أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن الهيمنة الرمزية














المزيد.....

تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن الهيمنة الرمزية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8333 - 2025 / 5 / 5 - 15:01
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


د.حمدي سيد محمد محمود
يعد كتاب قلق الجندر: النسوية وتخريب الهوية (Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity)، الذي نُشر لأول مرة عام 1990، واحدًا من أبرز النصوص التأسيسية في النظرية النسوية ما بعد البنيوية، بل ويُنظر إليه على نطاق واسع كأحد الأعمدة النظرية التي أعادت صياغة فهمنا للجندر، والهوية، والسياسة الجسدية. الكاتبة جوديث بتلر، الفيلسوفة الأمريكية وأستاذة النظرية المقارنة، تخوض في هذا العمل مغامرة فكرية تتحدى الأسس الميتافيزيقية التي بُنيت عليها التصورات التقليدية حول الهوية الجنسية، وتكشف عن الطابع المُركَّب، الأدائي، والمتغير لما نسميه "النوع الاجتماعي" أو الجندر.

منذ الصفحات الأولى، تعمل بتلر على تفكيك المفاهيم الجوهرانية للهوية، وتنقض الفكرة القائلة بأن "الجنس البيولوجي" هو معطى طبيعي ثابت، وأن "الجندر" ما هو إلا تعبير اجتماعي مشتق منه. على العكس من ذلك، ترى بتلر أن كلًا من "الجنس" و"الجندر" هما بناءان ثقافيان، وأن التمييز بينهما يقوم على افتراضات سلطوية تخدم أنظمة الهيمنة البطريركية والهيترو normativity (الغيرية الجنسية بوصفها معيارًا). إنها تصر على أن الجندر لا يُعبَّر عنه من خلال "هوية داخلية" جوهرية، بل يُؤدَّى ويُمارس مرارًا وتكرارًا من خلال أفعال وسلوكيات ولغة تنتج مع الوقت وهم الاستقرار والجوهر.

تستعين بتلر في تحليلها بجملة من المفكرين مثل ميشيل فوكو، جاك ديريدا، سيمون دي بوفوار، ولويس ألتوسير، لتعيد قراءة تاريخ الفكر النسوي والنظرية الكويرية من منظور راديكالي. وفي هذا السياق، تُوجّه نقدًا قويًا إلى الاتجاهات النسوية التي تفترض وجود "هوية نسائية" موحدة وثابتة. وهي ترى أن مثل هذه التصورات تنطوي على إقصاء للنساء غير المنتميات إلى التصور المعياري للأنوثة، كما تعيد إنتاج آليات السلطة ذاتها التي تسعى النسوية إلى مقاومتها. إنها تدعو إلى نوع من النسوية اللاهوياتية (post-identity feminism) التي تعترف بتعدد التجارب الجندرية وتداخلها مع قوى العرق، الطبقة، والجنس.

أحد المفاهيم المركزية التي تبلورها بتلر في هذا الكتاب هو "الأداء الجندري" (gender performativity). فالجندر، بحسب بتلر، ليس شيئًا "نكونه"، بل شيئًا "نفعله" باستمرار. إنه نتاج أفعال وتكرارات تُفرض اجتماعيًا وتُمارَس ثقافيًا، مما يعني أن هوية الفرد الجندرية ليست معطى سابقًا بل نتيجة عملية أدائية تخضع للضبط والانضباط. وبهذا، يصبح الجندر قابلًا للتخريب (subversion) من خلال أشكال أداء مغايرة تقوض الهويات التقليدية وتفتح المجال لظهور تشكيلات جديدة من الوجود الإنساني. وهذا ما يجعل من عمل بتلر نصًا تحريضيًا في جوهره، يفتح الباب أمام مقاومة الأنظمة القمعية للهوية من خلال استراتيجيات "العبث"، "السخرية"، و"التحوير".

ينطوي الكتاب كذلك على جانب فلسفي عميق في تفكيك العلاقة بين اللغة، السلطة، والجسد. وبتلر، المتأثرة بالفكر التفكيكي، توضح كيف أن اللغة ليست أداة محايدة بل ساحة صراع سلطوي تحدد من يُعترف به كذات قابلة للفهم الاجتماعي ومن يُقصى. إنها تُظهر كيف تُصاغ الهويات من خلال خطابات تنظيمية تحكم الظهور، وتفرض أشكالًا معينة من الحياة بوصفها "طبيعية" في حين تنبذ ما سواها بوصفه "منحرفًا" أو "غير قابل للتمثيل". في هذا السياق، يصبح العمل الفلسفي والسياسي معًا هو مساءلة شروط الاعتراف وفتح المجال أمام "الهويات غير القابلة للتسمية".

