحدة الإمبراطورية، وضرب أسس شرعيتها الإسلامية، وإثارة تناقضات داخلية حول الهوية والمصير. وقد شكّل هذا التحول بداية لمرحلة جديدة من تاريخ العالم الإسلامي، انتقلت فيه الخلافة من موقع القيادة إلى موقع الغياب، وفتحت الباب أمام نموذج الدولة القومية العلمانية الذي ما زال موضوع جدل حتى اليوم.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن ال ...
- المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الو ...
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...
- ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين و ...
- استثمار في الخراب : كيف تبتلع الحروب مقومات التنمية في المجت ...
- تفكيك المقدس: ديكارت في مواجهة الميتافيزيقا
- نيتشه و مابعد الحداثة: من موت الإله إلى تشظي المعنى
- العلمانية والإسلاموفوبيا: جدلية التنوير والإقصاء
- الذكاء الاصطناعي في مواجهة تغير المناخ: أمل تقني في معركة مص ...
- عصر الخوازميات الناطقة: الثقافة الرقمية وتحولات الإعلام


المزيد.....




- -بلادنا ليست للبيع-.. رد مباشر من رئيس وزراء كندا على طلب تر ...
- ترامب: الولايات المتحدة ستوقف غاراتها على الحوثيين في اليمن ...
- رئيس الحكومة اللبنانية: لبنان عاد إلى الحضن العربي
- هنغاريا تعارض خطة المفوضية الأوروبية بوقف إمدادات الغاز الرو ...
- اتهامات بوجود وقود -مغشوش- في مصر والحكومة تنفي، ما القصة؟
- فريدريش ميرتس يؤدي اليمين الدستورية كمستشار جديد لألمانيا
- -يديعوت أحرونوت-: مصر تلقت مقترحا أمريكيا لوقف إطلاق النار ف ...
- مراسل RT: مقتل 18 وإصابة العشرات بقصف إسرائيلي استهدف مدرسة ...
- سوريا.. إحباط محاولة تهريب أكثر من 800 ألف حبة مخدّرة في محا ...
- -وثق جريمته في فيديو-.. تلميذ يعترف بإضرام النار في معهده لع ...


المزيد.....

- الحرب الأهليةحرب على الدولة / محمد علي مقلد
- خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية / احمد صالح سلوم
- دونالد ترامب - النص الكامل / جيلاني الهمامي
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4 / عبد الرحمان النوضة
- فهم حضارة العالم المعاصر / د. لبيب سلطان
- حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3 / عبد الرحمان النوضة
- سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا- / نعوم تشومسكي
- العولمة المتوحشة / فلاح أمين الرهيمي
- أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا ... / جيلاني الهمامي
- قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام / شريف عبد الرزاق


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - توغل العلمانية في الدولة العثمانية: المسار، العوامل، والتداعيات