إن قلق الجندر ليس فقط مساهمة نظرية بارزة في مجالات النسوية، ودراسات الجندر، والنظرية الكويرية، بل هو أيضًا نقد سياسي لأشكال الهيمنة التي تتخفى خلف الخطابات الليبرالية والإنسانوية. إنه ينبهنا إلى أن النضال من أجل العدالة الجندرية لا يكون فقط من خلال "تمثيل" النساء، بل من خلال إعادة التفكير في معنى "المرأة" ذاته وفي أنماط السلطة التي تُنتج هذا المعنى. ولذلك، فإن أثر هذا العمل يتجاوز سياقه الأكاديمي ليصل إلى النشاط الحقوقي، والحركات الاجتماعية، وحتى الممارسات الثقافية اليومية.

خلاصة القول، إن قلق الجندر كتاب يهز اليقينيات، ويكشف هشاشة الهويات التي اعتدنا اعتبارها مستقرة. إنه نص يتحدى القارئ في كل صفحة، ويدفعه إلى إعادة التفكير في ذاته، جسده، ولغته. إنه ليس كتابًا يُقرأ فحسب، بل يُعاش، ويُتحدى، ويُعاد تأويله باستمرار في ظل عالم يعيد إنتاج "الطبيعي" بوصفه نتيجة قهرية للسلطة. وبهذا، تظل جوديث بتلر واحدة من أكثر الأصوات الفلسفية تأثيرًا في زمننا، وقلق الجندر أحد أكثر الكتب إثارة للقلق الفكري والتحرر النقدي في آنٍ واحد.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المادية الجدلية بين هيغل وماركس: من المثالية المطلقة إلى الو ...
- توما الأكويني والدعوات البابوية: الأسس اللاهوتية للتدخل في ش ...
- نظرة رواد الفلسفة الأوروبية للمرأة: بين الإقصاء النظري والتش ...
- العمق الاستراتيجي للدولة المصرية بين نقاط القوة والضعف: قراء ...
- الصحافة في زمن الخوازميات: إستعادة الضمير الأخلاقي للتقنيات ...
- من الإيمان إلى العدم: سردية الغياب في الفلسفة الغربية الحديث ...
- البيولوجيا السياسية: آليات السلطة على الجسد والحياة في الدول ...
- تقاطع السلطة والمعرفة والسرد في الواقع السياسي العربي الراهن
- انفجار المعلومات وتحولات المعرفة: أزمة الإدراك في زمن التدفق ...
- الزمان والمكان في فلسفة كانط: أطر المعرفة وحدود الإدراك
- أنثروبولوجيا العلمانية: تفكيك المقدس وإعادة تشكيل الذات في ز ...
- الاقتصاد الرقمي في العالم العربي: الواقع، التحديات، والآفاق ...
- ترامب والتجارة العالمية : السياسات الخاطئة في مواجهة الصين و ...
- استثمار في الخراب : كيف تبتلع الحروب مقومات التنمية في المجت ...
- تفكيك المقدس: ديكارت في مواجهة الميتافيزيقا
- نيتشه و مابعد الحداثة: من موت الإله إلى تشظي المعنى
- العلمانية والإسلاموفوبيا: جدلية التنوير والإقصاء
- الذكاء الاصطناعي في مواجهة تغير المناخ: أمل تقني في معركة مص ...
- عصر الخوازميات الناطقة: الثقافة الرقمية وتحولات الإعلام
- مستقبل القواعد العسكرية الأجنبية في الوطن العربي في ظل التحو ...


المزيد.....




- ترامب: سكان غزة يتضورون جوعا.. وسنساعدهم ليحصلوا على -بعض ال ...
- عقب ضربة إسرائيل لليمن.. الحوثي يتوعد برد قوي
- الحكومة الفلسطينية ترفض الآلية الإسرائيلية المقترحة لتوزيع ا ...
- طرق فعالة لمحاربة إدمان الحلويات
- ترامب يرجح عقد اتفاق تجاري مع كندا خلال زيارة كارني
- -سي إن إن-: وزير الدفاع الأمريكي يخفض 20% من المناصب القيادي ...
- حزب -إصلاح المملكة المتحدة- البريطاني يحظر رفع الأعلام الأوك ...
- وزير الاتصالات السوري يبحث مع السفير السعودي سبل تطوير التعا ...
- وسائل إعلام: ترامب لا يشارك في الجهود لوقف إطلاق النار بين إ ...
- أسرار تحسين ملامح الوجه بأساليب بسيطة وفعّالة


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - تفكيك الجندر وتخريب الهوية: جوديث بتلر وسؤال الذات في زمن الهيمنة الرمزية